إن شكوى الله على الخلق والبكاء على الغائب من أمارات وموجبات ضعف الإيمان، ومن مظاهر اليأس من روح الملك الديان، ومن دواعي القنوط من رحمة الله الرحيم الرحمن، وتلكم من خصال شر البرية الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية…
المستشار رجب عبد السميع وأ. عادل سعد
ابتلاءات أهل البيت ومحنهم
مدخل
إن هذه الدنيا مليئة بالمصائب والرزايا والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح وجليل العطايا، وأنواع ما يجود الله به من تنفيس الكروب وتيسير العسير وصرف المنايا؛ فهى دار شدة ورخاء، وسراء وضراء، ومرح وترح، وضحك وبكاء، تتجدد فيها الحادثات، وتتنوع فيها الابتلاءات، ويبتلى أهلها بالمتضادات؛ ليعتبر بها المعتبرون، ويغتنمها الموفقون، وليغتر بها المغترون، ويهلك بها الهالكون قال تعالى: )وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( (الأنبياء: 35). وقال سبحانه: )لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( (الحديد: 23). وقال U: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ( (محمد: 31). وقال Y: )فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( (العنكبوت: 3). ولذا فكم ترون فى الدنيا من أصناف الشاكين وأنواع الباكين، فهذا يشكو علة وسقمًا، وذاك يشكو حاجة وفقرًا، وثالث يبكي على فراق حبيب أو وفاة قريب، أو فوات نصيب من دنياه، غير مؤمن بما قدره الله وقضاه.
إن شكوى الله على الخلق والبكاء على الغائب من أمارات وموجبات ضعف الإيمان، ومن مظاهر اليأس من روح الملك الديان، ومن دواعي القنوط من رحمة الله الرحيم الرحمن، وتلكم من خصال شر البرية الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية. ولهذا تجدون بعض هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلة أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك؛ فضاق صدره، ونفد صبره، واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأسًا من روح الله، وقنوطًا من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين؛ فإن التعلق بالمخلوقين والإعراض عن رب العالمين شرك بنص الكتاب المبين: قال تعالى: )وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( (يونس: 106-107).
أما من آمن بالله وعرف حقيقة دنياه، وسلم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ويشكر على السراء، ويطيع ربه فى حالتى الشدة والرخاء، ويذكره فى جميع الآناء؛ لعلمه أن الله تعالى مع عبده ما ذكره، وأنه عند ظنه به، وأنه يبتلى العبد بالخير وضده؛ ليختبر صبره ويستخلص إيمانه، ويظهر توكله على ربه وحسن ظنه به، وليجزل مثوبته ويعلى درجته، ويظهر للناس فى الدنيا والآخرة أن هذا العبد أهل لكرامته، وصالح لمجاورته فى جنته.
وفى صحيح مسلم عن النبى J قال: (عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له).
وفى الصحيحين عن أبى هريرة وأبى سعيد 5 عن النبى J قال: (ما يصيب المؤمن نصب – أى تعب – ولا وصب – أى مرض – ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه). وفيهما أيضًا عنه قال: (ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها، إلا كفَّر الله بها من سيئاته، وحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها).
وفى الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله J: (إن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط). وفيه أيضًا عنه قال: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه).
وفى المسند وغيره عن رسول الله J قال: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل؛ ابتلاه الله فى جسده أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التى سبقت له من الله U).
وكم من محنة فى طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات وجليل الكرامات، وصدق الله إذ يقول: )إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ( (الأنعام: 83). ويقول: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ( (الزمر: 10).
فإلى كل من نفد صبره وكثرت همومه، فصد عن الحق وسخط على قضاء الله، أدعوه إلى قراءة هذه السطور حول ابتلاء النبى J وأهل البيت 7 والمحن التى مرت عليهم على مدى تاريخنا الإسلامي، لتكون له قبسًا من نور، وعلمًا للهدى، ودليلًا للسائرين فى مواجهة مصاعب الحياة ومشاقها وأعبائها الثقال. فإن آل بيت رسول الله J ضربوا المثل الرائع والقدوة الحسنة فى الصبر والتحمل والقدرة الفائقة على مواجهة أزمات الحياة وشدائد الأيام بما لا يتصور تحمله من سائر المؤمنين وعوام الناس. فهم بحق أهل الصبر والتضحية، وأشد الناس ابتلاء بعد الأنبياء، وهم الأمثل بين المسلمين والموحدين، ففى سبيل إصلاح أمة جدهم المصطفى J وتوحيد المسلمين وإعلاء كلمة الإسلام كانت دعوتهم الحرة الخالصة فى ابتغاء مرضات الله ورسوله الكريم J، لقد تعرضوا من أجل ذلك لجسام المحن وشدائد الأمور: من قتل وذبح، ونفى وتشريد، وتعذيب وسجن إلى غير ذلك من جميع أنواع الخطوب والمصائب والابتلاءات، التى لا يطيقها أحد من الناس. ففى طريقهم إلى الحق وإعلاء كلمة التوحيد ونصرة النبى J يتربص بهم كل حريص على الدنيا والملك والخلافة، وطامع فى العرض الزائل الرخيص لهذه الحياة الفانية، وكل حاسد وحاقد لهم على مكانتهم السامقة العالية التى أولاهم الله بها وكرمهم وخصهم وشرفهم بها دون غيرهم من العالمين. فما كان ابتلاء الله لهم لهوانهم عليه وقلة شأنهم بل لاصطفائهم ورفعهم إلى الدرجات العلى والمنزلة الرفيعة فى فراديس الجنات وأعلى منازل القرب من رب البريات، فهم أهل التضحية والفداء ورموز الحق ونصرة الدين فى كل عصر وآن، وأهل الصبر والتحمل للنوائب والملمات والخطوب الجسام. فما كان ابتلاؤهم وبحق إلا (ثمن الصفوة والاصطفاء).