أخبار عاجلة

الأوبئة في مصر الحديثة

مصر آمنة مؤمنة بفضل الله ودعوات الأنبياء والصالحين، ولكن يجري عليها ما يجري على الأمم من انتشار أوبئة بين الوقت والآخر..

الأستاذ صلاح البيلي

مصر آمنة مؤمنة بفضل الله ودعوات الأنبياء والصالحين، ولكن يجري عليها ما يجري على الأمم من انتشار أوبئة بين الوقت والآخر، وفي هذه السطور تعود بنا المؤلفة ليلى السيد عبد العزيز إلى الوراء قليلًا لنقف مع المؤرخين في العصور الوسطى؛ حتى عصر محمد علي باشا، ونقرأ ماذا كتبوا عن الطاعون والأوبئة التي كانت تجتاح مصر في ظل الاحتلال العثماني لمصر والقضاء عليها كعاصمة خلافة، وتحويلها إلى ولاية تابعة لإسطنبول تدر فقط للأتراك اللبن والعسل والدنانير الذهبية!..

إنه عرض لكتاب (الأوبئة والأمراض وأثرها على المصريين) الصادر عن هيئة الكتاب ضمن سلسلة (تاريخ المصريين) فإلى التفاصيل.

تقول المؤلفة: في سنة 1598م أصابت البلاد مجاعة وكان عدد الوفيات كبيرًا لدرجة أن الحاكم (علي باشا) منع دفن الجثث علنًا؛ حتى لا يزيد من حالة الفزع العامة.

وبعد ذلك بعشرين عامًا أدى وباء عنيف إلى موت أكثر من ستمائة ألف نفس.

وفي سنة 1642م ضرب نفس الوباء القاهرة وضواحيها وحصد أكثر من تسعمائة ألف نفس. على ما يقول الرحالة (دي فوجاني) في كتابه (القاهرة وضواحيها) ترجمة مدحت عايد فهمي.

وكانت مجموعة من الرحالة الإيطاليين قد نزلت من الإسكندرية إلى رشيد سنة 1599م وعندما بلغهم نبأ تفشي الطاعون قطعوا رحلتهم التي كانوا ينوون فيها زيارة القاهرة وسيناء والأراضي المقدسة في فلسطين، وعادوا للإسكندرية واستقبلهم قنصل فرنسا وآمنهم.

وكما يذكر علي باشا مبارك في كتابه (الخطط التوفيقية) فإن الطاعون والمجاعة ضربتا مصر سنة 1602م وفتك بالقرى والأمصار، ثم آخر سنة 1619م واشتد بطشه حتى أقفلت الأسواق وتعطلت الأعمال، ثم حصل غرق عظيم تلاه وباء أليم وقحط مهين، وأن معظم من ماتوا بالداء شبان بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وبلغ عدد من توفى بسببه 365 ألف نفس.

وفي سنة 1620م حدث غلاء ووباء شديدان في زمن (إبراهيم باشا)، وفي سنة 1624م طغى النيل وخافت الناس الغرق والقحط ولكن الله سلم وزرعت الناس وأخصب الزرع لكن حدث وباء. ولم ينته الطاعون ففي سنة 1625م مات أكثر من 300 ألف نفس من القاهرة، ولتسكين روع الخلق أمر الباشا بعدم الصياح فكان الميت يمر بالحارة ولا يسمع به، وكان الباشا يستحوذ على التركات!

وفي طاعون 1630م فر التجار الفرنسيون والإنجليز أفواجًا، كذلك كان المسيحيون المصريون يحاكون هؤلاء الأجانب طالما كانت الفرصة متاحة والمخاطر محدودة.

وفي 1639م انخفض النيل فزادت الأسعار وتلاه وباء وكثر السارقون وقطاع الطرق، ولكن أشهر طاعون كان سنة 1640م زمن (منصور باشا) وكان ابتداؤه ببولاق قبل أن يحل بالقاهرة بعد شهرين ومات فيه 900 ألف نفس؛ حتى صارت الموتى تدفن بدون صلاة، وخرب بهذا الطاعون 230 بلدة من الجهات البحرية كما ذكر أبو السرور البكري.

وفي سنة 1685م عاد الرحالة (جوزيف بت) من الأراضي المقدسة بفلسطين مارًّا بالقاهرة وسمع عن الطاعون ففر إلى رشيد ومنها إلى الإسكندرية وشاهد الجثث متراكمة بالشوارع والميادين والأسواق وأصيب بعض الأجانب، واضطر قبطان السفينة عند العودة إلى إلقاء 20 شخصًا في البحر كانوا مصابين بالطاعون؛ حتى لا يعدوا الباقين، وأصيب (جوزيف) بالطاعون ونصحه البعض بتحميص بصلة وتقطيعها وخلطها بالزيت ثم وضعها على البثور المتقيحة كي تطرى ويتم فصدها دون خطورة!

وفي كل طاعون كان الحكام وذويهم وأتباعهم – كما تقول د. ليلى عبد العزيز في كتابها (الأمراض والأوبئة في مصر) – كانوا يعتزلون الجميع، وحين كانت العدوى تبدو أكثر تدميرًا كانوا يغادرون القلعة سريعًا إلى خارج القاهرة، على نحو ما حدث في ولاية (حمزة باشا) سنة 1685 و1686م حيث هرب هو وأولاده وحريمه، كذلك كان ممثلو النخبة الحاكمة والفرق العسكرية يفرضون على أنفسهم نوعًا من العزلة في بيوتهم الواسعة والأكثر صحية والمزودة بالحاجيات الغذائية كافة، والبعض الآخر كان يغادر القاهرة إلى الريف البعيد، وكانوا يمتنعون عن الاتصال بالجماهير ويمنعون أي مريض موبوء من أن يتسلل إلى بيوتهم، وكان وصف العامة لهم بأنهم متفرجون!

وفي الوباء العظيم سنة 1692م بلغ حد الموتى أن وصل سعر الكفن إلى (20 و25 كيسًا) – والكيس المصري كان من ستمائة قرش أما التركي فكان من خمسمائة قرش ويسمى الرومي، وألغيت عملة الكيس سنة 1862م – وكان عدد من الأثرياء يحملون الأموات من الأزقة والشوارع إلى المغسل السلطاني ويكفنونهم على نفقتهم الخاصة ويسارعون بدفنهم، وبعضهم شيد مقابر خاصة للضحايا كما في طاعون ومجاعة 1694م والتي استمرت عامين وسموا هذا الوباء (فصل الشحاتين – والهبا – والشراقي) وازداد بناء المقابر بما فيها (ترب الغربا) أي الغرباء!

وفي سنة 1729م حدث طاعون زمن (شياخة ذي الفقار) على القاهرة كما حدث طاعون آخر زمن شياخة (عثمان بك) واستمر مدة مع قحط شديد، وفي سنة 1733م تولى (علي بك ذو الفقار) حكم جرجا وهو من مماليك (قطامش) وتوفى بالطاعون، وفي سنة 1735م وقع طاعون شديد بحيث مات من بيت (عثمان كتخدا القازدغلي) فقط مائة وعشرون نفسًا، وصارت الناس تدفن الموتى بالليل بالمشاعل، وسماه العامة (طاعون كو، أو الكناس، أو فصل الشباب، أو فصل الحور والولدان، أو العائق يأخذ على الرائق)!

وفي 1758م وقع الطاعون بعد مطر شديد وسيل وسماه الناس (قارب شيحة الذي أخذ الملح والمليحة)، وفي 1763م وقع طاعون مات فيه ما بين خمسة آلاف وستة آلاف يوميًّا، وقد عدد الموتى 300 ألف نفس، وفي 1785م واكب انتشار الطاعون جفاف النيل فانتشرت المجاعات وتوالت المصادرات والمظالم، وتعدى الأمراء المماليك كل حدود الظلم وانتشر أتباعهم في القرى لجلب الأموال لدرجة باع الملتزمون دورهم ومواشيهم وفاء لذلك، وتتبع المماليك كل من يشم فيه رائحة الغنى فيأخذونه ويحبسونه ويكلفونه فوق طاقته أضعافًا، بل إنهم طمعوا في المواريث فإذا مات الميت يستولون على ما خلفه سواء أكان له وارث أو لم يكن!

وعلق الجبرتي على ذلك بأن الناس نسوا أمر الغلاء بسبب الطاعون، ثم كان طاعون 1790م ومات فيه ما بين 1500 و2000 نفسًا يوميًّا، وأخذ هذا الطاعون ثلث القاهرة ومات (إسماعيل بك) كبير المماليك بالطاعون ومات نصف مماليكه وفقدت القاهرة أكثر من ستين ألفًا بين 6 و9 أبريل من نفس العام، وذكر علي باشا مبارك في خططه أن الحكام تغيرت في اليوم الواحد أربع مرات، وذكر أمين باشا سامي في (تقويم النيل) أن الأغا والوالي ماتا بالطاعون، فولي مكانهما فماتا بعد ثلاثة أيام، فولى خلافهما فماتا أيضًا، واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة في الأسرة الواحدة!

ووصف الجبرتي هذا الطاعون وصفًا دقيقًا ومما قاله: (.. وازدحموا على الحوانيت في طلب العدد والمغسلين والحمالين، ويقف في انتظار المغسل الخمسة والعشرة يتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضًا أو ميتًا أو عائدًا أو معزيًا أو مشيعًا أو راجعًا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولًا في تجهيز ميت أو باكيًا على نفسه موهومًا، ولا تنقطع صلاة الجنازة من المساجد والمصليات، ولا يصلى إلا على أربعة أو خمسة في الصلاة الواحدة..)

ثم يصف لنا بعضًا من حال المماليك بقوله: (ولما مات (إسماعيل بك) تنازع الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار ثم اتفقوا على تأمير عثمان بك طبل على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده، وقلدوا حسن بك قصبة رضوان أمير حاج، ثم أنهم أظهروا الخوف والتوبة والإقلاع وإبطال المظالم وزيادة المكوسات ونادوا بذلك وقلدوا أمراء عوضًا عن المقبورين من مماليكهم!

ولما جاءت الحملة الفرنسية غازية لمصر وضعت نظام الحجر الصحي في مداخل القاهرة ومخارجها وفي المدن الحدودية كرشيد ودمياط والإسكندرية، وكان اسم المحجر (الكرنتينة)، ويبدو أن الجبرتي مؤرخنا العظيم كان يستعد للسفر خارج القاهرة ومنعته (الكرنتينة) من ذلك فيقول: فحين عزمت على السفر وصممت وأخذت في الاستعداد وتأهبت حدثت عوائق في الطريق وموانع بسبب الكرنتينات التي هي من البلاء والآفات أقيمت كالشجا في فم البر والبحر..

ويصف حالهم مع من أصابه الطاعون: إذا مات أخذه الموكلون بالكرنتينة ودفنوه بثيابه في حفرة وردموا عليه التراب، أما داره فلا يدخلها أحد ولا يخرج منها مدة أربعة أيام، وحرقوا ثيابه وأوقفوا حارسًا على باب داره فإذا لمس أحدهم الباب أخذوه وكرنتوه في الدار، وإن مات يكرنتون كل من باشره بغسل أو حمل أو دفن، فهال الناس ذلك الفعل واستبشعوه وأخذوا في الهرب والخروج من مصر إلى الأرياف لذلك.

وفي 8 فبراير 1801م تلا وكيل الديوان للمشايخ أمر ساري عسكر فيما يتعلق بأمر الكرنتينة مع استعمال القصاص ولو بالموت عند المخالفة..، ولما ضج الناس خرج أمر آخر في 10 مارس 1801م يصفه الجبرتي كالآتي: نادوا في الأسواق بالأمان وعدم الانزعاج من أمر الكرنتينة وإن من مات لا تحرق إلا ثيابه التي على بدنه لا غير، وكان أشيع أن من مات بدار أحرقوا تلك الدار وقصدهم عمل كرنتينة على البلد بتمامها، فحصل للناس كرب عظيم ووهم جسيم فنودي بذلك ليسكن روع الناس!

وبعد الحملة الفرنسية عاد الناس للعلاج الشعبي على يد طائفة الحكماء – جمع حكيم – والحلاقين بالفصد والحجامة والكي بالنار مع انتشار الاعتقاد بالسحر والحسد والجن ودور الدجالين في علاج كل ذلك، كما انتشر التداوي بالأعشاب الطبية وبالأدوية، علاوة على زيارة الأضرحة للتبرك بها، واستمر كل ذلك حتى بدأ عصر جديد مع استعانة محمد علي باشا بالفرنسي (كلود بك) الذي شرع في تأسيس مدرسة الطب وبدأ نوابغ الطب المصري من محمد البقلي إلي علي باشا إبراهيم وغيرهما.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …