تظل المشكلة الرئيسة لأقطاب التصوف الإسلامي مع العامة هي الشيفرة اللغوية التي تقتنص الرمزية وحدها وتميل طوعًا أم كرهًا إلى استخدام خطاب لغوي غير متحفي (نسبة إلى المتحف) أو مؤسسي تداولي…
الأستاذ الدكتور بليغ حمدي
اللغة والرمزية والتصوف
تظل المشكلة الرئيسة لأقطاب التصوف الإسلامي مع العامة هي الشيفرة اللغوية التي تقتنص الرمزية وحدها وتميل طوعًا أم كرهًا إلى استخدام خطاب لغوي غير متحفي (نسبة إلى المتحف) أو مؤسسي تداولي، بل هي لغة تلجأ عادة إلى الاحتفاظ بأسرار دلالاتها الاستثنائية وكأنها تشكل نصًّا غير مواز للغة الفصيحة المؤسسية أو لغة الشارع الذي يحترف التلقي السلبي بامتياز. هذا ما يمكن أن نتلمسه بوضوح في الخطاب الصوفي عند محي الدين بن عربي، والحسين بن منصور الحلاج، والسهروردي، وغيرهم، ولعل متصوفة الإسلام ـ وحدهم ـ استطاعوا أن يتلمسوا خصائص اللغة العربية التي انفردت بها اللغة العربية من اشتقاق ونحت ومشترك لفظي، ورغم أن هذه الخصائص هي سمات ميزت اللغة العربية في استخدامها الفصيح إلا أنها لدى الصوفية شكلت مراوغة لغوية أمكنت من الفرار من شره التصنيف والقنص تارة، ومن مشاكلة الطرح الفكري داخل العقل تارة أخرى.
واللغة التي تبدو رمزية وغامضة معظم الوقت، وربما رمزية النظم وغموضه يعد من أسرار التصوف؛ حيث إن الذين يعمدون الوصول إلى معارجه لا يتجرعوا مرارة الإخفاق وتعثرات النفس التي تصاحب الفشل في الحياة الاجتماعية، بل هو اختيار قصدي لا يعرف للتصنيف سبيلًا، أو مثلما يعاني إنسان ما متاعب الحياة ويتحمل عثراتها فيلجأ مباشرة صوب الاحتماء بأستار الدين كتوجه ظاهري فقط، أما أولئك الذين ذهبوا للتصوف ليس كطوق نجاة فحسب من فتنة الدنيا وكدرها فإنهم لم يغادروا الدنيا بمشاعرهم نحو نصوص السلف القدماء من أجل اجترارها بل تيقنوا أن بتصوفهم هذا يؤكدون إرادة تحقق العقل وكماله. بل إن معظم أقطاب الصوفية اعتبروا عن جهد وروية أن الإرادة هي جوهر الإنسان نفسه، وبمقتضاها يستطيعون إثبات وجودهم وكنههم، بل إن بعضهم طرح فكرة أن الإرادة هي سبيل الوصول إلى الله I؛ لأنه مطلوبهم.
وربما الصوفي الوحيد الذي استطاع أن يهرب ولو قليلًا من رمزية الاستخدام اللغوي الذي عادة يشير إلى غياب صاحب النص هو النفري صاحب المواقف والمخاطبات، حيث دلل في طرحه الصوفي على وجوده ضد الغياب السمة التي لازمت الكثير من أهل التصوف حتى وإن استعملوا تقنيات المتكلم؛ إلا أن الغياب كان بارزًا مشهودًا. إن اهتمام النفري في المواقف والمخاطبات بالماورائية تعد إرهاصات تمهيدية للمريد بحثًا عن طبيعة التصوف الإسلامي وصولًا إلى غايته، لذلك لم يلجأ النفري في كتابه إلى انزياحات معرفية سابقة أو مبررات لتعبيراته بخلاف ما قام به محي الدين بن عربي في بعض مصنفاته التي قام بعمل شروح قصيرة لها خوفًا من قصر الفهم وسوئه. لكن الكتاب في مجمله والذي يمتاز بلغة رمزية شديدة الترميز والتلميح بغير تصريح أو استطراد في الشرح يحتاج إلى قارئ مثالي يجيد آليات التأويل ويعتبر نفسه أمام نص أجنبي وليس عربيًّا فيستحيل بذلك مترجمًا فنيًّا وليس حرفيًّا له، مع محاولة اجتياز اللغة النصية المباشرة اجتيازًا إلى لغة أخرى غير بائنة بسبب ثراء اللغة الرمزية المتوافرة بكتاب المواقف للنفري.
مرحلة ارتقاء التصوف الإسلامي
ويظل ما بين القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين هو مرحلة ارتقاء التصوف الإسلامي وازدهاره بشهادة مؤرخي التصوف والمهمومين بالتجربة الروحية في الإسلام من المستشرقين، بل يحرص كثير على توصيف هذه المرحلة بأنها العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في مجملها لاسيما منذ خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون الذي أسس في بغداد بيت الحكمة الذي استحال فيما بعد المركز الأبرز لترجمة المئات من الكتب في مختلف صنوف المعرفة والثقافة؛ مما أمكن للثقافة الإسلامية الانفتاح على ثقافات العالم المعاصر آنذاك. وهذا الرفد الثقافي هو الذي نتج عنه وجود آثار فلسفية عريضة وظهور فلاسفة مثل الكندي والفارابي. والتجاوز الثقافي في هذه المرحلة أضفى أبعادًا جديدة على الطرح الصوفي مثل المركزية الكونية والتحليل النفسي والمعرفة وأحوالها.
وفي ظل هذه الثورة الثقافية استطاع التصوف الإسلامي أن ينتقل من مرحلة الشيخ الصوفي الذي يهتم المريدون والمعارضون بأخباره وحكاياه وبعض قطوفه اللغوية القصيرة ومواقفه الشخصية مع العامة والأمراء على السواء، إلى مرحلة جديدة وفارقة في تاريخ التصوف وهي مرحلة تصنيف المؤلفات الكبيرة ذات التخصص، مما أمكن المتخصصون أن يطلقوا على هذين القرنين علم التصوف لكثرة التصنيفات والمؤلفات، ورأينا المصنفات الصوفية التي تجري في موضوع واحد وتقتصر على قضية واحدة بعينها بخلاف ما سبق من تصنيفات كانت تتناول موضوعات وقضايا شتى.
ويمكن توصيف هذه الحقبة الزمنية بأنها ثمة انتقال التصوف من مرحلة إبداع الكلمة والجملة والعبارة إلى مرحلة الخبرة الصوفية الواسعة والشاملة، وربما اتساع دائرة العلوم الإسلامية آنذاك وظهور عواصم عديدة للثقافة الإسلامية وانتشار العلوم الإسلامية وشيوع المدارس الدينية وفتح أبواب الاجتهاد الفقهي مع دعوات تجديد الفكر الديني هو الذي ساعد على ظهور علم التصوف في سلطة مجازه اللغوي.
وكما يشير المستشرق جوزيبي سكاتولين في كتابه القيم ” التجليات الروحية في الإسلام ” أن الغرض الرئيس من تلك المصنفات الصوفية هو الغرض التعليمي، ويؤكد أن هؤلاء الأقطاب أرادو أن يصفوا أمام مريديهم السلوك الصوفي ومراحله المختلفة، ومنازله المتصاعدة ومخاطره المتعددة أيضًا، فضلًا عن أن هذه المصنفات تجد فيها وصفًا وافيًا وشاملًا للطريق الصوفي على مختلف أنواعه ومراحله. ولعل أبرز مؤلفي المصنفات الصوفية في هذا القرن: الحكيم الترمذي، الذي اعتمد على الموقف وطرح السؤال الذي بالضرورة يثير الدهشة ومن ثم اقتناص الوعي والانتباه والإدراك لدى المتلقي المريد، وهذا ما فعله أيضًا النفري في المواقف والمخاطبات، وإذا كان كتاب الحكيم الترمذي ” ختم الأولياء ” يعد مؤلفًا صوفيًّا للخاصة، فإن كتابه ” الرياضة وأدب النفس ” يستحيل من الكتابات الصوفية التي اعتمد فيها على أسس الدين الإسلامي الرئيسة من القرآن والسنة لذا فهو مصنف صوفي لعموم الناس.
فلقد وجد التصوف نفسه في موقف المبرر والمدافع عن التهم التي وجهت للحسين بن منصور الحلاج واتهامه بالفسق ثم بالخروج على التقاليد والأعراف الدينية وأخيرًا بالكفر، فكانت ثمة ضرورة في توضيح موقف التصوف الذي لجأ إلى الاستناد على مصدري الشريعة القرآن والسنة الشريفة، فكانت كل النصوص والطروحات الصوفية لا تخرج عن المصدرين ورد كل فكرة وحال ومقام إليهما، وهذا دفع الكثيرون إلى الاعتراف بأن التصوف لا يخرج عن الدين ولا عن القيم والأخلاق الإسلامية الرشيدة. وسرعان ما تحول المهاجمون إلى منسجمين مع الطرح الصوفي انسجامًا تامًّا، وتستحضر تلك السطور ما قاله الإمام أبو الحسن الشاذلي: “من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله J فهو بدعي “، وقوله: ” إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في جماعة فلا تعبأ به “. والإمام الجنيد يؤكد دومًا على الصلة الوثيقة والعلاقة المتينة بين التصوف والشريعة فقال: ” الطرق كلها مسدودة على الخلق؛ إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقه “.