أخبار عاجلة

عبقرية الإمام عليٍّ (14)

لم تكن المسألة خلافًا بين عليٍّ ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك…

المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد

بقية: البيعة

لم تكن المسألة خلافًا بين عليٍّ ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك.

ولكنها كانت خلافًا بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يتمرد ولا يستقر، والآخر يقبل الحكومة كما استجدت، ويميل فيها إلى البقاء والاستقرار …

أو هي كانت صراعًا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في عليِّ بن أبي طالب، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية بن أبي سفيان.

وليس موضع الحسم فيها أن ينتصر علي … فيحكم في مكان معاوية، أو ينتصر معاوية فيحكم في مكان عليٍّ، بل موضع الحسم فيها مبادئ الحكم كيف تكون إذا تغلب واحد منهما على خصمه؟ أتكون مبادئ الخلافة الدينية أو مبادئ الدولة الدنيوية؟ … أتكون مبادئ الورع والزهادة أو مبادئ الحياة على أساس الثروة الجديدة، كما توزعت بين الأمصار، وتفرقت بين السراة والأجناد والأعوان؟

فلو أن عليًّا ملك الشام ومصر والعراق والحجاز، وجرى في سياستها على سنَّة أصحابه من الحفاظ والقراء، ومنكري البذخ والإسراف لبقيت المشكلة حيث كانت، ولم تغن هزيمة معاوية إلا ريثما يتجرد للدولة منازع آخر يحاول الغلبة من حيث فشل …

ولو أن معاوية ملك المدينة إلى جانب ملكه، وجرى في سياستها على سنَّة الحفاظ والقراء لما أرضاهم، ولا انقاد له أحد من أشياعه …

فالحسم حق الحسم هنا، إنما هو تغليب مبادئ الملك أو مبادئ الخلافة، ولا حيلة لعليٍّ ولا لمعاوية في علاج الأمر على غير هذا الوجه، لو جهد له جهد الطاقة …

وقد كان الموقف بين الخلافة والملك ملتبسًا متشابكًا في عهد عثمان: كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية …

فوجب أولًا أن يتضح الموقف بينهما، وأن يزول الالتباس عن فلق صريح …

ووجب وقد زال الالتباس، وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان، أن يبلغ الخلاف مداه … ولن يزال قائمًا حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين، وليس لعليٍّ أو معاوية على التخصيص.

هذه هي العلة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العلل الظاهرة …

وخليق بكل علة أخرى أن تكون تعلة موضوعة يستر صاحبها غير ما يبطن، أو ينخدع في زعمه وهو غافل عن معناه …

خذ لذلك مثلًا علة طلحة وأصحابه الذين ثاروا على عليٍّ ليطلبوه بدم عثمان، وهم لم يدفعوا عنه في حياته بعض ما دفع عليٌّ عنه، وقد كان عثمان كثيرًا ما يقول: «ويلي من طلحة … أعطيته كذا وكذا ذهبًا وهو يروم دمي … اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه»..

وساء ظن الناس بنقمة طلحة على عثمان؛ حتى حدث بعضهم أنه رآه يوم مقتله يرمي الدار، ويقود بعض الثائرين إلى الدور المجاورة؛ ليهبطوا منها إلى دار عثمان، وهو حديث يفتقر إلى السند الوثيق، ولكنه ينم على ظن الناس بصداقة طلحة للخليفة المقتول.

وخذ لذلك مثلًا حجة معاوية حين علل ثورته باتهام عليٍّ في دم عثمان، وعلل اتهامه لعليٍّ بتقصيره في القود من الثائرين … وهم ألوف يحملون السلاح، وهو لم يسكن بعد إلى سلطان يعينه على القود من هؤلاء الألوف المسلحين، فماذا صنع معاوية بقاتلي عثمان حين صار الملك إليه، ووجب عليه أن ينفذ العقاب الذي من أجله ثار واستباح القتال؟ إنه اتبع عليًّا فيما صنع، وأبى أن يذكر الثأر المقيم المقعد، وقد ذكَّروه به وألحفوا في تذكيره، ولقد كان أول ما سمعه يوم زار المدينة، ودخل بيت عثمان صيحة عائشة بنته وهي تبكي: «وا أبتاه.» فلم تزده هذه الصيحة المثيرة إلا إصرارًا على الإغضاء والإعفاء، وقال لها يعزيها: «يا ابنة أخي … إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانًا، وأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره … فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرًا من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين …»!.

ولو كانت الثورة كلها من أجل عثمان لما انتهت بهذا التسليم الهين … ولكان عذر عليٍّ في بداية المحنة أعظم حجة، وأحق بالقبول …

أو خذ لذلك مثلًا علة عمرو بن العاص، وقد كان أول الناصحين لعثمان بالاعتزال، بل كان عثمان يخطب ليسترضي الناس، وعمرو يصيح به من صفوف المسجد: «اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أمورًا وركبناها معك … فتب إلى الله نتب …» ثم ترك عثمان في المدينة بين المؤتمرين به ومضى إلى فلسطين، وسمع وهو يقول: «والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.»

فكل علة للثورة على خلافة عليٍّ، فهي تعلل موضوع ينخدع به قائله أو يخدع به غيره … إلا تلك العلة التي طوت فيها جميع العلل ظاهرها وخافيها، وصريحها ومكذوبها، وهي الخلاف بين مبادئ الخلافة الدينية ومبادئ الدولة الدنيوية، وضرورة الفصل بين هاتين الخطتين … وإن كان في ظاهره فصلًا بين رجلين …

فلما بويع بالخلافة، كانت هذه البيعة إيذانًا بانقسام الحلقة بين الندين للصراع الأخير، أو كانت إيذانًا باصطفاف المتسابقين إلى غاية لا بد من بلوغها … ولن تخطر على البال غاية لهذا السباق المحتوم غير انتهاء الخلافة، أو انتهاء الملك على النحو الذي تهيأت له عناصر النظام الاجتماعي الجديد.

فأما انتهاء الملك في بدايته، فقد كان بعيدًا – بل كان عسيرًا جدًّا في تلك الآونة – كما يعسر انطفاء النار وهي تهب بالاشتعال …

وأما انتهاء الخلافة فهو الذي كان، وهو الذي كان منظورًا أن يكون، ولن يكون غيره بمنظور … فمن الفضول لوم عليٍّ على شيء من الأشياء التي أفضت إلى هذه الخاتمة، وهي محتومة ليس عنها محيد …

إذ لم يكن طبيعيًّا أن يصمد الناس على سنَّة النبوة أكثر من جيل واحد، تثوب بعده الطبائع إلى فطرتها من نشأة الخليقة الأولى، وقد يتفق كثيرًا أن يغمرها جلال النبوة أو جلال الخلافة، وهي في إبان النضال والحمية الدينية، فتنسى المطامع وتسهو عن الحزازات، وتستعذب الألم والفداء إلى مدى الطاقة الإنسانية، ولكنها تبلغ مدى الطاقة الإنسانية بعد حين، وتفتر عن النهوض من قمة إلى قمة، فتركن آخر الأمر إلى الأرض السواء، حيث لا حافز ولا مستنهض إلا مجاراة الطبيعة في مجاريها التي لا تشق عليها، وإن المصلحين ليرضون غاية الرضا إذا هي حفظت من إصلاحهم عند ذلك وازعًا يهديها بعد ضلالة عمياء، ويردعها بعد جماح مريد، ويكفكف من غلوائها ما كان من قبل منطلقًا بغير عنان.

لقد نظر النبي J بعين الغيب إلى هذا المصير فقال: «الخلافة ثلاثون عامًا ثم يكون بعد ذلك الملك». وأنبأ بانقسام الفرق وتشعب الأهواء، وكأنما كان ينظر إلى ذلك بعينيه J واتبع عليٌّ من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أو أنها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها.

فمن اللحظة الأولى، أخذ في تجنيد قوى الخلافة الدينية التي لا قوة له بغيرها …

فعزل الولاة الذين استباحوا الغنائم المحظورة، وتمرغوا بالدنيا، وطمعوا وأطمعوا رعاياهم في بيت مال المسلمين، وأثاروا على عثمان سخط السواد وسخط الفقهاء المتحرجين والحفاظ الغيورين على فضائل الدين …

ورد القطائع التي وزعتها بطانة عثمان بين المقربين وذوي الرحم، فصرفتها عن وجوهها التي جعلت لها من إصلاح المرافق، وإغاثة المفتقرين إليها على شرعة الإنصاف والمساواة.

ورجع إلى خطبة أبي بكر وعمر في تجنيب الصحابة الطامحين إلى الإمارة فتنة الولايات، مخافة عليهم من غوايتها وإبعادًا لهم من دسائس الشيع والعصبيات … فلما طالبه طلحة والزبير بولاية العراق واليمن، قال لهما: «بل تبقيان معي لآنس بكما.» وسأل ابن عباس: «ما ترى؟» فأشار بتولية الزبير البصرة وتولية طلحة الكوفة، قال علي: «ويحك … إن العراقين بهما الرجال والأموال … ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع، ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملًا أحدًا لضره أو نفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.».

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …