أخبار عاجلة

مذكرة المرشدين والمسترشدين (13)

معلوم أن الإنسان هو حيوان ناطق، وأنه إذا أهمل صار أقل من أرذل الحيوانات، وأضر من الشياطين، وإذا تعلم وتربى رقى إلى أن يصير في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تؤانسه الملائكة الروحانيون، ويكون له في الجنة ما يشاء، تتولى جميع شئونه الملائكة يدخلون عليه من كل باب بالتحية والإكرام..

الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم

آداب المتعلمين والمريدين

صحبة العلماء:

معلوم أن الإنسان هو حيوان ناطق، وأنه إذا أهمل صار أقل من أرذل الحيوانات، وأضر من الشياطين، وإذا تعلم وتربى رقى إلى أن يصير في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تؤانسه الملائكة الروحانيون، ويكون له في الجنة ما يشاء، تتولى جميع شئونه الملائكة يدخلون عليه من كل باب بالتحية والإكرام، وإنما يصل إلى هذا المقام العلي بالعلم النافع، والعمل الخالص لذات الله تعالى، وتزكية النفس، والتخلق بأجمل الأخلاق. ولا ينال هذا كله إلا بصحبة العلماء العاملين والأفراد الراسخين في العلم.

فإذا ميزت أيها الأخ البار بين منزلة أعلى عليين وهوة أسفل سافلين، وتصورت أنك لا تبلغ تلك المكانة العلية، وتخلص من تلك الهوة والبلية إلا بالعالم الرباني، العامل الروحاني، وفكرت في الذي تحب أن تتقرب به إليه، وتقدمه له لتحل من قلبه محل الرحمة بك، والعناية والشفقة عليك والرعاية، وبذل ما في وسعه لتخليتك من الرذائل والرعونات، وتحليتك بالكمالات، أظنك لو ظفرت بمثل هذا الرجل، وتحققت باليقين أنه هو المطلوب الذي به نيل المقصود، رأيت أن بذل مالك له شيء قليل، وقيامك بين يديه لخدمته أمر يسير عن سيدنا معاذ رضي الله عنه عن النبي J أنه قال: (ليس مِنْ أخلاقِ المؤمِنِ الملقُ؛ إلَّا في طلبِ الْعلْمِ)([1]) وقال سيدنا عبد الله بن عباس 5: (ذَللْتَ طالبًا؛ فعَزَزْتَ مطلوبًا) وقال J: (خِيارُ شبابِكُمْ المتشبِّهون بشيوخِكم، وشرارُ شيوخِكم المتشبهون بفتيانِكم) وقال J: (من تشبَّه بقومٍ فهو منهم)([2]) وقال J: (هلَّا سألوا إذا لم يعلموا، فإنَّما شفاء الْعِّي السُّؤالُ)([3]) وقال J: (حُسْنُ السؤالِ نصفُ العلمِ)([4]).

آداب الطالبين للعلماء:

فآداب الطالبين للعلماء، أن يعلموا حق العلم أن العلماء تصحب لثلاثة أمور:

1- المحافظة على تحصيل علومهم وفهمها فهمًا حقيقيًّا يطمئن به القلب، والسؤال منه عن كل ما وقف عن إدراكه الفكر، أو قصر عن فهمه العقل، ليبينوه بِمُثُلٍ تقربه، وكشف ما لا يستبين للعقل بحجةٍ تقرِّره أو برهان يؤيده، ويلزم في هذا القسم الأول أن يقيد ما يتلقاه في بطون الدفاتر خشية من ضياعه أو نسيانه.

2- التشبه بالعلماء الروحانيين في أساليب عباراتهم، وطرق تعليمهم، وفنون استدلالاتهم، وجميل أخلاقهم، ولطيف سمتهم، وظريف هديهم؛ حتى يكون نسخة كاملة طبق الأصل، ولا يصل إلى هذا المقام العلي؛ إلا إذا كان العلم مطلوبًا لذاته، مرغوبًا فيه للوصول إلى الحق سبحانه، وللعمل بما يرضيه جلت قدرته، وللمعاملة التي يحبها تنزهت ذاته؛ لأن من تحقق بتلك الحقيقة تلقى العلم الحقيقي من العالم بالقول والعمل والحال، فإن العالم الرباني الوارث لرسول الله J قوله علم، وعمله من عبادات ومعاملات وحقوق لذاته علم، وأحواله من بسط وقبض وأنس ووحشة وتواضع وعزة في النفس وغير ذلك علم.

3- العمل بما علمه من غير تأنٍّ، ولو كان في العمل عناء لنفسه، أو ضياع لماله وجاهه، أو فقد لعضو من أعضائه إذا اقتضى ذلك العلم. بذلك يعلِّمه العلم اللدُنِّي الذي لا يمكنه أن يتعلمه من غير الله تعالى، وليحذر أن يميل عن العمل بالعزائم في خاصة نفسه ويعمل بالرخص والتأويلات التي تحتملها بعض ألفاظ الأحكام الشرعية، فإن فهم الرخص وفهم التأويل – وإن كان علمًا – إلا أنه جهل إذا تعلم الرجل العلم ليتتبع الرخص ويعمل بالتأويلات الملائمة لحظه وشهوته وهواه، ومن قدم حظ نفسه على حظ ربه لم يخش ربه، ومن لم يخش ربه فليس بعالم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾([5]) فإن قال: إني عالم؛ نقول: عالم بالحيل وفتح أبواب الذرائع.

الأدب مع العالم الرباني:

إذا كنت – أيها الأخ البار – اتبعت العالم الرباني فاصبر يا أخي على جفوته إن جفا، فإن للعلماء دلة على الطالبين، وامتحانًا لأخلاقهم، واختبارًا يكشفون به ما طوى عنهم من فطرهم، واعتبر يا أخي من التماس سيدنا ومولانا موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام من العالم بقوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾([6]) ففي لفظة: (هَلْ) الاستفهامية دليل على أنه لا يكلفه ولكن يلتمس منه، وفي قوله: (أَتَّبِعُكَ) ما فيها من التملق للعالم تشعر بأنه جاء مقتديًا مأمورًا ﴿ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾([7]).

انظر يا أخى إلى مقام كليم الله ومنزلة ذى العزم، كيف تواضع للعلم وذل له وهاجر إليه، فإذا كانت هذه حالة كليم الله صلى الله عليه وسلم فى طلب العلم والسعى للعالم، فكيف بك أيها الأخ؟ اعتبر بقول العالم له: ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾([viii]) وفى هذه  العبارة من الدلال، ونظر المتعلم بنظر المتبع الصغير ما فى ذلك، وتفكر فى تعليل ذلك بقوله: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾([ix])؛ لأن العالم الربانى العارف الروحانى، يعمل أعمالًا عن سر القدرة وعجيب الحكمة ينكرها العابد، فكيف بالنبى؟ وقد علم العالِمُ أن الذى يكلَّمه من أولى العزم، وأنه سيدنا موسى بن عمران، وتحقق أن الأعمال التى يعملها منكرة عند العباد- فضلًا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- وتأمل فى إجابة سيدنا موسى عليه السلام: ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾([x]) فكأنه أقره على أنه يمكنه أن يشهد الأعمال التى ينكرها ويصبر عليها، وأنه يطيعه إذا أمره بأمر لا يظهر له وجه الحكمة فيه.

هذا هو أدب الله تعالى الذى أدّب به رسله صلوات الله وسلامه عليهم فتأدب أيها الأخ الطالب بهذا الأدب مع العالم الربانى، والعارف الروحانى، والراسخ فى العلم المتمكن، وتيقن أن عمله علم، وقوله علم، وحاله علم، فما انكشف لك وجهه فاعمل به مطمئنًّا، واشكر الله على ذلك، وعلَّمه غيرك. وما لا ينكشف لك وجهه فاحفظه فى ذاكرتك أو مذكرتك، واخفه عن غيرك، وتأوله أو سلّمه حتى تنكشف لك حكمته من العالم، أو يجعل الله لك نورًا يورثك به علم ما لم تعلم؛ لأن الذين أخبر الله عنهم أنهم يخشون الله، يجب علينا أن نتحقق من آية القرآن أنهم يخشون الله فى أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم، ومواجيد قلوبهم، وفى الخلوة والمجتمع، وإلَّا، فمن كان يخشى الله فى عمل ولا يخشاه فى غيره فليس بذى خشية.

زلل العلماء:

وإن للعلماء زللًا كما قال J: (اتَّقُوا زَلَّةَ العالِم وانتظِروا فَيْئَتَهُ)([xi]) فإذا زل العالم أمامك زلة بأن أخطأ في حكم، أو احتد عند إظهار الحق، أو اهتم بأمر من الأمور البسيطة، كأكل أو شرب أو لباس أو فراش أو ما أشبه ذلك، فغض بصرك، وافرض أنك لم تر، واستر هذا الأمر، والأولى أن تنساه مرة واحدة؛ حتى لا يخطر على قلبك، حتى يفيء العالم إلى الله تعالى، فإذا ذكر هذا الأمر أمامك مستغفرًا، فاحذر أن تتحرك أو تتكلم خشية أن ينقبض صدره منك، واحذر أن تقلده في شيء من ذلك، أو تنشر عنه هذا الأمر، وكن محافظًا على ما يجب عليك شرعًا، لا يبلغ بك الاعتقاد أن تراه معصومًا من الهفوات الصغائر، أو أنه ملك من الملائكة لا يشتهى الأكل والشرب والمال والملابس ولا يحب التحف، فينتج عن ذلك مضرتان:

1- أن ترى ما يحصل منه سهوًا من النقائص كمالات، أو ما يقع من الصغائر طاعات، فيكون ذلك سببًا في الحرمان من العلم، وهي مضرة التغالي في التسليم.

2- أنك إذا اعتقدت ذلك، وحصل من العالم ما ليس منزهًا منه، ولا معصومًا عنه، صغر في عينيك، وانقبض صدرك منه، وحرمت النفع به، وذلك لجهلك بمعرفة العلماء.

تعظيم المرشد:

أيها المريد: كن على يقين أنك بصحبتك للعلماء الراسخين، لا تزداد في كل يوم إلا حبًّا فيهم، ورغبة وتعظيمًا لهم ما دمت قد منحك الله السابقة الحسنى. قد يخطر على بالك – أيها السالك المسترشد – أنك صرت على علم إذا أنت غبت عن العالم زمنًا مَا، ولكنك بحضورك في مجلسه، وبسماعك علومه، تَحْتقرُ الدنيا أمامك، وتعظم الآخرة لديك إذا كنت سالكًا، فإذا كنت ممن أنس بمعرفة نفسه، وفتح له كنز حقيقته، وتناول من طهور أسرار معانيه، علت همتك عن الدنيا، وكبرت نفسك عن أن تشغلها بكون وأن تقف بها عند كون، واشتقت أن تجاهد نفسك سعيًا وراء الفوز بالنعيم الأبدي، رغبة في المكوِّن سبحانه، وعظُم الرجلُ في قلبك؛ حتى صار في أعلى المراتب منك، تعظيمًا للمقصد الأعظم، واحترامًا للغاية القصوى التي جعله الله سببًا لنوالها، وميزابًا لفيضها، وبابًا من أبواب الوصول إليها.

وليس كل مَنْ صَحِبْتَهُ يرشدك هو ذلك الرجل، لا، الرجل لا يعرفه إلا أولياء الله، ولا يصل إليه إلا من أراد الله أن يوصله إليه، ولا يحبه إلا من أحبهم الله. سبق لك يا أخي حادثة سيدنا ومولانا موسى بن عمران مع العالِم، هل وصل إليه إلا بعد أن أمره الله تعالى؟ وهل عرفه إلا بعد معرفة الله تعالى؟.

تلك الآداب التي أكلفك بها – أيها السالك – إنما هي للعالم الرباني، العارف الروحاني، الذي حققه الله بالخشية منه، وأخبرنا الله تعالى أنه عالم. إذا ظفرت به – يا أخي – فاجعله روحك التي بها حياتك، ونفسك التي بها قيامك، وإمامك الذي لا تخالفه، واعتقد أنك به تكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبغيره تكون مع العامة الهمج الرعاع. وإن خفيت عليك معالمه، وانمحت آثاره، ولم تستدل عليه، ولا على من استدل عليه، فاصحب من ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله، وخذ منه ودع، واعمل بعمله واترك، سلامة لنفسك من الآفات، ومحافظة على دينك وآخرتك.

أسرار الرجال مناكير عند غيرهم:

أيها المريد المخلص: سارع في مرضات العالم، وكن حكيمًا، لا تبح لغير نفسك أسراره، ولا تظهر لغير عقلك كمالاته، فإنك إن فعلت غير ذلك كنت مدعيًا حبه، وساعيًا في ضره، وربما ظهر له فنفر منك نفرة صرت بها محرومًا، أو سقَطْتَ من قلبه سقوطًا تصير به مبعودًا؛ لأنك إذا أبحت أسراره لغيرك – وأسرار الرجال مناكير عند غيرهم، ومقامات الرجال مستحيلة عند من لم يؤهلهم الله تعالى لهذا العلم، فإذا كنت تعلمت العلم لتنال السعادة فاشكر الله على ما كشف لك من أسرار العالم، وعلى ما منحك من التسليم له والتصديق، وما فهمك من مرموزات إشاراته، وحقيقة عباراته، وابخل بها على غير نفسك، غيرة على الحكمة أن يعلمها غير أهلها، فإذا خالفت هذا، وفتحت على الأستاذ باب الإنكار عليه، ونبهت ألسنة السوء إليه – بما أبحته من علومه، وما أظهرته من أسراره – فأنت صديق جاهل، والعدو العاقل خير من صديق جاهل.

حسن اتباع العالِم:

من أكْمل آداب المتعلمين للعلماء أن يجعل نفسه خادمًا للعالم، وأن يرى أن كل ماله، وما مَنَّ الله به عليه – من العلم والجاه والمال والأولاد والإخوان – تحت تصرف العالم وإشارته، متحققًا بذلك، معتقدًا أن ذلك نجاة له وسعادة في الآخرة، ويرضى من كل شيء بالدون، ويجعل خير كل شيء مبذولًا للعالم، بحيث يكون مشتغلًا في سره وعلنه باتباع العالم، والاقتداء به، متباعدًا عن مخالفته، محافظًا على إكرامه وكرامته، وإذا رأى من نفسه غير ذلك اتهمها، وخشي أن توقعه في الحجاب والغرور أو الغفلة، نعوذ بالله من ذلك، وليعمل ذلك كله ابتغاء وجه الله تعالى، ورغبة في نوال فضله ورضوانه.

بعض المريدين يجهلون قدر الرجل، فيتبعونه لحظ عاجل من حظوظ الدنيا، أو يجعلونه وسيلة ليوهموا الناس وينالوا أغراضهم، أو للشهرة والسمعة، أو لمداراة الناس، ومن هؤلاء تحصل المضار للرجل وللمخلصين من أصحابه، وهؤلاء أقرب إلى أهل النفاق منهم إلى أهل الإيمان، وقد ينتفع بعضهم فيتوب ويخلص، ومثل هؤلاء لا يخفون على العالم؛ لأنه يعلمهم بسيماهم ولكنه مأمور أن يأخذ بالظاهر ويترك السرائر لله تعالى ولكنهم يخفون على غير العارفين من المرشدين. وإنما التحفظ منهم يكون بالتنبيه على الخلق؛ لأن الذي يتساهل بالواجبات الشرعية وبآداب الطريقة، الأوْلى هجره وطرده، خوفًا من شره على الإخوان.

وراثة أحوال العالم:

بعض المريدين يعتقد في العالم عقيدة لا ينبغي أن يعتقدها مريد سالك، وذلك مما يسمعونه من إشاراته القدسية، وتلويحاته الروحانية، وكشفه لمرموزات مُثُل القرآن الشريف، فيعتقد المريد – لقصر عقله – أن تلك الإشارات والمرموزات خاصة بالعالم، ولكني أبين له أن كل مريد صادق مستعد ومؤهل أن يرقى إلى أن يصير مجمَّلًا بأخلاق الله، روحانيًّا كاملًا، تسلم عليه الملائكة في الطرقات وتنزل عليه البشائر والتحيات كل ذلك بصحبة العالم، والاقتداء به، والسعي في تلقي علومه وأسراره، وكشف فهومه وأسراره.

أما من يعتقد في العالم أنه هو المتجمل بتلك المعاني، المخصوص بتلك الإشارات دون غيره، فتلك العقيدة توقف المريد عن أن يقتدي بالعالم، ويعمل بعمله، وعن أن تعلو همته ليترك الدنيا الغارة وراء ظهره، التي هي الحرص والتلذذ بالشهوات الحيوانية، والأمل المضر، ويقوم عاملًا لله، نافعًا نفعًا عامًّا بقدر استطاعته، مجملًا نفسه بجماله الروحاني، ومجملًا جسمه بجماله الشرعي، وبذلك يرث أحوال العالم، ويشهد مشاهده، قال J: (مَنْ أحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعهُمْ)([xii]).

لم أقل لك أيها المريد أن نفسك تكبر مرحًا في الأرض، وغرورًا واحتقارًا للخلق وتصغيرًا، ولم أقل لك إنك تصل إلى مقامات المرشد فتنسى فضله أو تساويه، أو تغفل عن شكره، ولكني أردت أن تكبر نفسك عن أن تدنس بالرذائل، وعن أن تشتغل بالسفاسف، وعن أن تطمع فيما يزول ويفنى، وعن أن تتلذذ بما تتلذذ به الخنازير والبوم والكلاب والنمل من المأكل والمشرب والمنكح والحرص. فلا ترضى إلا بالله ربًّا، ولا ترغب إلا في النعيم الأبدي، ولا تستأنس إلا بعمل الخير الحقيقي، ولا تتلذذ إلا بكشف أسرار الكائنات ومشاهدة الآيات.

لم أقل لك: إنك تصل إلى مقامات المرشد لتساويه في شهرة وتعظيم، ومشابهة في مأكل ومشرب وملبس، وعزة في النفس، وإقبال وجوه الخلق عليه.. لا.. ولكني أريد أن تساويه في معرفته لنفسه، وعلمه بحقيقته، وتخلقه بأخلاق ربه، ومشاهده القدسية، ومواجيده العلية، وفنائه عن نفسه، واحتقاره للدنيا، ورغبته في الآخرة، لا لملاذها الحسية، بل لأنوارها وأسرارها وبهجتها الدائمة القدسية.

إنما تعطي الحكمة لأهلها:

ما بينته في موضوع الآداب هو طِلْبَةُ الراغبين، والضيعة المنشودة للمخلصين، تتعطش إليه قلوب من تزكت أنفسهم، ويتمسك به المسارعون إلى الخلاص من يوم الحساب والفوز بنعيم الجنات وحقيقة الرضوان، لا يقع نظر مريد صادق عليه إلا تمسك به، وجاهد نفسه في العمل به، وشرح الله صدره له، وأشهده بدائع حكمه، وكاشفه بالمواهب التي ينالها من تمسك، وهو سخف عند الجاهل المبعود، وخرافات عند عمى الطرف المطرود. فعليك – أيها المريد الصادق – أن تخفي – ما استطعت – تلك الإشارات والحكم عن غير أهلها، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾([xiii])، وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾([xiv]).

أيها الأخ الراغب في النجاة من هول يوم القيامة، الطامع في الفوز بالسعادة الحقيقية في دار الكرامة، جاهد نفسك، واقهرها حتى لا تقف عند هذا النعيم المحسوس واللذة العاجلة، وأحذر أن تأتي يوم القيامة فتنادى مع من أبعدهم الله بقوله تعالى: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾([xv]).

إني أيها الأخ – وَدَّك الله وأمَدَّك وإياي بالهداية والتوفيق والعناية – بينت لك طرفًا مما يتأدب به العالم والمرشد، والمتعلم والمسترشد من الآداب التي لو أهملت لكان العالم جاهلًا، والمرشد مضلًّا، والمتعلم مفسدًا، والمسترشد مغرورًا، وإنها لأنوار لا تشهدها إلا عيون البصائر، ولا تسمعها إلا آذان الضمائر، فبشرى لمن كان له سمع يسمع به، وبصر يبصر به، وقلب يفقه به.

لا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين:

ما لا يمكنك – يا أخي – أن تقهر نفسك عليه، أو لم تفقه المراد منه، فتحقق أن ذلك – يا أخي – من لقس نفسك. فقم وتطهر ظاهرًا بوضوء، وباطنًا بتوبة وندم، وتوجه إلى ربك مصليًا ضارعًا متبتلًا؛ حتى يمنحك الله، ويمدك بما به تملك نفسك وتلين لك، وأحذر أن تتعاصى عليك نفسك، وتنفر عن عمل القربات والمسارعة إلى الفوز بالغفران والرضوان، فتعينها على ذلك وتهملها، فإن ذلك مهواة البعد ومدارج القطيعة، أعيذ نفسي وأعيذك يا أخي من هذا. واحذر أن تقهر نفسك على عمل مَا تنفر منه مرة واحدة خشية أن تمل، أو تنفر، أو تضل، أو يحصل الغرور لنفسك، ولكن كن رفيقًا بها، حكيمًا، فرغِّبها وهوِّن عليها.

أحذر أيها المريد الصادق أن تجالس أهل البطالة والكسل، أو أهل الغرور والجدل، أو أهل الغفلة والفساد، أو المكذبين بيوم الحساب، إلا بقدر الضرورة الداعية والحاجة القاضية، بأن تضطر إليهم فيما لا بد لك من مصالح دنياك وضرورياتك أو في سفر. فإذا ابتليت بالاحتياج إلى أحدهم فدارهم، وتباعد عن مجانستهم بعد مجالستهم، فإن من جالس جانس، ومن جانس شاكل، واعلم أن الطباع جذابة أكثر من المغناطيس في جذب الحديد، فقد يجلس المبتدئ مع مخالفة في المذهب والرأي والاعتقاد فيؤثر عليه؛ لأن المريد الصادق يسعى في تزكية نفسه وحرمانها من حظوظها وشهواتها ليتجمل بالفضائل – وهي تنافر حظوظ النفس وشهواتها – ويرغب في نعيم الآخرة – وهي غيب – والنفس تميل إلى المشهود العاجل. فإذا جلس مع أهل الغفلة ميَّلوه إلى المحسوس الملائم، وهكذا كل فريق مما ذكرته لك مريض بمرض مجانسته تمرض النفس. أسأل الله تعالى أن يمنحنا اليقين الذي لا شك بعده، وأن يحفظنا من كفران النعمة وحرمان الرضا، ويجملنا بما يحب، ويمنحنا ما نحب، إنه على كل شيء قدير.

 ================================

([1]) هذا الحديث أورده السيوطي، وقال رواه البيهقي في شعب الإيمان عن معاذ، ولفظه: ” ليس من أخلاق المؤمن التملق والحسد إلا في طلب العلم ” انظر: الجامع الصغير ج 2 ص 339 رقم 7671.

([2]) رواه أبو داود عن ابن عمر، والطبراني في الأوسط عن حذيفة، قال السيوطي: حسن، انظر: الجامع الصغير ج 2 ص 510 رقم 8593.

([3]) رواه ابن ماجة من طريق الأوزاعي عن عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس: أن رجلًا أصابه جرح على عهد رسول الله، ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فمات فبلغ ذلك النبي فقال: “قتلوه قتلهم الله أو لم يكن شفاء العي السؤال” ورواه أيضًا أبو داود وأحمد والدارمي والدارقطنى. انظر: كشف الخفا ج 1 ص 247.

([4]) هذا الحديث رواه البيهقي والعسكري والديلمي والقضاعي عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: “الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم ” ورواه الطبراني أيضًا مع اختلاف في اللفظ عن هذا الحديث. وله شواهد أخرى، انظر: كشف الخفا ج 1 ص 179، ج 1 ص 430، السيوطي الجامع الصغير ج 1 ص 417.

([5]) من الآية 28 من سورة فاطر.

([6]) من الآية 66 من سورة الكهف.

([7]) من الآية 66 من سورة الكهف.

([viii]) من الآية 67 من سورة الكهف.

([ix]) الآية 68 من سورة الكهف.

([x]) من الآية 69 من سورة الكهف.

([xi]) هذا الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في السنن، عن كثير بن عبد الله عن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده. انظر: الجامع الصغير ج 1 ص 23 رقم 147.

([xii]) هذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه، ورواه الطبراني، والضياء عن أبي قرصافة بلفظ: “من أحب قومًا حشره الله في زمرتهم”، ويشهد له الحديث: “المرء مع من أحب” المتفق عليه عن أنس وأبي موسى وابن مسعود. انظر: كشف الخفا ج 2 ص 283، والجامع الصغير ج 2 ص 478 رقم 8317.

([xiii]) الآية 7 من سورة يونس.

([xiv]) من الآية 185 من سورة آل عمران.

([xv]) من الآية 20 من سورة الأحقاف.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

لماذا كثر المدعون للنبوة والمهدوية في زماننا؟

إذا كانت القضية تتعلق بالأوهام الدينية، فإن إمام العصر الذي أقامه الله بين الناس هاديًا …