أخبار عاجلة

عبقرية الإمام عليٍّ (15)

زحف الإمام عليٌّ من الكوفة إلى صفين، ووجد جيش معاوية على الماء، فنحاه عنه بعد أن أبى عليه معاوية أن ينحيه بغير قتال….

المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد

بقية: البيعة

زحف الإمام عليٌّ من الكوفة إلى صفين، ووجد جيش معاوية على الماء، فنحاه عنه بعد أن أبى عليه معاوية أن ينحيه بغير قتال.

وبدأت العثرات من ثم في كل خطوة يخطوها للسلام أو لقتال، فلا يتحفز فريق من أنصاره للحرب حتى يثنيه فريق آخر يحرمها ولا يقول بوجوبها، وتحاجز القوم نيفًا وثمانين فزعة … وتصاولوا في وقعات شتى غامرت بها طائفة من هنا وطائفة من هنا، وقلما اشتبك فيها الجيشان في وقعة جامعة حتى كانت وقعة الهرير، وحاقت الهزيمة بجيش معاوية وقيل: إنه همَّ بالفرار … وإذا بالمصاحف ترفع على الحراب من قبل جيش الشام، وإذا بالعثرة الكبرى التي لا خطوة بعدها في طريق فلاح … فإن عليٍّا نظر حوله، فإذا بجيشه يوشك أن يقتتل فيما بينه نزاعا على القتال أو إلقاء السلاح، وإن معاوية لفي غنًى عن كفاح قوم لا يتفقون على كفاحه … فله منهم سيوف مشرعة لنصرته، شاءوا أو لم يشاءوا، وسيكفونه مئونة الحرب حتى يتفقوا بينهم على حربه، وهيهات!

ولو كانت آفة الطاعة في جيش عليٍّ مقصورة على اجتهاد القراء والحفاظ، وتعجل الغلاة والمتمردين … لكان في ذلك وحده ما يكفي لإفساد التدبير، واضطراب القيادة وتعذر القتال على أصوله … إذ لا يستغني القائد في ميدان الحرب، ولا في ميدان السياسة عن الكتمان والمفاجأة، وتحويل الخطط على حسب الطوارئ والمناسبات … فإذا كان في كل عمل من أعماله عرضة لاجتهاد أصحاب الفتاوى، وكان أصحاب الفتاوى يفترقون عشرين وجهة في كل حركة من حركات الجيش، فليست له خطة تكتم ولا خطة تنفذ، وليس عجيبًا بعد ذلك أن ينهزم في ميدان القتال شر هزيمة يبتلى بها مقاتل … بل العجيب أن يتماسك فترة من الزمن – وإن قصرت – أمام جيش يفوقه في العدد، ويرجع في أمره إلى قيادة موحدة ونية مجتمعة ومشيئة مطاعة …

ولكن الآفة مع هذا، لم تكن كلها في اجتهاد الحفاظ وتعجل الغلاة … بل كان في الجيش أناس يخونون عهده ويشغبون عليه، ويبدو من أعمالهم أنهم مسخرون لعدوه كارهون لانتصاره … فإن لم يكونوا كذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم كانوا يعملون وهم عامدون – وغير عامدين – شر ما يعمله الخائن الخبيث الذي يتحين الفرص للعناد والشقاق، وإفشاء الخلل والخذلان في أحرج الأوقات.

وأدهى من ذلك، أنه لم يكن قادرًا على زجرهم والتنكيل بهم؛ لأن الجيش الذي يوجد فيه من يحرم حرب العدو، لن يعدم أناسًا يحرمون حرب النصير المقيم على ظاهر الطاعة، وليس لك بيِّنة قاطعة عليه.

ومثل من ذلك أيضًا يغني عن أمثال كثيرة، وهو مثل الأشعث بن قيس أكبر سادات كندة، وأخلقهم أن ينصر حزبًا على حزب، لو خلصت نيته وبرئت شيمته من التقلب والغدر بأصحابه …

طمح هذا الرجل إلى الملك بعد موت النبي J فدعا قومه أن يتوجوه … وحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه أيامًا، ويئس من الغلبة فاستسلم … على أن يصون دمه وبقية دم عشرة من أخصائه، ثم فتح الحصن فقتل كل من فيه، ونجا بالعشرة الذين اختارهم إلى أبي بكر 0 فقبل توبته وزوجه أخته أم فروة، فلما نشبت الفتنة بين عليٍّ ومعاوية، كان هو من حزب علي يتطلع للفرصة السانحة.

ثم زحف عليٌّ 0 إلى صفين، فكان الأشعث أول المندفعين إلى القتال حين سد أهل الشام طريق الماء، وجاء عليٍّا يقول: “يا أمير المؤمنين! أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ … ولني الزحف إليه … فوالله لا أرجع أو أموت”.

ولكنه عاد إلى المسالمة، بعد أن وضح النصر في ليلة الهرير، فخطب في قومه من كندة قائلًا: … قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب … فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط … ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن توافقنا غدًا إنه لفنيت العرب وضيعت الحرمات … أما والله ما أقول هذه المقالة خوفًا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا …

ثم ذهب إلى عليٍّ 0 بعد رفع المصاحف، فقال له: “ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن … فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، فنظرت ما يسأل”.

ولقي معاوية فسأله: “يا معاوية … لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟”

قال: لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله U في كتابه … تبعثون منكم رجلًا ترضون به، ونبعث منا رجلًا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه … ثم نتبع ما اتفقنا عليه”.

فقال الأشعث: “هذا الحق!”.

وعاد إلى عليٍّ ً ينادي بالتحكيم، ويختار له هو وأنصاره رجلًا ينوب عن عليٍّ، وعليٌّ لا يرضاه.

وكان أنصار التحكيم قد تكاثروا واجترأوا على أمير المؤمنين، فلم يبالوا أن يجبهوه بالقول السيء منذرين متوعدين: “يا علي! أجب إلى كتاب الله U إذا دعيت، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنه عرض علينا أن نعمل بما في كتاب الله U فقبلناه … والله لتفعلنَّها أو لنفعلنَّها بك.

وألحوا عليه أن يرد قائده الأشتر النخعي من ساحة الحرب، وإلا اعتزلوه أو قتلوه … فقبل التحكيم وهو كاره …

واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فقال الأشعث: “فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري”.

قال علي: “إنه ليس لي بثقة … قد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك”.

قالوا: “لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكم بأدنى من الآخر”…

قال: “فإني أجعل الأشتر”.

قال الأشعث – وهو ينفس على الأشتر مكانته وبلاءه من قبل: “وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ … أو قال: وهل نحن إلا في حكم الأشتر!”.

فلما رأى إصرارهم وقلة أنصاره على رأيه بينهم قال: “فقد أبيتم إلا أبا موسى!”

قالوا: “نعم!”

قال: “فاصنعوا ما بدا لكم!”

فهذا رجل من الزعماء المطاعين في جيش علي، لم يدع من وسعه شيئًا لتغليب حزب معاوية على حزبه، واستكثر عليه أن يكون الحكم الذي يختاره نصيرًا له مؤمنًا بحقه وصحة رأيه، ولا طائل في البحث عن هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل عليٍّ أم النقمة على الأشتر النخعي في مكانته وبلائه، أم التواطؤ بينه وبين معاوية على منفعة مؤجلة ومكافأة موعودة … فإنما النية الخبيثة ظاهرة وإن استترت العلة، وأيٍّا كانت العلة الخفية فقد صنع الرجل غاية ما استطاع لتغليب حزب معاوية وخذلان الحزب الذي هو فيه.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …