أخبار عاجلة

اكتشاف فقهاء المسلمين لقواعد تحقيق العلة في علم أصول الفقه وتطبيقه في العلوم الطبيعية (2)

بيَّنَّا اللقاء الماضي أن الرابطة الجامعة بين العلوم الفقهية بخاصة والدينية بعامة من ناحية، وبين العلوم الطبيعية والفلكية والكيميائية والطبية من ناحية أخرى، هي ارتباط العلم في كلا المجالين بالفائدة العلمية والنتيجة التطبيقية.. وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن موضوع آخر، فنقول..

أ.د. فاروق الدسوقي

قواعد تحقيق العلة في المنهج التجريبي عند المسلمين وادعاء جون ستيوارت مل:

إذا كنا بإزاء حكم شرعي أو ظاهرة طبيعية أو نفسية أو اجتماعية وأردنا معرفة كل منها فعلينا افتراض حدث سابق للمعلول على أنه العلة، ثم يلزم اتباع القواعد الآتية للتحقق من صحة هذا الفرض.

ذلك أن قاعدة واحدة لا تكفي، إذ عادة ما يسبق الحدث ـ الذي هو معلول – عدة ظواهر أو أحداث، بحيث يصعب على الذهن بدون هذه القواعد التجريبية معرفة أي ظاهرة بعينها هي العلة. أي أن هذه القواعد هي السبيل لتعيين وتحديد العلة من بين السوابق التي تسبق حدوث المعلول.

وذلك لأنه عادة ما تتشابك عدة ظواهر وتتفاعل بشكل معقد، لإنتاج المعلول، ومن هنا كانت الحاجة ضرورية لقواعد دقيقة يستعين بها المجرب أو المستقرئ أو القائس المعرفة العلة الحقيقية واستنباطها من الظواهر العديدة والمعقدة السابقة على المعلول.

ومما يجدر ذكره أن قواعد المنهج التجريبي الذي نشأ أولًا على أيدي الفقهاء المسلمين هي نفس القواعد المستخدمة بعينها في العلوم الطبيعية والعلوم الدينية، بيد أن الفرق بينهما هو أن المعطيات والملاحظات المستخدمة في القياس الأصولي الخاص بالفقه والعلوم الدينية هي: أحكام وحقائق دينية متمثلة في آيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية صحيحة، وأحكام مجمع عليها مستنبطة منهما. بينما ملاحظات ومعطيات العلوم الطبيعية ليست سوى معلومات وحقائق طبيعية مستقرأة من الطبيعة بالملاحظة والمشاهدة.

وفي هذا أبلغ دلالة على أن الذي يفرق بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية جاهل بالاثنين معًا. حتى أن بعض هؤلاء يزعم أنه يجب علينا كمسلمين أن نترك التفكير الديني ومناهج الدين؛ حتى نأخذ بالمنهج التجريبي، وحتى نلحق بالحضارة الغربية المتطورة، جاهلين أن المنهج التجريبي ما نشأ لأول مرة في تاريخ البشرية إلا في أحضان العلوم الإسلامية وعلى أيدي فقهاء المسلمين.

وهؤلاء يجهلون أيضًا أنهم بدعوتهم المسلمين ترك دينهم بهذه الحجة ينعقون بألا يسمعون إلا دعاء ونداء؛ وفي مثلهم قال تعالى: )وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ( [البقرة: 171].

وذلك لأنهم سمعوا الأوربيين يرددون قولتهم بأنهم لم يتقدموا في العلم والصناعة والمدنية؛ إلا بعد أن تركوا مناهج الكنيسة بما في ذلك منطق أرسطو واتبعوا المنهج التجريبي في أبحاثهم الخاصة بالعلوم الطبيعية، فإذا بهم يرددون هذا الدعاء والنداء للمسلمين، فأصبحوا كالببغاوات والقردة يقلدون الأصوات والحركات بدون وعي وفهم وتدبر، ولو فهموا وعلموا لكانت دعوتهم المسلمين إلى التمسك بالإسلام والعودة إلى القرآن والسنة، اللذين بهما اكتشفت البشرية المناهج العلمية الصحيحة – بما في ذلك المنهج التجريبي – هي السبيل الصحيح للرقي الحضاري بعامة، وتصحيح مناهج التفكير لدى أبناء المسلمين بخاصة.

فحقيقة الأمر أننا يجب علينا – كمسلمين – أن نعود إلى القرآن والسنة عقيدة وشريعة ومنهاجًا للحياة، إذا أردنا أن نقيم حضارة إنسانية كاملة تقوم على الدين والعلم معًا، وتحقق من خلالها العبودية لله والسيادة في الأرض معًا.

وسنستعرض الآن قواعد المسلمين في تحقيق العلة، ثم نستعرض نفس القواعد عند جون ستيوارت مل المتوفى في نهاية القرن التاسع عشر.

أولاً: القاعدة الأولى:

أـ عند المسلمين:

تقول هذه القاعدة أو هذا القانون عند المسلمين: (ينبغي أن تكون العلة مطردة، أي كلما وجدت العلة في صورة من الصور وجد الحكم: أي تدور العلة مع الحكم وجودًا، فكلما ظهرت ظهر)([1]).

وتفسيره أننا نستطيع التثبت من أن الحكم أو الظاهرة “أ” هي علة للحكم أو الظاهرة “ب”، إذا تبين لنا أنه كلما وجدت “أ” وجدت “ب”؛ لأن اطراد حدوث تعرض إنسان لحرارة الشمس العالية مدة طويلة مع ارتفاع حرارته وإغمائه أو ما يسمى بأعراض ضربة الشمس، فإننا نستطيع أن نحكم بأن هذه الأعراض معلول لعلة التعرض لحرارة الشمس لمدة طويلة.

وإذا وجدنا أن الإسكار علة تحريم الخمر وعلمنا أن الإسكار هو علة (لغياب العقل والوعي) فإننا نستطيع أن نحكم على المخدرات بالتحريم بسبب تغيب المخدرات للعقل أو للوعي، فوجود العلة (غياب الوعي أو العقل) في المخدرات ينقل إليها الحكم وهو التحريم.

فكأن هذا القانون أو هذه القاعدة يشترط وجود المعلول كلما وجدت العلة.

ب- عند جون ستيوارت مل والمحدثين الغربيين:

قاعدة الاتفاق (أو التلازم في الوقوع) يقول مل: (إذا كان هناك ظرف واحد مشترك اتفقت فيه حالتان أو أكثر للظاهرة قيد البحث فإن هذا الظرف الوحيد الذي اتفقت فيه الحالات يعد علة الظاهرة أو سببها).

وشرح ذلك: أنه إذا كانت للظاهرة أحوال مختلفة ولكنها دائمًا وفي جميع هذه الأحوال المختلفة تحتوي على عنصر ثابت وباستمرار، فإن هذا العنصر هو علة أحداث الظاهرة، ويعبر عن هذا رمزيًّا بالآتي:

إذا كانت الظواهر أ ب ج تسبق ظ

وإذا كانت الظواهر أ د هـ تسبق ظ

وإذا كانت الظواهر أ و ز تسبق ظ

وإذا كانت الظواهر أ ح م تسبق ظ

فإن أ هي علة ظ.

لأن “أ” هي العنصر المتلازم في الوقوع مع “ظ”، أي أنه مطرد في الوقوع معها، فهو مطرد معها وجودًا، ومن ثم يصبح هو علة “ظ”.

ومن الواضح أن هذه القاعدة هي بعينها قاعدة دوران العلة مع الحكم أو المعلول وجودًا عند المسلمين، وليس الغربيون وجون ستيوارت مل سوى ناقلين من المسلمين فقط.

===============================

([1]) الشوكاني: إرشاد العقول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص١٩٣، عن كتاب الدكتور النشار: نشأة الفكر ج١ ص٢٣ وما بعدها.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …