أخبار عاجلة

أضواء حول السر المستودع في السيدة الزهراء عليها السلام

حقيقة السر المستودع يظهر من خلال عدة احتمالات نحتملها في كونها هي مفاد السر المستودع، ولا نقصد من أن ظهور هذه الاحتمالات يكون بالقطع اليقيني، كلا فإن الأمر أعلى وأجل من أن يظهره قلم، أو يخطر على ذهن كاتب، أو عالم، وانما الأمر يتجاوز المقام...

الدكتور عبدالحليم العزمي

الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية

أضواء حول السر المستودع في السيدة الزهراء عليها السلام

إنَّ من سُنَّةِ الحياةِ أنَّهُ حينما تَيْنَعُ البِنْتُ صِبًا، وتزدهرُ فُتُوَّةً، وَتَبْلُغُ مَبْلَغَ النُّضْجِ لبناتِ حَوَّاءَ، وتُشَارِكُها فى حبِّ الأبِ الغالى زوجةٌ غَيْدَاءُ، أى: نَاعِمَةٌ، عندئذٍ يلوحُ لمن ينظرونَ إلى الصِّلاتِ البشريَّةِ بعيونِ الواقعِ اللاَّحِظَاتِ أنَّ الأوانَ قد آنَ لتَسْتَقِلَّ الابنةُ ببيتٍ جديدٍ.

فبعدَ غزوةِ بَدْرٍ الكُبرى بحوالىْ شهرِ- أي في شهر شوال عام 2ھ

منذ 1443 عامًا- دخلتِ السَّيِّدَةُ عائشةُ بيتَ النَّبِىِّ o، لتشغلَ فيهِ مكانةَ رَبَّةِ الدَّارِ.. وها قد نَضِجَتِ الزَّهْرَاءُ شابَّةَ حَسْنَاءَ، ريَّانَةَ الصِّبَا، حَوْرَاءَ قَمْرَاءَ.. الجَمَالُ كِسَاءٌ، والشَّرَفُ أَصْلٌ، وَالكَمَالُ خُلُقٌ، والفَضْلُ طَبِيعَةُ، والعِزَّةُ تُرَاثٌ.. فهى سليلةُ الفضلِ والعلمِ والسَّجَايَا الخيِّرَةِ، وغايةُ الجمالِ الخَلْقِىِّ والخُلُقِىِّ، ونهايةُ الكمالِ المعنوىِّ والإنسانىِّ، علا شَأْوُهَا، وتألَّقَ نَجْمُهَا؛ لأَنَّها امتازتْ بالنُّضْجِ الفكرىِّ، والرُّشْدِ العقلىِّ، والذِّهْنِ الوَقَّادِ، والذَّكَاءِ الحادِّ، والحُسْنِ والجمالِ فى إشراقَةِ مُحَيَّاها النُّورَانِيَّةِ.

فمن ذا إذًا فى الرِّجالِ لا يطمَحُ إلى مِثْلِهَا حليلَةً، وإن كادَ الطَّامِحُ يُشْبِهُ من يَشِبُّ على أصابعِ قدميْهِ ليلمَسَ بِأَطْرَافِ أنامِلِهِ أنْجُمَ السَّمَاءِ؟. بل ذاكَ أملٌ كأنَّهُ سَرَابٌ.!!

ولكنْ تهافتتْ عليها آمالٌ، وتطلَّعَتْ نحوها عيونٌ، وترامتْ إليها ألْبَابٌ!!، لكنَّ الأَثَرَ لم يُقَدِّمْ لنا سِوَى القليلِ.

لَمْ يَكُنْ تأَخُّرُ كِبَارِ القَوْمِ عَنِ التَّقَدُّمِ لِخِطْبَةِ سيِّدَةِ نساءِ العالمينَ إلاَّ لسببينِ: (الأَوَّلُ: هو الكفاءَةُ، والثَّانى: أنَّها تقومُ على خدمةِ والدِهَا بعدَ وفاةِ أمِّها)، لذلكَ عندما تزوَّجَ رسولُ اللهِ o السَّيِّدَةَ عائشةَ 1 وأصبحَ فى البيتِ من تقومُ بخدمةِ رسولِ اللهِ o، تقدَّمَ لخِطْبَةِ السَّيِّدَةِ الزَّهْرَاءِ B أربعةٌ من أكابرِ المسلمينَ.

هؤلاء الأربعة هم: عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب 4.

أربعةٌ من أكابرِ المسلمينَ، أوْثَقُهُمْ بنبيِّهِمْ صُحْبَةً، وأدناهُمْ إليهِ قُرْبَةً، وأقواهُمْ إيمانًا، وأعلاهُمْ شرفًا، وأعزُّهُمْ مكانًا، قد حجبَ عنهُمُ الأَبُ ابنتَهُ الزَّهْرَاءَ.

أَلِقُصُورٍ فى الفَضْلِ؟ لَيُوشِكُ الواحدُ منهُمْ أن يفضُلَ العُصْبَةَ من الرِّفَاقِ والصِّحَابِ، أم لشُبْهَةٍ فى الولاءِ؟ إنهم ليَتَبَارَوْنَ فى نُصْرَةِ رسالتِهِ، وإخلاصِهِمْ لهُ، بَسْطًا بالبذلِ، وسخاءً فى العطاءِ، لا يَضِنُّونَ بشىءٍ من دمٍ أو جُهْدٍ أو مالٍ.

أم لأنَّهُ شاءَ فاختارَ لها آَخَرَ هو عندَهُ خيرٌ من كُلِّ أُولاَءِ؟ اللهُ سبحانهُ هو الذى شاءَ([1]).. أخرجَ الطَّبَرانِىُّ فى المُعجمِ الكبيرِ، وابنُ حَجَرٍ فى الصَّوَاعِقِ المُحْرِقَةِ، والهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوائدِ، والمُتَّقِى الهِنْدِىُّ فِى كَنْزِ العُمَّالِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فى تاريخِ دِمَشْقَ قَالَ o: (إنَّ اللهَ تباركَ تعالى أَمَرَنِى أَنْ أُزَوِّجَ فَاطِمَةَ من عَلِيٍّ)[2].

الآنَ أشرقَ النَّهَارُ، تلألأَ النُّورُ، تبلَّجَتِ الحقيقةُ سافِرةً بلا حِجَابٍ.. أدركَ الجميعُ أنَّ الزَّهْرَاءَ جَلَّتْ وعَلَتْ عن كُلِّ مجالاتِ التَّنَافُسِ بينَ الأَكْفَاءِ، أيقنوا أنَّ الأمرَ أمانةٌ واجبةُ الأداءِ، وهل من شىءٍ أحقُّ بالأداءِ من كلمةِ السَّمَاءِ؟.

   لماذا الزهراء B؟

السيدة الزهراء من الشخصيات التي كانت حياتها كلها تسير بأوامر إلهية، بداية من تكوينها والحمل بها وولادتها وحياتها وزواجها وحملها وتربيتها لأولادها وإدارتها لشؤون منزلها؛ حتى انتقالها ولقائها برسول الله J في الدار الآخرة، وستستمر أسرارها حتى يوم المحشر كما سنبين في السطور المقبلة.

السيدة الزهراء كانت حاملة لأسرار المصطفى J، بل كانت في ذاتها سر كبير، هي سر حملت أسرارًا، واستودع فيها سر.

من أدعية التوسل الشهيرة في مدرسة أهل البيت: التوسل إلى اللّه تعالى بصيغة: (اللهم إنّي أسألك بفاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسّرّ المستودع فيها)، وهذه الصيغة مروية عن الإمام المجدد الثاني في الإسلام الإمام جعفر الصادق A حيث روي عنه أنّه قال: «إذا أردت أن تستخير اللّه تعالى وتطلب منه أن يهديك إلى الخير فيما تريد الإقدام عليه فقل: «اللهم إنّي…».

حقيقة السر المستودع فيها

أما «السّرّ المستودع فيها» لا يمكننا أن نعرف كنهه وحقيقته، وإلّا لما كان سرًّا، والذي يظهر لنا هو أنّ نوع السّرّ: سرّ كامن في خلقتها وتركيبتها وتكوينها، فهو سرّ مستودع فيها وليس عندها، فإنّ من الأمور المتّفق عليها في مصادر أتباع أهل البيت، وقد رويت في عدد من مصادر السنة أنّ أصل مادّة بدن الصدّيقة الطاهرة الزهراء سلام اللّه عليها ليست من مادّة هذا العالم الدنيوي بل هي من الجنّة ومن أعلى أشجارها وأفضل ثمارها، وأنّ جبريل A أخذ النبيّ J في معراجه – المعراج عند الشيعة في السنة الثالثة بعد البعثة – إلى الجنّة إلى شجرة طوبى وأطعمه من ثمارها، أو أهدي له وهو في الأرض من ثمارها فأكلها فتكوّنت نطفة السيدة فاطمة وحملت بها السيدة خديجة الكبرى سلام اللّه عليها وعلى ابنتها، فقد روى السيوطي ذلك في «الدر المنثور»، والطبراني في «معجمه»، والثعلبي في تفسيره، وغيرهم من كبار علماء السنّة ومحدّثيهم.

فالزهراء سلام اللّه عليها فريدة في تكوينها، وعناصر جسدها الطاهر، ومن الواضح ضرورة التناسب بين الجسم والروح، فإنّ النفس والروح الإنسانيّة مثلًا لا تتناسب مع جسم الحيوان، ولا يمكن أن تحلّ فيه، بل لا بدّ من تسوية الجسم وإعداده إعدادًا خاصًّا ثمّ حلول الروح فيه، قال تعالى: )فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ( ( الحجر: ۲۹).

فالروح لا تحلّ إلّا في بدن تمّت تسويته في أحسن تقويم، وإذا كان بدن الإنسان الاعتيادي مخلوقًا في أحسن تقويم فما ظنّك بالبدن الذي لم تؤخذ عناصره الأصلية من عالم الدنيا والمُلك بل أخذت من عالم الملكوت الأعلى كبدن الصّديقة الطاهرة سلام اللّه عليها، وكيف ستكون النفس والروح التي تناسب مثل هذا البدن وتحلّ فيه؟

إنّ شجرة طوبى شجرة وحيدة منفردة، وقد شاء اللّه تعالى أن يجعل أصل خلقه بنت سيّد أنبيائه وأمّ الأئمة من أعلى ثمار هذه الشجرة الفريدة، فما هي الروح المتناسبة مع هذا البدن التي اختارها اللّه للسيدة فاطمة سلام اللّه عليها؟

إنّها من أسرار اللّه تعالى التي لا نستطيع أن نفهمها، ولكنّنا نفهم منها لماذا ورد أن ندعو اللّه تعالى فنقول: «اللّهم إنّي أسألك بفاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسرّ المستودع فيها».

وهنا الدعاء دعاء بذوات يُقبل الدعاء بهم، ومنهم رسول الله J (النبي) وزوجها وبنيها (الأئمة)، والزهراء هي برزخ ما بين النبوة والإمامة، ولولاها ما انتقل النور من رسول الله Jإلى الأئمة من ذريتها.

نعم إنّ قضية الزهراء سلام اللّه عليها بهذا المستوى من العظمة والأهميّة، غاية الأمر أنّ كلّ إنسان يفهم منها بقدر عقله، ومستوى فكره، ومدى سعة إنائه لتقبّل حقائق هذا الكون، فإنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها.

فبعضهم يفهم من الزهراء سلام اللّه عليها أنّها أمّ نموذجيّة أو زوجة مثاليّة، أو قدوة لنساء العالم، أو.. أو.. وكلّ هذا إنّما هو على حدّ فهمه وشعوره، وعلى قدر عقله.

إلّا أنّ قضية السيدة الزهراء سلام اللّه عليها أعظم من كلّ ذلك بكثير، فعند ما نبحث عن أسرار اللّه المودعة في الروح الفريدة للزهراء سلام اللّه عليها ذات التكوين الجسدي الفريد نصل إلى أن روحها خلقت من نور عظمة اللّه تعالى، وهنا نصل إلى قول الإمام الصادق سلام اللّه عليها: «إنّما سمّيت فاطمة، لأنّ الخَلق فُطموا عن معرفتها»([3]).

فأنّى للخَلق أن يعرفوا فاطمة؟ ليس فقط «الناس» بل «الخلق» الذي يشمل «الإنس» و«الجنّ» و«الملائكة»، فالكلّ مفطومون وعاجزون وقاصرون عن أن ينالوا معرفتها. فأيّ شخصيّة هذه التي عَزَّ مقامها عن أن تنال الخلائق معرفتها؟ لا بدّ لنا من أن نتأمّل في هذا الأمر بل ينبغي أن يتأمّل في ذلك كبار مفكّري الإنسانيّة من أصحاب التفكير الراقي ويتساءلوا عن حقيقة هذه المسألة، فمَن هي السيدة فاطمة؟ وماذا فيها من الغيب والسّرّ الذي جعلها ترتفع عن أن يعرفها أصحاب العقول الراقية؟ وأيّ سّر في شخصيّتها فطم الخلق عن معرفته؟.

إنّ قدر السيدة فاطمة سلام اللّه عليها مجهول عند أهل الأرض وسوف لا يُعرف مقامها؛ حتّى يكون يوم المحشر فيظهر اللّه مقامها العظيم ويفتح لها اعتبارًا غير محدود، يأتيها جبريل فيقول لها: «سلي تعطين حاجتك»، ولا حدّ لهذه الحاجة.

فيكفيها أنه سينادى يوم القيامة: (يا أهل الجمع! غضوا أبصاركم، ونكسوا رؤوسكم؛ حتى تمر فاطمة بنت محمد)، كما روى السيوطي في الجامع الصغير، وقال: حديث صحيح.

إنّ حقيقةً كالحقيقة القائلة: إنّ الزهراء سلام اللّه عليها «حوراء إنسيّة»، ليست مسألة بسيطة، فهي في الوقت الذي هي إنسية ومن الناس ومن عالم المُلك والناسوت، هي حوراء ومن الملكوت الأعلى، ولا غرو ولا عجب في ذلك، فعندما يكون نسيج البدن من أرقى ثمار الجنّة وأنقاها وأصفاها، ويكون الأب خير الخلق، والأمّ خير النساء فأيّ بدن طاهر سيكون هذا البدن؟ ثمّ الروح التي سترتبط بهذا البدن، أيّ روح ستكون؟ إنّها روح الصدّيقة الطاهرة سلام اللّه عليها، فهي ليست امرأة من النساء كما يتصوّر بعض الجهلة السطحيون في التفكير، إنّها جوهر وناموس، وسرّ وجود، وقضيّة فوق ما تقدر عقولنا على استيعابه، بل فوق ما تقدر أذهاننا على تصوّرة وإدراكه.

ولذا فهي «السّرّ»، وفيها «السّرّ»، ولا نعرف بالضبط ما هو هذا «السّرّ»؟ إنّ النبيّ الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي يخضع الأنبياء كلّهم أمام قوله وفعله، عندما يقول عن شجرة طوبى وثمرتها: «لم أرَ في الجنّة أحسن منها، ولا أبيض ورقًا، ولا أطيب ثمرة»، ومعنى «لم أرَ» هو أنّه «لا يوجد»، وإلّا لرآه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فنطفة السيدة فاطمة سلام اللّه عليها جاءت من ثمرة تلك الشجرة.

إذًا: فهذا يعني أنّ أصل بدن السيدة فاطمة هو أنقى ما في الكون، فأيّ روح تناسب ذلك البدن تحلّ فيه؟

فعبارة «الحوراء الإنسيّة» هي العبارة المناسبة للتعريف بشخصية السيدة الزهراء سلام اللّه عليها مع ما في هذه العبارة من أسرار وغوامض.

إن السيدة الزهراء سرّ اللّه الأعظم، فقد كان قلبها سرًّا، وما في ذاك القلب كان سرًّا، وألمها كان سرًّا، ولونها كان سرًّا، وما تحمّلته كان سرًّا، وقدرها كان سرًّا، ومقامها ما زال سرًّا، فهي سرّ في سرّ، وحتّى الروض الذي حوى جثمانها الطاهر سرّ.

معنى السر المستودع

خلال عرض الروايات التي تقول: إن الأسرار التي كان يحملها أهل البيت لا يتحملها إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للايمان، أي من خلال عرض هذه الروايات الواردة في حمل أسرار الأئمة وأنه لا يحملها إلا الممتحن، ومطابقتها مع الزيارة الخاصة بالصديقة الطاهرة والتي تقول: «السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك صابرة» يظهر لنا من خلال هذه المطابقة أن العبد الممتحن هو الوحيد الذي يستطيع حمل الأسرار والعلوم الربانية، ولذلك أطلق مولانا السيد عز الدين ماضي أبو العزائم على والده مولانا السيد أحمد (الإمام الممتحن)؛ لأنه حامل السر الذي جاء في قول الإمام المجدد أبي العزائم 7:

وهناك سر غامض لا يكشفن

إلا لبدل نال ســــــــر مقامي

باب لفيض السر ميزاب لــه

متحقق بإرادتي ومرامـــــي

فافهم تغنم، فإن في الأمر إشارات لا يسع المقام أن يُظهرها من خلال القلم أو الكتاب.

أما حقيقة السر المستودع فيظهر من خلال عدة احتمالات نحتملها في كونها هي مفاد السر المستودع، ولا نقصد من أن ظهور هذه الاحتمالات يكون بالقطع اليقيني، كلا فإن الأمر أعلى وأجل من أن يظهره قلم، أو يخطر على ذهن كاتب، أو عالم، وانما الأمر يتجاوز المقام، فإن من الأسرار التي يمتلكها أهل البيت D ما لم يخطر على بال بشر، وكيف لا وهم الذين اصطفاهم الله تعالى ليكونوا الدالين على مرضاته وهم الصراط الأقوم، أما هذه الاحتمالات فلها شواهد ولها قرائن تدل عليها، ولا يعني أنها هي السر المستودع في السيدة فاطمة B، بل نترك ذلك للمؤمن لكي يتبحر في عرفان الصديقة الطاهرة سلام الله عليها عسى ولعل يصل الىٰ حقيقة الأمر. أما هذه الاحتمالات مع بعض القرائن والشواهد عليها:

هل السر المستودع هو إمام أهل البيت في آخر الزمان؟

قد يكون السر هو إمام أهل البيت الذي سوف يُظهِر الله الدين كله على يديه في آخر الزمان، لكون أن الزهراء B جدّته، وخصوصًا أن الأئمة من ولدها، فعليه قد يكون السر الذي سوف يُظهِرهُ الله في وقته هو الإمام الحجة، ويدل على كون المهدي هو من ولد فاطمة B، في الحديث المروي عن أبي أيوب الأنصاري والذي من جملته كان الخطاب للسيدة فاطمة B… عن رسول الله J … «ومنا سبطا هذه الأمة وسيّدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وهما ابناك، والذي نفسي بيده منا مهدي هذه الأمة وهو من ولدك»([4]).

وعن أُم سلمة، قالت: سمعت رسول الله J يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»([5]).

وقد يرد على هذا الاحتمال بأنه إذا كان المهدي سرًّا من الأسرار المستودعة في السيدة فاطمة في ذلك الزمان ولم يعرف ولم يُظهر لأحدنا فإن هذا القول الآن يصبح منتفي لكون مسألة الإمام المهدي والوعد الالهي فيه أصبحت من المتسالمات عند أكثر المسلمين، هذا من جهة، وكون الدعاء يقول: اللهم إني أتوسل بفاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها… ولفظة: بنيها) تشمل كل أبناء الزهراء، والدعاء في ختامه يقول: والسر المستودع فيها، فإنه لا معنى أن يتوسل المؤمن بالسر المستودع الذي يكون المهدي وفي نفس الوقت يتوسل ببنيها، الذي هو منهم ومشترك معهم، وربما يجاب أنّه من باب ذكر الخاص بعد العام؛ ليفيد الحصر أو الاختصاص؟!!!.

هل السر المستودع هو ولاية وإمامة أهل البيت؟

قد يكون السر المستودع إشارة الىٰ أن ولاية الله تعالى سوف تكون في ولد السيدة فاطمة وأن الأئمة منها سلام الله عليها، وقد وردت عدة شواهد روائية تدل على أن الأئمة من ولد السيدة فاطمة B، وأن الولاية فيهم، والإمامة منحصرة في وجودهم المبارك، وهذا ما أثبته القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويكفي في إثبات ولايتهم ما جاء في كتاب الغدير للأميني، ولكن ننقل لك بعض الشواهد في هذا الأمر المهم، والتي كان منها ما جاء عن أمير المؤمنين A عن النبي J في حديث طويل قال: «إن الله عز وجل نظر إلى الأرض ثالثة فاختار منها أحد عشر إمامًا… وأمّهم فاطمة ابنتي»([6]).

وفي حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «أشهد بالله لقد دخلت على فاطمة بنت رسول الله J لأهنئها بولدها الحسين، فإذا بيدها لوح أخضر من زبرجدة خضراء فيه كتاب أنور من الشمس… فقلت: ما هذا يا بنت رسول الله؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله عز وجل إلىٰ أبي، فيه اسم أبي واسم بعلي واسم الأوصياء بعدي من ولدي، فسألتها أن تدفعه إلي لأنسخه؛ ففعلت…»([7]).

وهذا الاحتمال يرد عليه بكون الدعاء، يقول: بفاطمة… وبنيها، والسر المستودع فيها، فيكون تكرار للقسم بالأئمة الذين هم بنيها، وكذلك بالسر المستودع الذي هو الأئمة.

هل السر المستودع هو أمر أهل البيت ورسالتهم؟

قد يكون السر المستودع هو أمرهم كما في بصائر الدرجات عن الإمام الصادق A: «إن أمرنا سرّ في سر، وسر مستتر في سر، وسرّ لا يفيده إلا سرّ، وسرّ على سرّ، وسرّ مقنع بسر، وهو الحق وحق الحق، وهو الظاهر وباطن الظاهر، وباطن الباطن».

وقال الإمام العسكري A: «نحن حجج الله على الخلائق، وأمنا فاطمة حجة الله علينا».

فالزهراء بما أنها أم الأئمة وهي حجة الله عليهم وأنها مفروضة الطاعة على جميع البشر كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة – تكون الأسرار التي هي مودعة فيها معروفة عند الأئمة وهم يحافظون عليها وقائمون بمقتضاها، أو تعلقاتها أو تبليغ دواعيها ومحافظين على هذه الأسرار ولا يظهرونها لأحد؛ إلا من كان محتمل لعلمهم وأسرارهم، ولذلك ظهر الشيء القليل منها، لسلمان وكميل وأبي ذر وغيرهم من المؤمنين الممتحنين، فأمرهم هو سر الله تعالى المودع في السيدة فاطمة B، والأئمة يحافظون على أسرار هذا الأمر، وإن كان تفسير الأمر في الروايات المأثورة هو أمر الولاية، «السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله».

هل السر المستودع هو العلوم الربانية المودعة فيها؟

قد يكون السر المستودع هو العلوم الربانية المودعة في السيدة فاطمة B، وهذا ما نستطيع فهمه من خلال الأحاديث المروية في شأنها سلام الله عليها، حيث كانت المحدَّثة من قبل الملائكة، وكان لها مصحف يتوارثه الأئمة واحدًا بعد واحد، وفيه كل ما يحتاجونه من الذي يجري على البشر، وفيه أسماء الحكام الذين يحكمون وحكموا من زمن آدم الىٰ آخر يوم من الدنيا، وعليه نحتمل أن يكون المصحف هو السر المودع في السيدة فاطمة، وهذا فيه من الأمور التي لم يطلع عليها سوى أبناء الزهراء الأئمة .

وقد قال عنه الإمام الصادق: «أما أنه ليس فيه من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون».

أقول: يظهر من هذا الحديث وأحاديث أخرى مأثورة عن أهل البيت D أن مصحف السيدة فاطمة متوارث من قبل الأئمة وفيه علم ما كان ويكون إلى آخر الزمان، وفيه الحكام الذين يحكمون، والفرق التي تظهر وتبتدع في كل زمان، ويظهر من هذا المصحف أنه من إملاء الإمام علي A حيث كانت الملائكة تحدث الصديقة B بعد انتقال رسول الله J وتملي على الإمام عليٍّ A ويكتبه، وعلى هذا الأساس يكون المصحف متأخر رتبة في الوجود والظهور عن الأساس الذي أسسناه في كون السر المستودع في السيدة فاطمة كان بعد امتحانها قبل الخلق، وكما بيّناه في هذا المقال، فعليه يكون هذا الاحتمال في كون المصحف هو السر المستودع في السيدة فاطمة B بعيد على ضوء الأساس الذي بيناه، لذا تكون العلوم الربانية ليست هي السر المستودع، وخصوصًا نحن نعلم أنه ورد في الرواية الشريفة عن أبي عبد الله A حيث يقول: (إن عندنا والله سرًّا من سرّ الله، وعلم من علم الله…. والله ما كلّف الله ذلك أحدًا غيرنا، ولا استعبد بذلك أحدًا غيرنا…)([8]).

فيتبين من هذه الرواية أن عند أهل البيت بما فيهم السيدة فاطمة B سرًّا من سر الله تعالى وهذا غير العلم، وإلا لكان الإمام يقول العلم نفسه السر، بل إنه فصل بين السر والعلم، فعليه العلم غير السر المستودع فيهم D، وفرَّق بينهما أيضًا الإمام أبو العزائم بقوله:

إن كان ما قلت نورًا

فالسر أعلى وأغلى

هل السر المستودع هو اسم الله الأعظم؟

عندما نراجع الروايات الواردة في شأن أهل البيت D نجد أن مما حظي به الأئمة D، دون غيرهم هو أنهم يحملون اسم الله الأعظم.

والذي يدل على أنهم عندهم اسم الله الأعظم جملة من الروايات الواردة في المقام، منها ما ورد عن جابر عن أبي جعفر A قال: «إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفًا، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخُسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس؛ حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفًا، وحرف واحد عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

وعن النوفلي، عن أبي الحسن صاحب الإمام العسكري A قال: سمعته يقول: «اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفًا، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ ـ أي مملكة سبأ أو مدينة سبأ حيث كان عرش بلقيس ـ فتناول عرش بلقيس؛ حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفًا، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب».

وكذلك التوسل إلى الله تعالىٰ بالسر المستودع، والتوسل لا يكون إلى الله تعالى إلا بالذي يكون له شأن عند الله عز وجل، ونبتغي إليه الوسيلة، فعليه نحتمل أن يكون السر هو اسم الله الأعظم المستودع عند السيدة فاطمة B وأبنائها، وخصوصًا هناك شواهد تدلل على أن هذا الاسم لا يخرجونه إلىٰ أحد، وكما ورد في الحديث المروي في شأن عمر بن حنظلة حيث قال لأبي جعفر الباقر A: «إني أظنُّ أنَّ لي عندك منزلة، قال: أجل، قال: قلت: فإنّ لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: قلت: تعلمني الاسم الأعظم، قال: وتطيقه؟ قلت: نعم، قال: فادخل البيت، قال: فدخل البيت فوضع أبو جعفر A يده على الأرض فأظلم البيت فأرعدت فرايص عمر فقال: ما تقول؟ أعلمك، فقال: لا، قال: فرفع يده فرجع البيت كما كان».

وقال رسول الله J: «إن الله شق لك يا فاطمة اسمًا من أسمائه، وهو الفاطر وأنت فاطمة»([9]) وعليه: فإن السيدة فاطمة وديعة المصطفىٰ، وهي: فاطمة الإنسية، الحوراء مطلع الأنوار العلوية، ومشكاة الولاية وأم الأئمة والحجة عليهم، وعيبة العلم ووعاء المعرفة، الله يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها.

فاللهم بحق فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسر المستودع فيها، رضِّ عنا يا الله أمَّ أبيها، ولا تجعلنا محل غضبها يا رب العالمين.

أسأل الله تعالى أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الربانى، الذى به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.

====================================

([1]) ينظر: (فى نور محمد: فاطمة الزهراء) للدكتور عبد الفتاح عبد المقصود ص363-367.

([2]) ينظر: الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمى ص134، والمعجم الكبير للطبرانى 10/156 ح10305، ومجمع الزوائد للهيثمى 9/330 ح15208، وكنز العمال للمتقى الهندى 11/600 ح32891، وتاريخ دمشق لابن عساكر 42/129.

([3]) بحار الأنوار للمجلسي 43/65.

([4]) بحار الأنوار للمجلسي 28/53.

([5]) رواه ابن ماجة في سننه، ح3735.

([6]) إحقاق الحق لنور الله التستري 5/40.

([7]) بحار الأنوار للمجلسي 36/202.

([8]) الكافي للكليني 1/402.

([9]) بحار الأنوار للمجلسي 37/47.

 

 

 

 

 

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …