أيها الرفيق العزيز.. ارفق قليلًا بأولئك العوام البسطاء الذين يتجمعون على مائدة علمك؛ فأجهزة هضمهم لا تطيق الطعام الذي تقدمه لهم؛ فلذلك لا يمتصونه طعامًا نافعًا، وإنما سمومًا قاتلة..
أ. د. نور الدين أبو لحية
لا تحدث بكل ما تعلم
أيها الرفيق العزيز.. ارفق قليلًا بأولئك العوام البسطاء الذين يتجمعون على مائدة علمك؛ فأجهزة هضمهم لا تطيق الطعام الذي تقدمه لهم؛ فلذلك لا يمتصونه طعامًا نافعًا، وإنما سمومًا قاتلة.
تمنيت لو أنك ـ أيها الرفيق ـ بدل أن تقوم بالحرث والزرع أمامهم، لتنشر ما تراه من معارف، أن تلقي إليهم بالثمرة جاهزة، ليأكلوها صافية من كل كدر، سليمة من كل عيب، خالية من كل جائحة؛ لأن بعض الذين جلسوا إليك، وأنت تحرث وتزرع في حقل المعارف، أصابتهم بعض الجروح الأليمة من محراثك ومنجلك، وقد ذكر الأطباء أنه لا أمل في شفائهم منها.
لذلك يمكنك أن تنتقي من التلاميذ أقواهم عقلًا، وأكثرهم قدرة، لتبث له ما شئت من علومك؛ أما من عداهم، فانزل إليهم، وإلى ما يطيقونه، لترفعهم بعد ذلك رويدًا رويدًا، ولا تهجم عليهم بما يضرهم، ولا ينفعهم.
فالعلم النافع قد يتحول إلى سم قاتل إذا لم يجد العقل الذي يقدر على تقبله، ولذلك قال رسولنا J: (ما أحد يحدّث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم؛ إلَّا كان فتنة على بعضهم)([i])، وقال: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سـمع)([ii]).
وقبله قال المسيح عليه السلام: (لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير، فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو شر من الخنازير)([iii])، ويدخل فيمن كرهها من لم يطقها؛ لأنه قد يستلمها، وهو مكره عليها، لا مطمئن لها.
وبعدهما قال وارث النبوة الأكبر، إمامنا عليٌّ، منبع الحكمة، والصراط المستقيم: (إن ها هنا لعلومًا جمّة لو وجدت لها حملة)، فهل ترى نفسك ـ أيها الرفيق العزيز ـ أكثر حكمة من الإمام الذي ربَّاه رسول الله J على عينه، وعلَّمه كيف يخاطب الناس، وكيف يراعي ضعفاءهم، ولذلك لم يبث كل ما لديه من العلوم؛ لأنه لم يجد من يمكنه أن يفهمها، أو يتقبلها، أو لا تؤذيه.
قد تذكر لي ـ أيها الرفيق العزيز ـ ما ورد في النصوص المقدسة من التحذير عن كتمان العلم، وتقول لي، وأنت ممتلئ ورعًا: كيف أتوقف عن بث علومي، وقد قال الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ( (البقرة: 159).
وأنا أشيد بورعك، كما أشدت قبل ذلك بعلمك؛ ولكني مع ذلك أذكرك بأن الله تعالى نهى في الآية الكريمة عن كتمان البينات، وهي الواضحات اللاتي لا ينكرهن إلا مكابر، أما ما عداهن؛ فقد لا يكون العلم بهن أصلًا علمًا نافعًا، بل قد يكون ضارًّا، وأنت تحفظ عن رسول الله J غضبه عندما رأى كتابًا من كتب اليهود في يد بعض أصحابه، وقال له: (والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا ما وسعه إلَّا أن يتبعني)([iv]).
فاجعل هذا الحديث العظيم نبراسك الذي تختار به دروسك ومواعظك وأحاديثك لعامة الناس.. ارفق بهم، واكتف بأن تريهم الأبيض الناصع الواضح البين؛ حتى لا تشوش رؤيتهم، ولا تفسد فطرهم، ولا تضر بسلامة أجهزة هضم المعارف في عقولهم.
وإن شئت سلفًا لك في ذلك غير من ذكرت من الأنبياء والأئمة، فاقتد بذلك العالم الصالح الورع الذي سئل عن بعض المسائل الدقيقة، فلم يجب؛ فقال السائل: أما سمعت رسول اللَّه J قال: (من كتم علمًا نافعًا جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار)؛ فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمنى، فقد قال اللَّه تعالى: )وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ( (النساء: 5) تنبيهًا على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى، وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق)([v]).
ثم راح يردد:
أأنـثـر درًّا بيـن سـارحـة النّعم
فـأصبـح مخزونًا براعية الغنم
لأنـهـم أمـسـوا بـجـهـل لـقـدره
فلا أنا أضحى أن أطوقه البهم
فـإن لـطـف اللَّه اللطيـف بلطفه
وصادقـت أهـلًا للعلوم وللحكم
نشـرت مـفـيـدًا واستفدت مودة
وإلا فـمـخـزون لـدىّ ومـكـتتم
فمن منح الجهال علمًا أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
=========================
([i]) قال الزين العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 70): رويناه في جزء من حديث أبي بكر بن الشخير من حديث عمر أخصر منه. وعند أبي داود من حديث عائشة (أنزلوا الناس منازلهم).
==================
([iii]) إحياء علوم الدين (1/ 57).