أخبار عاجلة

عبقرية الإمام عليٍّ (8)

كانت الظاهرة الكبرى في عصر «علي» ظاهرة اجتماعية خاصة به دون عصور الخلفاء من قبله، ولم تكن في حقيقتها ظاهرة سياسية أو حربية عسكرية، على شدة القتال فيها وغزارة الدماء التي أريقت في حروبها…

المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد

عصر الإمام

كانت الظاهرة الكبرى في عصر «علي» ظاهرة اجتماعية خاصة به دون عصور الخلفاء من قبله، ولم تكن في حقيقتها ظاهرة سياسية أو حربية عسكرية، على شدة القتال فيها وغزارة الدماء التي أريقت في حروبها …

فعصر أبي بكر كان هو العصر الذي نشأت فيه الدولة الإسلامية، وعصر عمر كان هو العصر الذي تمَّ فيه إنشاؤها …

وعصر عثمان كان هو العصر الذي تكوَّن فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فبرز فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها …

أما عصر علي فكان عصرًا عجيبًا بين ما تقدمه وجاء في أعقابه، أو هو لم يكن عجيبًا؛ لأنه جرى على النحو الذي ينبغي أن يجري عليه، فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب؛ لأنه كان بناءً جديدًا في سبيل التمام، ولم يكن بناءً متداعيًا فكله هدم واندثار، ولا بناءً قائمًا مفروغًا منه فكله رسوخ واستقرار.

إلا أن العجيب فيه حقًّا أنه انقسم بين ثبوته واضطرابه قسمين اثنين متقابلين: في أحدهما كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، والرغبة في بقائه وتدعيمه، وفي الآخر كل عوامل التذمر من النظام الاجتماعي، والتحفز لتقويضه وتحويله.

أحدهما، وهو قسم الرضا عن النظام الاجتماعي، كان قسم معاوية بن أبي سفيان في الشام وما جاورها.

والآخر، وهو قسم التذمر من النظام الاجتماعي، كان قسم علي ابن أبي طالب في الجزيرة العربية بجملة أنحائها.

كانت الشام بمعنى من المعاني أرضًا أموية في عهد الجاهلية، فلجأ إليها أمية جد الأمويين حين غلبه هاشم على الزعامة، وقصد إليها أبناؤه متجرين أو مهاجرين إلى ما بعد قيام الدعوة الإسلامية.

ثم قامت الدعوة الإسلامية، فكان من نصيب يزيد بن أبي سفيان أن يتولى الإمارة والقيادة على الشام من قبل الخليفة أبي بكر الصديق، وخلفه أخوه معاوية من قبل الخليفة عمر، فلم يزل مقيمًا على إمارتها بضع عشرة سنة إلى مبايعة علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، فاتسع له من فسحة الوقت وفسحة الرخاء مجال ممهد لتأسيس السلطان الأموي الذي لا ينازعه منازع من حوله، ولم يزل منذ تولاها عاملًا على البقاء فيها واصطناع الأعوان المؤيدين له في حكمها، فلم يتوان في استرضاء رجل ينفعه رضاه، ولم يقصر رعايته على الشرفاء دون السواد من الأتباع والأجناد، بل كان يرضي كل من وسعه إرضاؤه، وقد وسعت ثروة الشام كل صاحب حاجة مقيم عنده أو ساعٍ إليه …

واشتهرت عنه هذه الخصلة حتى قصده أقرب الناس إلى خصومه، وأولاهم باجتنابه والنقمة عليه … ومنهم عقيل أخو علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن زمعة، وعمرو بن العاص، وأناس من هذه الطبقة بين الشرفاء وذوي الأخطار.

أراد عقيل من أخيه مالًا يجريه عليه من بيت المال فأباه عليه؛ لأنه ليس له بحق، فتركه وأقبل على معاوية وهو يقول: «إن أخي خيرٌ لي في ديني، ومعاوية خير لي في دنياي.» وقس على ذلك ما يصنعه الغرباء عن علي والمقربون من معاوية بالنسب والرجاء.

قد همه إرضاء السواد والعامة، كما همه إرضاء الشرفاء وذوي الأخطار … وبلغ من إحكامه للسياسة، وإتقانه لها، واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعيرٍ له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلًا بينة يشهدون أنها ناقته … فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: «أبلغ عليًّا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!»

ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها([1]).

فإن كان في هذه القصص بعض المبالغة، فهي مبالغة الفكاهة الموكلة بتكبير الملامح ليراها من غفل عنها، وليست مبالغة الخلق والافتراء.

وما هي إلا سنوات على هذه الوتيرة؛ حتى اجتمع له كل منتفع بالنظام الاجتماعي الجديد، راغب في تدعيمه ووقايته من نذر الخطر والزوال.

وعلى قدر هذا الدأب الشديد في اجتلاب أسباب التمكين والتدعيم كان له دأب مثله في اتقاء أسباب التمرد، والإخلال بالنظام، كما نسميه في هذه الأيام …

فما سمعت قط صيحة فتنة إلا بادر إليها بما يسكنها، ويردها إلى طلب الاستقرار والدوام، فمن أجدى معه المال أسكته بإغداق المال عليه، ومن كان من أهل الجد والإخلاص في العبادة والزهادة، فهو محتال على إقصائه أو نفيه من الشام بحيلةٍ يوافقه عليها شركاؤه في المصلحة ولا تعييه.

حنق بعض الزهاد على هذا الترف الذي استفاض بين العلية والشرفاء، فارتفعت عليهم صيحة أبي ذر الغفاري بالنكير، وطفق يطالب الأغنياء بالإنفاق في سبيل الله؛ حتى ولع الفقراء بصيحته، وشكا الأغنياء ما يلقونه من نذيره أو بشيره: «وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.»

فأشفق معاوية من مغبة هذه الصيحة، وأرسل إلى أبي ذر ألف دينار يسكته بها إن كان ممن يسكتهم الغنى عن الأغنياء، فما طلع النهار حتى كانت الدنانير في أيدي المعوزين، الذين يلوذون بالداعية الأمين ويشكون إليه، ثم صلى معاوية الصبح وأرسل إلى الداعية رسوله الذي حمل إليه الدنانير يقول له: «أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطأت بك، فقال له: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار … ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها» … فعلم معاوية أن الرشوة هنا لا تغني عن القسوة، وكتب إلى الخليفة أن أبا ذر أعضل به فلا طاقة له بالصبر عليه، فأتاه الإذن بنفي أبي ذر من الشام إلى المدينة، ثم ضاقت به المدينة أيضًا، فنُفي منها إلى قرية من أرباضها حيث لا يسمع له دعاء.

وصنع بعبد الله بن سبأ – صاحب القول برجعة النبي إلى الدنيا ووصاية علي على الخلافة – مثل هذا الصنيع بعد أن داراه فأعياه، فلما يئس منه ومن ترغيبه أو ترهيبه ضيَّق عليه ثم أقصاه..

والتفت إلى من سماهم أهل الفتنة من طلاب الإصلاح والتبديل، فكتب في أمورهم إلى الخليفة يقول: «إنه قدم علي أقوامٌ ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم، وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم …»

ثم أخرجهم من دمشق إلى غيرها مستريحًا منهم بالنفي والإقصاء، كأنما دمشق وحدها من بلاد المسلمين هي التي ينبغي لها أن تستريح.

([1]) مروج الذهب للمسعودي: الجزء الثاني.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (20)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …