أخبار عاجلة

لا تفعل (10)

لا أزال أذكر جيدًا – أيها الرفيق العزيز – ذلك المطعم الذي أخبرتني عنه، والذي تسبب لك طعامه في تسمم أصاب جهازك الهضمي، بل جميع أجهزتك بضرر كبير، ظل يلاحقك ألمه وتبعاته فترة طويلة، مع أنك لم تأكل فيه سوى وجبة واحدة…

أ. د. نور الدين أبو لحية

لا تدخل مطعم غيبة

لا أزال أذكر جيدًا – أيها الرفيق العزيز – ذلك المطعم الذي أخبرتني عنه، والذي تسبب لك طعامه في تسمم أصاب جهازك الهضمي، بل جميع أجهزتك بضرر كبير، ظل يلاحقك ألمه وتبعاته فترة طويلة، مع أنك لم تأكل فيه سوى وجبة واحدة.

وأنا لا أريد أن أطلب منك أن تعود إلى ذلك المطعم المشؤوم؛ فقد ذكرت لي أنك أقسمت على أنك لن تدخل أي مطعم في حياتك، ذلك أن الوساوس صارت تنتابك في كل ما يعرض فيها من طعام، وأنا أوافقك في ذلك؛ فقد حصل لي بعض ما حصل لك، وصرت لا أسافر إلا ومعي زادي الذي يغنيني عن تلك المطاعم المشؤومة وغيرها.

ولكني أريد أن أذكرك بأنك ربما لم تبر بقسمك؛ فقد رأيتك البارحة في مطعم أكثر شؤمًا من ذلك المطعم الذي أصابك بالتسمم، لكن الفرق بينهما أن الأول ترك أعراضه في جسدك؛ فلذلك رحت تسارع في علاجه، وإخراج العلة منه، بينما المطعم الذي رأيتك فيه البارحة أصاب قلبك ونفسك وحقيقتك، ولم يترك أي أثر في جسدك، ولذلك لم تنتبه إليه؛ لأننا لا ننتبه عادة للعوارض النفسية مثل انتباهنا للعوارض الجسدية.

لست أدري – أيها الرفيق العزيز – هل فهمت عني ما أقصده أم لا.. ولذلك سأذكرك، فلعلك تتدارك ما حصل لروحك، مثلما تداركت ما حصل لجسدك، ولعلك تقسم قسمًا جديدًا على عدم الدخول لتلك المطاعم التي تصيب أجهزتك الحقيقية بالسمية، مثل توبتك عن المطاعم التي تتسبب في عطب الآلات التي تستخدمها، والكفن الذي تلبسه.

لقد رأيتك البارحة تدخل ذلك النادي الثقافي المحترم، وكنت تعرف جيدًا أصحابه، وأنواع الأحاديث التي يشتهونها، وكان في إمكانك، وأنت تطرح أسئلتك عليهم أن تصرفهم إلى علم ينتفعون به، أو جهل يزيلونه، أو خدمة عامة يسارعون إليها، لكنك ـ ولعلمك بثقل أمثال تلك الحديث عليهم – رحت تتودد لهم، وتسألهم عن الشخص الذي تعرف موقفهم منه جيدًا.

وكانت فرصة لهم؛ لأن يقوموا بإحضاره أمامك، ثم التفنن في تشريحه، وطبخه على نيران أحقادهم الهادئة، ثم الشروع في أكله بعد نضجه؛ ثم وقفت وأنت تتفرج عليهم، وكيف ينهشون لحمه الميت المحترق، وتتلذذ بذلك.

نعم لم أرك تحمل شوكة ولا سكينًا لتشاركهم في ذلك الطعام المسموم، ولكنك كنت أنت الذي أحضره إليهم بذلك السؤال الذي تعرف مسبقًا جوابه.. ولذلك كان وبال كل ما حصل له مرتدًّا إليك؛ فأنت صاحب الإثم الأول؛ فكما أن الدال على الخير كفاعله، فكذلك الدال على الشر كفاعله.

والمصيبة الأعظم – أيها الرفيق العزيز – هي أنك لم تنبس ببنت شفة لتنهاهم عن ذلك الأكل المسموم، لأنك تتصور أن الأكل المسموم لا يوضع فقط إلا في المطاعم التي تغذي الجسد، مع أن أخطر أنواع السموم هي تلك التي تصيب الروح والعقل والقلب؛ فتنزل بالإنسان من درجته الرفيعة المكرمة إلى درجة أدنى من درجات البهائم.

لا تحسبن أني – أيها الرفيق العزيز – أزعم لنفسي علم الغيب، أو الاطلاع على اللوح المحفوظ، أو الشق على الصدور لمعرفة ما تكتنزه من خير وشر، ولكني ليقيني العظيم بما ورد في النصوص المقدسة التي توضح حقائق الوجود كما هي من غير تزوير ولا تبديل ولا لف ولا دوران، رأيت كل ذلك..

لقد سمعت ربي في القرآن الكريم يعتبر كل كلام جارح ومؤذ في حق الآخرين نوعًا من أكل لحومهم الميتة المسمومة؛ فقد قال تعالى يعبر عن الحقيقة التي لا نراها بأبصارنا الفانية: )وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ( (الحجرات: 12).

وقد فسر رسول الله J الآية الكريمة؛ فأخبر عن المصير المؤلم الذي ينتظر الداخل إلى نادي المغتابين، فقال: (من أكل لحم أخيه في الدّنيا قرّب له يوم القيامة؛ فيقال له: كله ميتًا كما أكلته حيًّا؛ فيأكله ويكلح ويصيح)([1]).

بل إن رسول الله J أخبر عن بعض رؤيته لحقيقة المغتابين التي تختفي وراء تلك المظاهر الكاذبة التي نراها منهم، وهم يشعرون في ظاهرهم بالسعادة والسرور والأنس، بينما باطنهم وحقيقتهم تصيح بالألم والشقاء والوحشة، ففي الحديث قال رسول الله J: (لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم)([2]).

وفي حديث آخر عن جابر قال: كنّا مع النّبيّ J؛ فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول اللّه J: (أتدرون ما هذه الرّيح؟ هذه ريح الّذين يغتابون المؤمنين)([3]).

وفي حديث آخر أن النّبيّ J مر بقبرين؛ فقال: (إنّهما ليعذّبان، وما يعذّبان في كبير، أمّا أحدهما فيعذّب في البول، وأمّا الآخر فيعذّب في الغيبة)([4]).

وفي حديث آخر أنّ النّبيّ J قال: (من أكل برجل مسلم أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوبًا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)([5]).

وفي حديث آخر قال J: (من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنّم؛ حتّى يأتي بنفاد ما قال فيه)([6]).

=======================

([1]) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 485): سنده حسن.

([2]) أحمد في المسند (3/224)، وأبو داود (4878).

([3]) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/515) واللفظ له، وقال: رواه أحمد وابن أبي الدنيا ورواة أحمد ثقات، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/484): سنده صحيح.

([4]) أحمد في المسند (5/35 – 36)، وابن ماجة (1/349) واللفظ له، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/485): أخرجه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.

([5]) أحمد في المسند (4/229)، وأبو داود (4881) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (4/127 – 128) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

([6]) الترغيب والترهيب للمنذري (3/515) وقال: رواه الطبراني بإسناد جيد.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …