الحكمة الخمسون بعد المائة
الفـنـــاءُ: تـجـريدٌ عن لوازم الـبـشـريــة، ومـقـتـضيات الآدميـة، ونوازع الإبليسية، وميــولِ النـباتية، ودواعى الجمادية.
الأستاذ سميح محمود قنديل
الفناء لغة: هو مصدر فَنى يفنَي فناءً، إذا اضْمحل وتلاشى وعدم، وقد يطلق على ما تلاشت قواه، وأوصافه مع بقاء عينه، وتأتي بمعنى الزوال، قال تعالى: )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ( (الرحمن: 26).
الفناء اصطلاحًا: الفناء الصوفي له معنيان هما: معنى أخلاقي عام، يتحقق بفناء الصفات المذمومة، مما يدل ضمنًا على الاتصاف بالصفات المحمودة والبقاء فيها، من خلال المجاهدة والرياضة الصوفيتين، وهو معنى صوفي خاص، يتمثل بفناء الصوفي عن نفسه، وعن الإحساس بالغير عبر الاستغراق التام في الله سبحانه، والتحقق في البقاء في وجود الحق حالًا وشهودًا، وهو ما عُبر عنه بالفناء الذاتي، ولكي يتحقق الصوفي فناءه الذاتي، لا بد من تحققه أولًا بالفناء الأخلاقي.
ويعرِّف الإمام أبو العزائم 0 الفناء بأنه: هو العجز عن إدراك العبودية. ويعرف البقاء بأنه: دوام مشاهدة الإلهية. وحقيقة العبودية: واقعة بين الفناء والبقاء؛ لأن التخلص من الآدمية هو عين الفناء، والإخلاص في العبودية هو البقاء، ليس بينك وبين ربك إلا أنت، فامح أنا؛ ترى المسَرة والهنا.
ويوضح الإمام أن الفناء من تجليات الحق على عبده، فمتى تجلى الله على العبد، أفنى وجوده فظهر الرب، فالله يأخذك منك؛ حتى يفنيك عنك، ومن قال: أنا، وقع في العَنا، إذا أفناك فكنت ولا أنت، ثم يبقيك فتكون أنت له وهو لك، أنت له عبدًا، وهو لك ربًّا، علامة الفناء: ذهاب الحظ من الدارين، وأكمل المقامات بلاء، ليصح عن غيرها الفناء، أما فناء الكاذبين: فهو مخالفة أمر الحاكم سبحانه، مع قيام البشرية مقتضى ولازمًا، والإمام فى هذا إبليس، فنَى كاذبًا، فترك الأمر مُجانبًا.
مراتب الفناء وحقيقة البقاء
الفناء ثلاث مراتب: فناء عن مرادك بمراده، وفناء عن الدنيا الآخرة برضوانه، وفناء به عنك، ويقول أيضًا: مراتب الفناء ثلاث: فناء عن الوجود، وفناء عن سوى الحق، وفناء عن إرادة غير الحق.
الفناء برزخ بين الوجودين، بين الوجود الباطل، وبين وجود الحق بالحق، والفناء معراج الاجتباء، والبقاء مراقى الاصطفاء، وبينهما برزخ لا يبغيان، وليس الفناء محو الحقيقة الإنسانية، كما ظن أهل الجهالة، إنما هو الإقبال على الله تعالى من غير فترة، قال الله تعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( (الأحزاب: 21)، فى حاله ومقاله وعمله، ومن ادعى الفناء فترك الأمر والنهى، كان ممن شنع الله عليهم بقوله: )وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 28).
إذا أطلق الفناء إنما ينصرف للفناء في الذات، وحقيقته محو الرسوم والأشكال، بشهود الكبير المتعال، واستهلاك الحس في ظهور المعنى، وفى ذلك يقول الشاعر:
فيفْنى ثم يفْنى ثم يفْنى
فكان فناؤه عينُ البقاء
وأما البقاء: فهو الرجوع إلى شهود الأثر بعد الغيبة عنه، أو شهود الحس بعد الغيبة عنه بشهود المعنى، لكنه يراه قائمًا بالله، ونورًا من أنوار تجلياته، إذ لولا الحس ما ظهرت المعانى، ولولا الواسطة ما عرف الموسوط، فالحق تعالى تجلى بين الضدين بين الحس والمعنى، وبين القدرة والحكمة، وبين الفرق والجمع، فالغيبة عن أحد الضدين فناء، ورؤيتهما معًا بقاء، فالغيبة عن الحس وعن الحكمة وعن الفرق فناء، وملاحظتهما معًا بقاء.
ويرى الجنيد 0 أن الفناء هو إزالة الحجب، قالوا له: إنك تقول: الحجب ثلاثة: حجاب النفس، وحجاب الخلق، وحجاب الدنيا، فقال: إن هذه الحجب ثلاثة عامة، وهناك ثلاثة حجب خاصة هي: مشهد الطاعة، ومشهد الثواب، ومشهد الكرامة.
ابن عربي 0 يقول: الفناء ليس معناه محو صفات الصوفي العارف أو محو ذاته، وليس هو تحققه في مقام خاص بوحدته الذاتية مع الحق فحسب، بل هو رمز على صور المحدثات محوًا مستمرًا في كل آن من الآنات، وبقاؤها في الجوهر الواحد المطلق.
أنواع الفناء
1- الفناء النفسي: هي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة الشهود الحق بالحق.
قال الجنيد 0 في هذا النوع: هو ذهاب القلب عن حس المحسوسات، بمشاهدة ما شاهد، ثم يذهب عن ذهابه، فليس شيء يوجد، ولا يحس بشيء يفقد، ولقد قال الجيلي: إن الفناء هو عدم شعور الشخص بنفسه، ولا بشيء من لوازمها، ولوازم هذا الفناء النفسي ضبط الحواس، بدرجة تمكن السالك من السيطرة التامة على ميوله، وأهوائه وشهواته وغرائزه، بحيث يصبح في حالة لا يشعر فيها بما يطرأ عليه من لذات، وآلام بل تستوي عنده اللذة والألم، كما أن الصوفية يطلقون عليه معاني أخرى مثل: الوجد، والسكر، والغيبة، والمحو.
2- الفناء الأخلاقي: هو يتمثل في فعلين هما:
– التخلية: وفيها يتخلى العبد عن كل ما يهبط بالنفس، ويجذبها إلى مستوى أهواء الدنيا من لذات وآلام وشرور.
– التحلية: وفيها يتحلى بالأخلاق الحسنة، والفضائل الروحية، التي تسمو بالبشرية إلى أعلى مراتبها.
3ـ الفناء العرفاني: هو أن يرى السالك الخلق بعين الفناء، فيسقط عنه رؤيتهم والتزين لهم، واستدلوا بقوله تعالى: )أومَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ( (الأنعام: 122)، قالوا فيه: ميتًا بنفسه ونظره إلى الخلق، فأحييناه بنا، وبإسقاط الخلق منه، والمعرفة لا تتم إلا بعلم البقاء لا بعلم الفناء، وعلامات الفناء هو أن يرى العبد نفسه في قبضة العزة، وتجري عليه تصاريف القدرة، ومن علامات المعرفة المحبة؛ لأن من عرفه أحبه، وغاية المعرفة هو العجز عن المعرفة.
وفى هذه الحكمة، يبين لنا الإمام أبو العزائم 0، معنى شاملًا للفناء بأنه تجريد، يعنى: تخلص من لوازم البشرية السفلية، التى تقتضيها حياة الإنسان على هذه الأرض، ويتميز بها عن غيره من المخلوقات المسخرة له، والتجرد عن مقتضيات الآدمية، الحاجبة للصورة التى صار بها العبد خليفة عن ربه في أرضه، إذا استقام على منهج الحق، وكذلك نوازع الإبليسية، التى يوسوس بها إبليس إلى العباد، ليغويهم ويخرجهم عن الصراط المستقيم، وميول النباتية، التى يتشبه بها بالنباتات، بالزينة واللباس، والتفاخر بالتجمل بالجسم والمفروشات، ويتجرد من دواعى الجمادية، التى تدعوه للخلود إلى الأرض، والعجز والكسل، عند ذلك يتحقق له الفناء، ثم ينتقل منه إلى البقاء.
ولا بد للإنسان الذى يسعى للتجمل بالفناء، أن يتجرد عن هذه المقتضيات، التى تحجبه وتبعده عن البقاء في معية رب العالمين I، وهذا يحتاج من العبد المزيد من المجاهدة للنفس، للتخلص من الرذائل والتجمل بالفضائل، كما قال الإمام 0:
تجرَّد عن الكونيْن إن رُمْتَ ترآه
وانـفـيـك واثـبــتْ يــا بـنـــى اللهُ
ولتفنَ حتى عن فنائِك إنــــــــــه
عـيــنُ الـبـقــاءِ فعـنـد ذاك تــراهُ
اللهم أفننا عن مرادنا بمرادك، وواجهنا بجمالك وأسعدنا بوصالك.