تكاد كلمة المسلمين تتفق على أن المعارف التي يجب على المسلم استيعابها هي: أصول الدين، وأحكام الشريعة.
وإن كانت المعرفة – بشكل عام – مطلوبة، ومرادة، وبكل فروعها، فيما يتعلق بالكون والحياة، وبخاصة ما يرتبط بالجوانب الاجتماعية والإنسانية التي تحدد علاقة الإنسان ببني نوعه، وذوات جنسه من كافة المخلوقات، كالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، التي استقطبت جهودًا جبارة من المصلحين، وفي مقدمتهم الأنبياء والأئمة، والعلماء، والصالحين من الناس.
الدكتور سامي عوض العسالة
بقية الفصل الأول: الإلهيات
بقية المبحث الثالث: الصفات الإلهية
بقية المطلب الثاني: رأي الإمام في المتشابه من آيات الصفات:
بقية: رأى الإمام في قضية التأويل:
لقد أجاد الإمام أبو العزائم – على ما سيتضح بعد – حين انتهج هذا المنهج الذي أفردناه في المقال السابق، فلم يذهب إلى التأويل المطلق، فيقع في المحذور الذي نهى الله عنه، كما لم يذهب إلى التفويض المطلق، فيكون معطلًا لبعض النصوص التي منح الله تعالى بعض خلقه الاجتهاد في تأويلها.
ولقد كان الإمام حريصًا على بيان منهج السلف في كل مقام؛ فكان ينص عليه دائمًا حتى وإن قال بالتأويل في نفس الآية([1]).
وهذه نماذج من تفسيره 0 تبين سيره على هذا المنهج الوسط.
أولًا: من الآيات التي قال فيها بالتفويض فقط:
1- في تفسيره لقول الحق سبحانه: )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( (المائدة: 64) يقول 0: “وقد تأَوَّلَ اليد هنا بعض العلماء فحكم على الله تعالى بأنها القدرة، وأثابنا الله وإياهم بقدر نواياهم ومقاصدهم، ولكن أقول لهم: إن القدرة واحدة وقد ثَنَّى الله اليد وجمعها، فقال: )يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ( (ص: 75) وقوله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ( (يس: 71)، والقدرة لا تثنى ولا تجمع، والواجب علينا أن نسلم تسليمًا كما سلم سلفنا الصالح، فنقول: “له يد لا كالأيدي، واليد معلومة والكيف مجهول”([2]).
2- في تفسيره لقول الله سبحانه: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( (الرحمن: 5). يقول الإمام: “قوله تعالى: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( أي أن العرش وما حوى من حملة العرش فنازلًا عبيد مقهورون وعباد مربوبون، والاستواء معلوم والكيف مجهول، والواجب علينا التسليم، ومن آمن بقوله تعالى: )وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( (آل عمران: 7)، وما أشبهها، بل ومن ذاق حلاوة التنزيه وعلم أن الله تعالى أخبرنا سبحانه أنه ليس كمثله شيء واتقى الله تعالى بالأدب مع الله عَلَّمه الله تعالى ما لم يكن يعلم…
وقد بينت لك أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، وأن التسليم لخبر الله إيمان، وما للعقل والبحث فيما لم يكلفه به الله، فإن الله تعالى وصف نفسه بالاستواء على العرش وصفات الله وأسماؤه وذاته فوق أن يدرك العقل منها ساطعة نور فضلًا عن أن يدرك الكنه والهوية. اللهم إنا آمنا بما أنزلته على حبيبك محمدٍ J وسلمنا له تسليمًا، واعلم أن الله تعالى خلق العقل وسخر له السماوات والأرض وما فيها لينتفع بما أبدعه الله فيها من المنافع للإنسان، ولم يأمره أن يشرف على قدس العزة والجبروت ولا على الغيب”([3]).
وهكذا يرى الإمام أبو العزائم 0 وجوب تفويض الأمر إلى الله تعالى في مثل هذه الآيات المتشابهة، كالتي ورد فيها نسبة اليد إليه سبحانه أو الاستواء، بعد أن ننزهه جل وعلا عن الظواهر المستحيلة لهذه النصوص، ثم نَكِلُ العلم بحقائقها إلى الله تعالى، كما هو مذهب السلف 4([4]).
ثانيًا: من الآيات التي قال فيها بالتأويل:
في تفسيره لقول الله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا( (البقرة: 226) يقول 0:
“… والاستحياء: هو انفعال نفساني يحصل به اضطراب القلب من وقوع ما لا يرضاه من نفسه، أو من طلب إحداث ما يكره أن يراه الناس عليه، هذه بداية الاستحياء. أما نهايته: فهي ترك وقوع هذا العمل. والمعنى الأول لا يليق بجلال الله تعالى وعظمته، فإنه تعالى تنزه عن أن يتأثر بعمل أو يمنعه الحياء عن عمل، فإن الحياء عبارة عن ضعف قوة الحي عند تأثره. والواجب علينا أن نسلم لله فيما يقول وننزهه عما لا يليق بجلاله، فكأنه سبحانه يقول: إن كمالي الذاتي من شأنه أنى لا أفعل إلا ما هو كمال أو جمال أو جلال.
وللعقل هنا جولة: ونهاية حكم العقل أن المراد بالحياء هنا غايته ونهايته لا بدايته، ونهاية الحياء أن الله تعالى لا يقول ولا يعمل إلا ما هو كمال لا يستحى منه. والواجب علينا فى كل ما يشابه هذه الآية أن نرده إلى حكم هذا العقل الكامل إذا لم تنكشف لنا الحقائق النورانية التي يلهم الله بها عباده الصالحين لطمأنينة قلوبهم”([5]).
وواضح مما تقدم أن الإمام أبا العزائم 0 عندما تناول تفسير الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى في هذه الآية الكريمة أكد على وجوب التسليم لله تعالى فيما يقول – أي الإذعان والقبول ووجوب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله سبحانه، ثم جال بعقله في تأويل هذا الاستحياء – زيادة في تأكيد التنزيه – بما يليق بجلال الله تبارك وتعالى مسترشدًا بتحليل لغوى هام، فكان هذا البيان الرائع الذى ذكره([6]).
ومن خلال ما سبق نلاحظ الآتى :-
أن الإمام 0 يؤمن مع أهل السنة والجماعة بالآيات المتشابهة، كالتي ورد فيها نسبة اليد إليه سبحانه أو الاستواء، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا جهة ولا مكان، فليس الاستواء بمعنى الاستقرار والتمكن على العرش؛ لأن ذلك من صفات الأجسام، وكذلك بالنسبة لليد والوجه وإنما نَكِلُ العلم بحقائقها إلى الله تعالى، كما هو مذهب السلف 4.
كما نخلص إلى نتيجة حتمية من خلال دراستنا لهذه الآيات، ورأى الإمام 0 فيها، وهي: أن الإمام أبا العزائم يوجب التأويل في بعض الآيات لما في ذلك من مراعاة الأدب مع الله تعالى، فكل ما ورد في القرآن من الاستهزاء والمكر والخديعة مؤول عنده بهذا المعنى.
ولذلك لجأ الإمام إلى التأويل في تفسير الكرسي في آية الكرسي من سورة البقرة – كما أشرنا إلى ذلك – وأوَّله بالعلم.
وهكذا يلتزم الإمام 0 بالمنهج الوسط في المتشابه من آيات الصفات.
=====================
([1]) الإمام أبو العزائم وجهوده في التفسير وعلم القرآن، د. ربيع يوسف الجهمي 2/292، 293.
([4]) الإمام أبو العزائم وجهوده في التفسير وعلم القرآن، د. ربيع يوسف الجهمي 2/394.
([6]) ولعل الإمام أبا العزائم كان متأثرًا بما ذكره الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: 1/122.