أيها الرفيق العزيز.. لست أدري هل ما سأقوله لك سيعجبك أم لا، لكني مضطر لأن أقوله، ولا يهمني ما سيكون موقفك مني؛ حتى لو رميتني بالجمود والبلادة والتخلف والتطرف؛ فأنا أقبل كل ذلك منك.. ولكني لا أتنازل عن مقالتي التي أريد أن أوجهها لك، والتي أوقن أنها لن تعجبك، وأنت كما تعرفني لا أهتم بما يعجبك أو ما لا يعجبك؛ فالنصح الذي يمتلئ بالمجاملات غش وخديعة..
أ. د. نور الدين أبو لحية
لا تنشغل بما لا ينفعك
أيها الرفيق العزيز.. لست أدري هل ما سأقوله لك سيعجبك أم لا، لكني مضطر لأن أقوله، ولا يهمني ما سيكون موقفك مني؛ حتى لو رميتني بالجمود والبلادة والتخلف والتطرف؛ فأنا أقبل كل ذلك منك.. ولكني لا أتنازل عن مقالتي التي أريد أن أوجهها لك، والتي أوقن أنها لن تعجبك، وأنت كما تعرفني لا أهتم بما يعجبك أو ما لا يعجبك؛ فالنصح الذي يمتلئ بالمجاملات غش وخديعة.
وقبل أن أذكر لك نصيحتي أريد أن أسألك، وأنت صاحب العقل الراجح والفكر النير عن مدة بقائنا في الدنيا، ولا شك أنك ستجيب بالبداهة التي أعرفها عنك؛ فتقرأ لي قوله تعالى، وهو يذكر النتيجة التي وصل إليها أهل الدنيا بعد ذهابهم للآخرة: )قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (المؤمنون: 112 – 114)
ثم تذكر لي بعدها ما تعودته عنك من ربط النصوص المقدسة بحقائق العلم؛ فتذكر لي أن هذه الكلمات القرآنية حقائق يعرفها العلماء، وأنه لو وضعنا مدة عمر البشر جميعا أمام عمر الكون، أو أمام الزمن اللامتناهي؛ فإنه سيتشكل لدينا رقم صغير جدًّا يكاد يكون صفرًا.. هذا بالنسبة لعمر البشر جميعًا، فكيف بعمر كل واحد منا؟
وحينها سأسألك عن هذا العمر القصير، وما يمكن أن ينتج عنه من نتائج مرتبطة بالأزل والأبد، وحينها ستقرأ علي من النصوص المقدسة ما يدل على عظم غبن من فرط في هذه الفرصة التي تبنى بها القصور، وتستغرس بها كل أنواع النعم، وتقرأ علي من ذلك قوله تعالى: )يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ( (التغابن: 9).
وتقرأ علي بعدها ذلك التحسر الذي يصيب أهل النار عندما يعاينون النعيم الذي يعيشه أهل الجنة، كما قال تعالى: )قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ( (الأنعام: 31).
وقد تذكر لي حينها كيف تحولت أعمال المؤمنين إلى أنوار يهتدون بها في عالم الآخرة، في نفس الوقت الذي يعيش فيه المستغرقون في الدنيا في عالم الظلمات المطبقة، لكونهم لم يشحنوا بطارياتهم في الدنيا لتمدهم بالنور في الآخرة، كما قال تعالى مشيرا إلى ذلك: )يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ( (الحديد: 13، 14).
وحينها سأسألك ملغزًا، مختبرًا ذاكرتك عن تلك القصة التي حكاها لنا معلم التربية، حين كنا صبية صغارًا؛ فذكر لنا أن رجلًا قال عند موته: (يا ليتها كانت كثيرة.. يا ليتها كانت الجديدة.. يا ليتها كانت كاملة)
وحينها ستجيبني بالبداهة التي أعرفها عنك؛ فتذكر لي أنه يشير بقوله: (يا ليتها كانت كثيرة) إلى جاره الأعمى، وأنه كان يأخذه كل يوم إلى المسجد، وعندما عاين ثواب هذا العمل عند دنو أجله، قال: (يا ليتها كانت كثيرة تلك الخطوات التي أخطوها برفقة جاري الأعمى لتكون حسناتي أكثر).
وتذكر لي أنه يشير بقوله: (يا ليتها كانت الجديدة) إلى أنه كان لديه خفّان، أحدهما قديم، والآخر جديد؛ فتبرع بالقديم، فعندما وجد ثواب هذا العمل عند دنو أجله، قال: (يا ليتها كانت الجديدة؛ فلو كانت الجديدة لكان الثواب أكبر وأعظم).
وتذكر لي أنه يشير بقوله: (يا ليتها كانت كاملة) إلى أنه كان يتصدق في كل يوم بنصف رغيف؛ فعندما وجد ثواب هذا العمل عند دنو أجله، قال: (يا ليت تلك الأرغفة كانت كاملة).
وحينها سأسألك عن سر ذلك الرجل الصالح الذي حكى لنا قصة ذلك العجوز الذي التقينا به صدفة في القطار، وحدثنا عن قيمة الوقت، وأن كل لحظة يمكننا أن نكسب بها سعادة الأبد، وحينها ستجيبني بما أعرفه من ذاكرتك القوية؛ فتقول: إنه ذلك الرجل الذي كان يختار الطعام اللين الذي لا يحتاج إلى مضغ؛ فعندما سئل عن سر ذلك، قال: (حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة؛ فما مضغت الخبز مند أربعين سنة)([1]).
وطبعًا أنا لا أريدك أن تكون مثله، ولا أن تفعل فعله، فهناك الكثير من الأطعمة الطيبة التي أباحها الله لنا، والتي تحتاج إلى المضغ؛ وما خلق الله لنا الأسنان إلا لنستعملها، ولم يجعل الله لنا أسوة إلا بالأنبياء والمرسلين والأئمة المطهرين..
ولكني أريد أن أسألك عن عينيك اللتين تقضيان وقتًا طويلًا في مشاهدة المباريات والأفلام والمسلسلات، والتي تحضر معها كل لطائفك وأركان حقيقتك.. كم تسبيحة منعتك تلك المباريات؟.. وكم علمًا صرفتك عنه؟.. وكم فكرًا نافعًا حالت بينك وبينه؟.. وكم قصرًا كان يمكن أن يُبنى لك في تلك اللحظات قصرت في بنائه؟.
وليت الأمر اقتصر على تلك المباريات أو الأفلام أو المسلسلات.. بل هناك شؤون كثيرة، ومشاغل طويلة، تقضي على أعمارنا من غير أن نشغلها بشيء ينفعها..
نعم.. هي مباحات كما تذكر، وأنا لست ممن يحرم الحلال، أو يحلل الحرام، ولكني أسألك عن سر ذلك الإذعان التام لكل اللطائف عند تطبيقها لشرائع المباحات، في نفس الوقت الذي تتثاقل فيه على شرائع الواجبات والمستحبات.. فهل جاءت الشريعة لتعلمنا كيف نمارس المباح، أم جاءت لترفعنا إلى ثقل الواجبات والمستحبات وكل التكاليف الشرعية؟.
===========================