بيَّنَّا اللقاء الماضي أن عقيدة الإسلام حلَّت مشكلة منهجية وقفت في المنطق اليوناني طيلة عشرين قرنًا بدون حل، بل بدون أن ينتبه الأوربيون إلى أنها مشكلة، أو أنه خطأ منهجي عندهم يستوجب التفكير.. وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن التوجيهات الخُلقية، فنقول…
أ.د. فاروق الدسوقي
بقية: ثانيًا: التوجيهات المعرفية العقلية:
ج- إعلاء القرآن الكريم من قيمة الـشـيء الـجـزئـــي المحـســوس واعـتـمـاده كـمـوضــوع حـقـيقي للعلم:
قال تعالى: )يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ( (لقمان: 6).
ماذا كان لقمان A يريد أن يقول لابنه من وراء هذه الكلمات؟
أرجح الظن أن مجتمع لقمان في هذا الوقت كان مصابًا بالانحراف المنهجي الذي أصيب به مجتمع اليونان والحضارة الأوربية حين رفضوا أن يكون الجزئي المحسوس موضوعًا صالحًا للعلم، لقد أخذ هذا الانحراف بأرسطو إلى القول بأن الإله لا يعلم شيئًا عن العالم والأشياء الجزئية؛ لأن العالم أقل شأنًا من أن يعلمه الإله، فجعل إلهه جاهلًا بكل شيء جزئي.
ولقد أدى هذا الانحراف المنهجي بمتفلسفة العالم الإسلامي (الفارابي وابن سينا) إلى القول بأن الإله لا يعلم الجزئيات أو يعلمها بعلم كلي. وهذا كفر بالله وبما جاء من آيات محكمة في القرآن. فمثقال حبة من خردل يعلمها الله في الزمان وفي المكان سواء كانت في السماوات أم في الأرض وهو U إذا أراد أتى بها، فهو مهيمن عليها وعلى كل شيء جزئي وكلي.
ولا يعني كونها شيئًا جزئيًّا محسوسًا أنها محل ازدراء أو لا تستحق أن يعلمها الله U، فعلم الله كامل شامل محيط.
وكونها محسوسة جزئية لا يقلل من أهميتها كموضوع صالح للعلم والمعرفة الله U ثم للإنسان.
ومثل ذلك قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا( (البقرة: 26) .
ومثلها قوله I مخبرًا رسوله أنه سمع شكوى امرأة بعينها في زمن ومكان محددين: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ( (المجادلة: 1).
وقوله I مخبرًا الناس أنهم جميعًا سيأتون إليه للحساب فرادى يعامل كلًّا منهم معاملة خاصة فردية حسب حالته وأفعاله وظروفه وأحواله الجزئية: )لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا( (مريم: 94، 95).
كل هذا وغيره كثير في القرآن أنقذ عقول المسلمين من الوقوع في الانحراف المنهجي الخطير القائل بأن الجزئي المحسوس لا يصلح موضوعًا للعلم، وأن الكلي هو الموضوع الوحيد للعلم، وكان هذا الإنقاذ وهذا التوجيه الإلهي العظيم الخطوة الأولى التي خطا بها المسلمون نحو المناهج العلمية الصحيحة، وبخاصة المنهج الاستقرائي القائم على المحسوس.
إن تصريح ربنا U بأنه يعلم حبة الخردل الجزئية، ويسمع شكوى المرأة فلانة بنت فلان لرسول الله، ومعاملة كل فرد بأحواله الخاصة أعطى للعقل الإسلامي الثقة كل الثقة في الشيء الجزئي، فتوجه إليه، وهو على يقين في أنه متوجه إلى موضوع حقيقي للمعرفة، بعكس الحال طيلة عشرين قرنًا من عمر الأوربيين، حيث ظلوا محجمين عن التوجه للشيء الجزئي كموضوع للمعرفة ونبذوا الاستقراء طاعة عمياء لأرسطو وثقة مطلقة في منطقه.
وما كان للأوربيين أن يصلوا إلى هذه الثقة في الشيء الجزئي ويعتمدوا الاستقراء، لولا أنهم تأكدوا من سلامة المنهج الاستقرائي، وضلال منهج أرسطو ومنطقه، بسبب النتائج المدهشة التي توصل إليها أساتذتهم المسلمون.
د- إعطاء الحس البشري الأهمية الكافية كأجهزة للإدراك عند الإنـســان، واعتـمــاد الإحـســـاس كمـنـافـذ ووســائـــل موثـوق بـها للمعرفة الإنسانية:
كثيرًا ما يذكرنا ويمن علينا الله U بالسمع والبصر، إشعارًا لنا بأهمية الإحساس للإنسان، فلا مجال إذن لاحتقار الإحساس أو احتقار المعارف الآتية منه أو الشك في صحتها: قال تعالى: )إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان: 2).
وقال تعالى: )ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ( (السجدة: 9).
فجمع الله U بين الأفئدة أو العقول وبين السمع والأبصار؛ مما يؤكد خطأ اليونانيين والأوربيين الكلاسيكيين حين فرقوا بين معارف العقل واعتبارها يقينية، ومعارف الحس واعتبارها غير يقينية ومحل شك.
كذلك وصف الله U نفسه بأنه سميع بصير: )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( (الشورى: 11).
وهذا يعني أن السمع والبصر من صفات الكمال؛ لأن الله U منزه عن كل نقص، وهذا يعطينا الثقة في أن السمع والبصر عند الكمال الإنساني، وأن ما يحصله الإنسان عن طريقهما وطريق الحس من معارف هي معارف يقينية مؤكدة لا شك فيها، كذلك ينبه القرآن الكريم إلى خطورة تعطيل هذه الحواس أو إهمالها كوسائل معتمدة للمعرفة حين يصف الكافرين بأنهم كالدواب: صم بكم عمى؛ في قوله عز من قائل: )وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ( (البقرة: 171).
فجعل تعطيل عقولهم نتيجة لتعطيل سمعهم وأبصارهم فهم لا يفهمون بعد أن أصبحوا صُمًّا بكمًا عميًا. وقد أصبحوا بذلك كالأنعام والدواب النافقة، وهذا ارتفاع إلى مستوى جوهر الإنسانية وحقيقتها حين يستخدم الإنسان حواسه وفؤاده وانحطاط إلى مستوى البهيمية حين يعطلها.
وهذه الأجهزة العظيمة عند الإنسان لم يعطها الله للإنسان هباء، بل هي محل ابتلاء ويُسأل الإنسان عن استخدامها، كما يُسأل عن تعطيلها أو إفسادها، قال تعالى: )إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا( (الإسراء: 36).
ومعنى هذا أن الله U يحذر المسلمين من الخطأ المنهجي والانحراف المنطقي الذي وقع فيه الأوربيون حيث عطلوا الإحساس ورفضوا اعتماده كجهاز صالح للمعرفة الإنسانية. مما كان لذلك التحذير الأثر الواضح في اعتماد العلماء المسلمين الإحساس مع الأفئدة – كمصادر يقينية – للمعرفة والعلم.