أخبار عاجلة

شروح الحكم من جوامع الكلم للإمام أبي العزائم (157)

الحكمة السابعة والخمسون بعد المائة

إذا أقبَلتَ بِـكَـلـكَ عَليْــه، جَـذبَكَ به إليْه.

الأستاذ سميح محمود قنديل

من أجَلِّ نِعَم الله على العبد، أن يرزقه الله وليًّا مرشدًا يأخذ بيده، ويقبل به على الله U، وعكس ذلك صحيح، ويعلمنا الإمام في هذه الحكمة أن العبد إذا أقبل على الله بكليته قلبًا وقالبًا، ظاهرًا وباطنًا، بكل الحقائق التي فيه، تكون نتيجة ذلك أن يجذبه الحق بقدرته وحكمته إليه، هيا بنا نشرب من رحيق أسراره معنى الإقبال على الله، فنسمعه يقول فى الحكمة 0:

إذا أقبل الله بوجوه خلقه عليك، وتقرب بواسع الفضل إليك، أقبل عليه بكليتك ولا تلتفت إلى سواه، وأكرمه فى خلقه فى كل حال بمقتضاه، ولا تشغلك النعمة عن المنعم، ولا الخلق عن الخالق، ولا الكون عن المُكوِّن، ويؤكد أن الإقبال على الله تعالى فى الرخاء دليل على الصفاء، والالتجاء إليه سبحانه عند البلاء برهان على الوفاء، ومخالفته تعالى فى اليسر دليل على الجفاء، والرجوع إليه بعد ذلك فى العسرة حرمان من العطاء، فخالف هواك إلى طاعة مولاك مخلصًا لوجهه، تفز بالخير فى عقباك، ليس من أقبل على الله قاهرًا نفسه صبرًا أو رضًا، كمن أقبل عليه مقهورًا، فالمقبل على الله قاهرًا نفسه، فتى كسَّر من قلبه الأصنام، والمقبل على الله مقهورًا، انحط عن رتبة الإنسان إلى حضيض الأنعام، إذ ليس من أهل الإحسان ولا الإيمان، من لا ينقاد إلا بسيف السلطان، إنما أهل الإيمان والإحسان: من انقاد بنور الإيمان والقرآن.

ليس كل إقبال موجبًا للقبول، ولا كل تمسك بالصالحات مؤديًا إلى الوصول، وإنما تصل إلى مولاك بنسبك، وتقبل لديه بأخلاقه التى تتجمل بها، فنسبك له: عبد مفتقر مضطر، ونسبه إليك: رب ممدك بالإيجاد والإمداد، إذا أقبل العبد بقلبه على الله، أقبل الله عليه بوجوه خلقه، وهناك قبول وإقبال: الجاهل يهتم بالإقبال، والعالِم يهتم بالقبول، من التفت إلى الله نفَسًا واحدًا كتبه الله عنده كمن أقامه فى جهاد ألف سنة، ومن كان إقباله للنعمة فإدباره بالمنع، ومن كان إقباله للمنعم I فلا إدبار، إنما الإقبال إقبال القلوب، وإنما الجوارح آلاتها، والشأن كل الشأن تصحيح النية والقصد، ومن أقبلوا على العارف فهم وفود الله فى الدنيا والآخرة، يقول مولانا الإمام 0:

يا قلبُ فكِّر تَرى الدُّنــــــيا أباطِيــــلا

واقْرآ أيا قلبُ قُرآنًا وتنْزيــــــــــــــلا

خَلَّى الهَوى وادَّكر فاللهْو مَــــــفسَدة

أقبل على اللهِ تُعْطَى الخَير موصُولا

الموتُ يا قلبُ إن حَقـقت نــــازِلــــةٌ

لم يُبق حَيًا فخَلِّ القـالَ والقَيــــــــــلا

والدارُ دار بَلاءٍ إن رضِيتَ بـــــهــا

وكيفَ ترضَى بدار البُعدِ مأمُـــــولا

كيفية الإقبال على الله

قال الإمام المناوي 0: هناك أمور مظلمة تورد على القلب سحائب متراكمات مظلمة، فإذا فر العبد إلى ربه، وسلم أمره إليه، وألقى نفسه بين يديه من غير شركة أحد من الخلق، كشف عنه ذلك، فإن محبة الله ومعرفته، ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف، والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، ذلك يجعله فى جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين.

والإقبال على الله عز وجل له مظاهر وأسباب أهمُّها:

1- تلقى العلم النافع: الذي به يتعرف المسلم على ربه عز وجل، كيف يعبده، وكيف يخشاه، وكيف يعيش لدينه، والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فيتقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد، كفضول الأكل والنوم والكلام، ويراعى التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات، امتثالًا لقوله J: (أعط كل ذي حق حقه)، ويبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه، كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابًا، روى البخاري ومسلم أن رسول الله J قال: (من يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين)، ولا بد أن يعلم المسلم أن العلم النافع هو الذي يتبعه العمل الصالح، ويلزم صاحبه الخُلق الفاضل، والأدب الكامل والاعتصام بالكتاب والسُّنة، وإخلاص القصد لله سبحانه.

2- الحرص على الوقت: روى الحاكم عن ابن عباس 5 أن رسول الله J قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)؛ لأن الاستفادة بالوقت في التعلم ، وذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الطاعات، يُلين القلب ويجعله منبسطًا منشرحًا سليمًا، يهفو إلى مرضاة الله تعالى، ويعرض عن المخلوقين، يقول سيدى عبد القادر الجيلانى 0: ثلاثة تضيِّع بها وقتك: التحسر على ما فاتك؛ لأنه لن يعود، ومقارنة نفسك بغيرك؛ لأنه لن يفيد، ومحاولة إرضاء كل الناس؛ لأنه لن يكون، وينادى على صاحب الهوى قائلًا: يا طالب الهوى: كرر درس الشوق فى مدرسة: (أنا جليس من ذكرنى)، ويقول: وإذا غرَّدت بلابل التوحيد على أغصان أشجار المعرفة، صدحت حمامات القلوب بذكر المحبوب.

3- الإكثار من نوافل الطاعات: إن النوافل باب عظيم من أبواب الخير، وميدان كبير للمسابقة في الطاعات، ونعمة عُظمى أكرم الله بها عباده ليزدادوا منه تقربًا، ويحظوا بالرحمة والرضوان، ويُزكوا بها أنفسهم، ويحيوا قلوبهم، روى البخاري عن أبي هريرة 0 قال: قال رسول الله J: (إن الله U قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل؛ حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

4- قِصَر الأمل: الذي يدفع إلى علو الهمة وحُسن العمل، وعن ابن عمر 5 قال: أخذ رسول الله J ببعض جسدي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعِد نفسك من أهل القبور)، وعلى قدر إقبالك على الله تعالى وانشغالك به، تستريح النفس ويطمئن القلب، وتتخلص من وساوس شياطين الإنس والجن، وتتذكر الموت والبِلى، وتكون في مرضاة الله عز وجل، والموفق من وفقه الله تعالى.

5- مجالسة الصالحين وذكر الله: فإن مجالسة الصالحين تعود على العبد بالكثير من الفوائد والمنافع، تحقيقًا لقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( (التوبة: 117)، وقوله سبحانه: )فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ( (الأنعام: 68)، وقوله J: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل)، والأخلاء يوم القيامة بعضهم لبعض عدو، إلا أهل التقوى والمغفرة، والذكر مع الصالحين يفتح أبواب القرب واليقين.

الاقبال على الله تعالى بالقلب

رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق A أنهُ قَالَ: [لَا تَجْتَمِعُ الرَّغْبَةُ والرَّهْبَةُ فِي قَلْبٍ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَإِذَا صَلَّيْتَ فَأَقْبِلْ بِقَلْبِكَ عَلَى اللَّهِ U، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ U فِي صَلَاتِهِ وَدُعَائِهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ U عَلَيْهِ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ مَعَ مَوَدَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْجَنَّة].

والتصوف هو منهج الإقبال بالكلية، على رب البرية، بالصدق والتسليم، يقول سيدى عبد القادر الجيلاني 0: التصوف ليس مأخوذًا عن القيل والقال، بل مأخوذًا من ترك الدنيا وأهلها، وقطع المألوفات والمستحبات، ومخالفة النفس والهوى، وترك الاختيارات والإرادات والشهوات، ومقاساة الجوع والسهر، وملازمة الخلوة والعزلة، ويؤكد أن كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهى زندقة، ويقول: لا فلاح لقلبك وفيه أحد غير الله U، لا ينفعك إظهار الزهد في الأشياء، مع إقبالك عليها بقلبك، أما تستحى أن تقول بلسانك: توكلت على الله، وفى قلبك غيره؟، ثم ينصح المريد قائلًا: إذا كان التوحيد بباب الدار، والشرك داخل الدار، فذاك النفاق بعينه، ليكن الخرَس دأْبك، والخمول لباسك، والتهرب من الخَلق كل مقصودك.

اللهم خذني إليك منى، وارزقني الفناء عني، يا أرحم الراحمين.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …