أخبار عاجلة

المطاريد (رواية عن مجاذيب الأرض) [2/2]

في قلب الأحداث هناك خيط ممتد عبر الزمن، إلى جانب الملتزمين والفلاحين، إنهم المريدون من أتباع الطرق الصوفية، أولئك الذين يتتابعون على سكنى زاوية في القرية، تركها المجذوب الأول، وظلت تنادي عبر القرون ساكنيها..

الدكتور عمار علي حسن

ابن النفيس

في قلب الأحداث هناك خيط ممتد عبر الزمن، إلى جانب الملتزمين والفلاحين، إنهم المريدون من أتباع الطرق الصوفية، أولئك الذين يتتابعون على سكنى زاوية في القرية، تركها المجذوب الأول، وظلت تنادي عبر القرون ساكنيها، الذين يأتون إليها من عند الأقطاب الكبار مثل أبو الحسن الشاذلي وعبد الرحيم القنائي وأحمد الفولي. تظل الزاوية طوال القرون التي تجري فيها هذه الملحمة مكانًا لتلطيف الأجواء الملتهبة بالأحقاد، وتبقى منحازة إلى الغلابة، ونقطة التقاء السماء بالأرض، وملجأ للسابلة والضائعين، والهاربين من الجوع، وهجوم الفيضان من ذوي الحاجات والمعدمين.

وتطل من بعيد وجوه الفلاحين الأجراء، خلف أكتاف أصحاب الالتزام من كبار الملاك والعمد وأمراء المماليك ثم الضباط وموظفي الحكومة فيما بعد، لترسم لوحة اجتماعية وإنسانية مصرية بامتياز. إنهم المهمشون الذين ظلوا عبر تاريخ مصر يقدمون بلا انقطاع، دون أن يأخذوا سوى الفتات. يأتي محتل ويذهب آخر، تقوم سلطة غاشمة، وتسلم زمام الأمر لأختها، ويبقى هؤلاء صامدون، ببطونهم الضامرة من الجوع وأجسادهم التي لا تسترها أسمالهم البالية، لتظل الحياة على أرض النيل مستمرة، ونعرف طرفًا من الإجابة على السؤال الكبير، الذي يطاردنا دومًا عن صبر المصريين وتحملهم الطويل.

يفيض الخيال في هذه الملحمة كثيرًا، ليحولها إلى أسطورة، فالعائلتان هنا مخترعتان، وكذلك الشخصيات كلها، الكبير منها والصغير، الرئيسي والثانوي، والحكاية الطويلة كلها لم تُقبتس من تاريخ العائلات في مصر، لكن التفاصيل والصور والخلفيات والسياقات والمحطات التاريخية وتقلبات السياسة هي بنت الواقع، فقد لا يكون هناك من يسمون “الصوابر” و”الجوابر” قد سكنوا صعيد مصر، ودار بينهما صراع، لكنهما، على اختراعهما، يشبهان الكثير من العائلات الريفية سواء في الصعيد أو الدلتا.

إن هذه الملحمة مزيح من الواقعية السحرية والواقعية التاريخية، ففي وسط الغرائب والعجائب يجود السرد بشخصيات سمعناها ورأيناها، وقرأنا عنها في كتب التاريخ، وفي الاجتماع، وبقي أمثالها من الزمن لنراها رؤى العين في أيامنا هذه.

شخصيات متنوعة بين العمد والمشايخ والخفر والمزارعين والصيادين والمراكبية والنجارين والحدادين والعبيد والخدم والخادمات والتجار والباعة الجائلين والبائعات، ومعهم الأٍسواق والوكالات التجارية والقيساريات، ويوجد اللصوص والنصابون والغواني والسكاري والمساطيل والعسس والشعراء الشعبيون من رواة السير، وعمال المناجم من مصر والسودان وإثيوبيا، والجند الذين يفعلون ما يؤمرون، ومنهم أهل الوادي من سكان الريف والحضر وبدو الصحاري، وهناك أهل البلد والأجانب من العثمانيين أو الحبش أو الشركس والروس وغيرهم، وتنتمي الشخصيات بالتناسب إلى الأديان الثلاثة في مصر خلال زمن الملحمة وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ولذا طالما نجد الشيوخ والقساوسة والأحبار، ومعهم المساجد والكنائس والمعابد، إلى جانب الزاوية المنفتحة على الكل.

في الملحمة تظهر عصابات الجبل، التي كانت تسمى “الفلاتية”، في مصر حتى ستينيات القرن العشرين فسميت “المطاريد”، على أن لها دور مهم طوال السرد، إذ أن الجبل كان دومًا ملاذًا للهاربين من “الصوابر” بحثًا عن حماية أو مال، وكان رجاله سندًا لـ “الجوابر”الذين استخدموا رجال العصابات في تحقيق بعض أغراضهم، لكن مفهوم “المطاريد” هنا يتجاوز هؤلاء، فهو يشمل الصوابر في غربتهم وتشردهم وتشتتهم عبر القرون، ويضم أيضًا الأجراء الذين تطارهم الحياة، وترميهم على هامشها عبر التاريخ، يعانون من الجوع والجهل والمرض، وفيها حرافيش القاهرة الذين يطاردهم غشم فتوات ظلمة، والمطاردون أيضًا علماء دين من نسل “الصوابر” كان يطرحون آراء مغايرة للسائد والمكرور فتم طردهم إلى خارج الأزهر. وهم بعض الخدم والعبيد الذين يرميهم الدهر بعيدًا إن مات مخدوميهم وأسيادهم، وهم في كل الأحوال أولاد البلد الذين يحرمهم الغريب من خيراتها.

إن الملحمة هي تطور، من دم ولحم، للمجتمع الريفي والمديني المصري عبر خمسة قرون، نرى معها كيف أخذ التحديث يضرب وجه الحياة، فانتقل الناس من الكتاتيب إلى المدراس، ومن الالتزام إلى التملك، ومن السفر عبر المراكب النيلية إلى ركوب القطار، ومن بيوت الطين التي يأكلها الفيضان في ثوان معدودات إلى بيوت من حجر قادرة على الصد.

هذا التحديث المادي الذي يتسرب إلى الريف عبر وجهائه أو جهد الحكومة، لا ينهي الآفات القديمة التي تجعل الناس مطاردين، سواء بقوا أجراء في أرض كبار الملاك، أو امتلكوا مساحات ضيقة من الأرض، أو انخرطوا في الوظائف الحكومية التي اتسعت فيما بعد، ليصبحوا مدرسين وإداريين وقضاة شرعيين، أو انخرطوا في تمردات على الظلم، لم يجنوا منها سوى الانكسار، ليصبح انتصارهم الأعرض هو الإبقاء على المجتمع المصري قائمًا في تماسك عجيب.

تتشرب الملحمة الروح المصرية، عبر ستة عشر جيلًا، وتستفيد مما جرى على الأرض، وتتابع مع الزمن من رؤى وتدابير، وتنفخ فيه من الخيال الكثير، لتجمع بين المعرفة بالريف المصري في قرونه البعيدة، والمتعة التي صاحبت رحلة عائلة مسكونة بوعد قديم، وتجلت في اللغة العذبة التي تلامس الشعر أحيانًا، وتناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الإنسانية، وكذلك في السرد المتدفق، الذي يجعل القارئ، ورغم طول الحكاية، يلهث خلفها.

إنها ملحمة عن الأمل الذي يجب أن يسكن الرؤوس والنفوس، ويلوح دومًا أمام العيون إشارة زاهية تدل على الطريق، مهما اشتدت الأحوال، وتباعدت المسافات، وتتابعت الأزمنة، وضعفت الذاكرة، وتوزعت الأنساب وتفرعت.

وتأتي نهاية الملحمة مفتوحة، رغم عودة “الصوابر” إلى قريتهم، وتمكنهم فيها من جديد، فالصراع بين البشر على الثروة والنفوذ لن ينتهي، و”الجوابر” الذين خرجوا من القرية لشتات جديد، لن تجعل الحكايات المسكونة بالأحقاد صغارهم ينسون أيضًا حلم العودة، المسربل بالأساطير التي تتوالد بلا توقف.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …