أخبار عاجلة

التنوير والراديكالية.. واقع مأزوم جدًّا (3)

ثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط..

الأستاذ الدكتور بليغ حمدي

 تحت قبة الجامعة

ثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط، لكن قد تتجاوز حالة الصراع من سجالات الكتب والمناقشات وصراع الفضائيات بين الفريقين إلى الساحة الأكاديمية، وهنا تصبح الظاهرة المستدامة أكثر شراسة؛ لأنها تتعلق بمستقبل عقول صناع المستقبل أنفسهم ألا وهم الشباب، وهذا ما ألفيناه واضحًا خلال فترة المد الإخواني بصفة خاصة والجموح المستعر لتيارات الإسلام السياسي منذ سقوط نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس، فكان الخلط بين الديني والسياسي من ناحية، والخلط العجيب بين الديني والطرح المعرفي الأكاديمي من ناحية أخرى وهو المشهد الذي استرعى النظر والنقد ومن ثم تأويله.

واستعلاء التقوى الذي مارسه الكثير بل كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي في فترة حكم جماعة الإخوان لمصر جعلهم يتمتعون بخلفية رصينة لدى طلاب الجامعة لمعارفه ولما يقدمه لهم سواء كانت هذه المعرفة دينية أو علومًا إنسانية كالتربية وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا، أو علمية محضة كالطب والهندسة والصيدلة. والتماس المنتمين لتيارات الإسلام السياسي للمرجعية الدينية في أثناء طرحهم العلمي داخل قاعات الدراسة مكنهم من السيطرة على العقول من جهة، وإيجاد فجوة من الشراكة والتفاعل مع غير المنتمين من الطلاب لفكر هذه الجماعات والتيارات، لكن ما فكر فيه هؤلاء الأساتذة حينها وربما لا يزالون يسعون بخطى وئيدة لتحقيق ذلك هو أن الجمع بين السلطتين الدينية والمعرفية يمكنهم من إحكام السيطرة على أذهان طلابهم، ومن ثم تسهل عملية التوجيه والإرشاد لهم من أجل تحقيق مطامح وأطماع وأهداف جماعة بعينها، تمامًا كما فعل الأساتذة المنتمون لجماعة الإخوان فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، فضلًا عن تحقيق حلم ضامر في نصوصهم المرجعية وهو إضعاف المؤسسة العلمية بصفتها رمزًا للعلمانية والمدنية التي يرفضونها جملة وتفصيلًا.

وتلك الفكرة ظلت لعقود بعيدة تراود زعماء التيارات الدينية ذات المرجعيات الراديكالية وهم في صراعهم الطويل مع رموز التنوير منذ منتصف القرن العشرين على وجه التحديد، وبلغ الصراع مداه في تهميش جماعات الإسلام السياسي لأدوار أستاذ الجامعة المهموم بالنهضة الحقيقية وتنوير العقول وتبصير الأذهان والأبصار بإعمال العقل وضرورته، كذلك كان مبدأ هذا التوجس المزمن بعقول زعماء وأنصار الفكر الراديكالي هو انتفاء الربط بين الشرع والحقيقة أي الفلسفة وطروحات العقل، الأمر الذي دفع بهم إلى تكفير قاضي القضاة والفيلسوف الأول ابن رشد الذي يتبنى فكره معظم التنويريين، واستهدفوا في ذلك الدمج بين الديني والسياسي والعلمي واستحالة التقاء الفلسفة بالشرع. وهذا الأخير هو الفقيه القاضي الفيلسوف الأندلسي صاحب أشهر المقولات التي أرقت فكر جماعات الإسلام السياسي منذ قرون، ومؤسس التفجير العقلي الذي زلزل عروش تيارات التطرف والإرهاب، فهو القائل: “إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر”، و”اللحية لا تصنع الفيلسوف”، وأيضًا قال: “السبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق”.

وهذا ليس بجديد؛ لأن تاريخنا الإسلامي القديم شهد جدلًا واسعًا وكبيرًا بين العقل والنقل، وهذا ما دفع المتأخرون حتى وقتنا الراهن إلى الرفض المطلق لمباحث الفلسفة، كذلك الإعلان بعدم نجاح أو جدوى كافة الأيديولوجيات التي تنتمي للحداثة، وأن تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية هي محض عبث.

وليس من باب الدهشة أن يقوم أنصار تيارات الإسلام السياسي من أساتذة الجامعات العربية في مصر وتونس والجزائر الدمج بين الدين والسياسة وصولًا لسدة الحكم من بوابة تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فحسب لا من باب صحيح الشرع، لكن الدهشة الحقيقية هي تسييس العلم والمعرفة والاتجاه ببوصلة الدرس الجامعي إلى تناول قضايا وأفكار تتواصل بالضرورة مع مرجعيات تلك الجماعات، تمامًا كما حدث في مصر أيام فترة حكم جماعة الإخوان؛ حتى سقوطهم الشعبي في الثلاثين من يونيو 2013م.

وكانت حجتهم أن التغيير الحقيقي في المعرفة هو الابتعاد عن علوم ومعارف الحداثة وكل ما ينتمي إلى فكرة المدنية التي تعد رجسًا يدفع بالأمم إلى الانتحار الإنساني، وهذا الدفع المستمر من جانب الأكاديميين خلق حالات من اهتزاز المعرفة الحقيقية لدى الشباب الجامعي، وجعلهم في مقام مستدام من محاكمة المعارف التي تقدم لهم تحت قبة الجامعة. وكانت المشكلة الرئيسة وربما ظلت قائمة حتى الآن في ظل وجود خلايا نائمة لأنصار تلك التيارات وبقاء وجوه جامعية مستترة غير معلنة أنهم دون استثناء متفقون على الطرح المعرفي الذي يقدمونه إلى طلابهم؛ لأن المرجعية لديهم ثابتة دونما تغيير أو تطوير فهي تم نقلها تحت سلطة السمع والطاعة، بخلاف الأكاديميين ذات توجه التنوير، المختلفين في طرحهم والمهمومين بنقد الواقع المعرفي بصور شتى وزوايا متباينة، صبَّ هذا الاختلاف بين الفريقين لصالح أنصار تيار الإسلام السياسي لاتفاقهم في رصد الواقع، وسرد المرجعية الخاصة بهم، والتوجه إلى هدف محدد بغير لغط.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (28)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …