بيَّنَّا اللقاء الماضي أنه يمكن بيان أثر وتوجيهات القرآن الكريم وعقيدة التوحيد في اكتشاف المسلمين للمناهج العلمية الصحيحة في نوعين من التوجيهات:
الأولى: توجيهات خلقية سلوكية.
الثانية: توجيهات عقلية معرفية.
وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن التوجيهات الخلقية، فنقول:…
أ.د. فاروق الدسوقي
بقية: أولاً: التوجيهات الخلقية:
ب- التوجيه الأول: ترك الاعتزاز بالآباء والغرور الاجتماعي:
كثيرًا ما يظهر الحق أمام الإنسان بالبينة والدليل، ولكنه يرفض الإقرار والاعتراف به، وسبب ذلك آفة الاعتزاز بالآباء والغرور الاجتماعي.
وعلة هذه الآفة حب الوالدين والأجداد والوطن واعتزاز بهم ، فإذا تبين – ولو بالدليل العلمي – بطلان عقائد الآباء وأفكارهم وتفسيراتهم الطبيعية والكونية، عز على الإنسان أن يحكم بسهولة على آبائه بالجهل والضلال، وهنا يحدث عنده – نتيجة الاعتزاز بالآباء – سوء الاختيار والإصرار على الباطل.
ومن ثم ندَّدَ القرآن الكريم بالذين يصدقون عقائد الآباء بدون دليل وبرهان، ويرفضون الحق والحقيقة مع وجود الدليل والبرهان عليها.
ويسخر من هؤلاء الذين آمنوا بوثنيات وخرافات وأوهام وأباطيل وتمسكوا بها بسبب الاعتزاز بالآباء، ولمجرد أنها كانت عقيدة الآباء وعلومهم وأفكارهم.
قال تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ( (البقرة: ۱۷0، ۱۷1).
ففي هاتين الآيتين دعوة للمشركين إلى انتهاج نظرة موضوعية في دراسة معتقدات الآباء مستخدمين عقولهم وأجهزة الإدراك البشرية فيما ورثوه عن الآباء وفي الحق النازل إليهم متخلصين من تأثير البيئة والاعتزاز بالآباء والغرور الاجتماعي هذا الذي منعهم من ارتياد المنهج الفكري القويم، وعطلهم عن استخدام أجهزة الإدراك البشرية التي وهبهم الله إياها فأصبحوا في ترديدهم للباطل وإصرارهم عليه بحجة أنه دين الآباء كمثل الحيوان الذي ينعق، فتعطل بذلك سمعهم وبصرهم عن التحصيل العلمي، فهم لا يعقلون.
وليس من علاج لهذه الآفة إلا تحرير إرادة الانسان من الميل عن الحق إلى الباطل بسبب الاعتزاز بالآباء، وذلك بالتخلص من هذا الشعور؛ وبذلك يتحقق شرط من شروط الموضوعية في البحث.
ج – التوجيه الثاني: التخلص من الاعتزاز بالنفس أو الغرور الذاتي:
لا شك أن المعرفة والعلم أحد معالم الإنسانية ومميزها الذي يفضل الإنسان عن سائر الأحياء الأخرى، لذلك يعتبر العلم موضع فخر ومدعاة للشعور بالأفضلية، بل هو في هذا المجال يميز المال والجاه، وقد يميز السلطان أيضًا. فالعلم والمعرفة مصدران من مصادر الغرور والتعالي والكبر في النفس البشرية.
وليس أقسى على الإنسان من وصفه بالجهل، وخلوه من العلم والمعرفة، إنه حينئذ يشعر بالدونية عن غيره من الذين يعلمون.
من هنا يتولد عند الكثير من الناس دافع باطني إلى الإصرار على صحة ما يعرفه ومحاولة إثبات أحقية وصحة ما يعلمه من أفكار ومبادئ ونظريات ومعتقدات ومعلومات سبق له أن حصلها عن طريق التربية في البيت أو التلقي في دور التعليم أو الاكتساب الشخصي، كالخبرات أو أي تفسيرات ذاتية لما حوله من ظواهر وبالتالي محاولة إبطال كل ما يخالف معتقداته ومعارفه.
ومن ثم يتبع هذا الشعور رفضه وعداوته لكل ما يجهل ومعارضته لكل ما يخالف معتقداته ومعارفه قبل أن يتثبت من صدق ما يعلم ومن بطلان ما يخالفه.
وإذا لم يقاوم الإنسان هذين الشعورين انقلبا عنده إلى دافعين نفسيين يتملكانه في النهاية هما: الغرور الذاتي، والاعتزاز النفسي، فيمنعه هذا وذلك عن الرؤية الموضوعية الصحيحة والنظرة المحايدة والنقد العلمي لما يعتقده ولما يعلمه ولما يعرض عليه في المقابل.
وقد أثبت القرآن الكريم أن تفكير الإنسان وبحثه في مجال العقائد كثيرًا ما ينحرف بسبب هذا الشعور أو الدافع، وليس الأمر قاصرًا على مجال العقائد فقط، إذ إن هذا الدافع، إذا لم يتخلص منه الباحث، سواء كان في مجال العلوم التجريبية أم الإنسانية أم غيرها، فإنه يعيقه عن الموضوعية في البحث، تلك التي تعتبر أساسًا للمناهج العلمية الصحيحة.
فالاعتزاز الذاتي والغرور النفسي أحد العوامل الرئيسة المفسدة لمنهج البحث الصحيح والمنطق السديد.
والمثل الواضح على هذه الحالة، هو مثل المفسد الذي يعتقد أنه يصلح، فإذا ظهرت له البينات والأدلة على فساده أخذته العزة بالإثم ورفض الإقرار بالحقيقة الواضحة.
قال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ( (البقرة: 204 – 206).