يا عبد الله! إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم، ويدعوهم إلى ربهم، ويكد نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها، وعبيد وخدم يسترونه عن الناس؛ أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ، أوما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون ولا يشعرون..
الدكتور عبدالحليم العزمي
الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية
جمع المنقول والمعقول يكشف الجمال والكمال المحمدي
قَبل أن نبدأ المُنَاظَرَةَ بين النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ومُشْرِكِي مَكَّةَ نقُدِّمَ لِلْكَلَامِ بِوَقْفَةٍ مُهِمَّةٍ معَ الإمَامِ المُجَدِّدِ أبي العَزَائِمِ في الفَتْحِ الأوَّلِ مِنَ الصَّلَوَاتِ أنَّهُ: لكي نَشْهَدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم دَالًّا بِاللهِ عَلَى اللَّهِ، قَائِمَا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَا بُدَّ أَوَّلًا أن نُظهر عَجْزَنَا عَنْ إِدْرَاكِ ظِلَّ صُورَتِهِ المحَمدِية، وَأَنْ نَذُوقَ حَلَاوَةَ الفَناءِ فِي مَبَادِي مَعَانِي أَنْوَارِهِ الرَّبَّانِيَّة؛ حتي نَثْبُتَ في دَائِرَةِ أَتْبَاعِهِ وَنَنْتَظِمَ فِي عِقْدِ مَعِيَّتهِ، انْتِظَامًا يُشْهِدُنَا جَمَالَهُ فِي كُلِّ مَنْقُولٍ، وَكَمالَهُ فِي كُلِّ مَعْقُولٍ.
لكن للأَسَفِ شَغَلُونَا بِالمَنْقُولِ فَشَهِدْنَا الْجَمَالَ المُحَمَّدِيَّ، وَغيَّبُوا عَنَّا الْمَعْقُولَ فَلَمْ نَشْهَدْ كَمَالَهُ صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه المناظرةُ التي ذكرها الإمامُ الحَسَنُ العَسْكَرِيُّ بينَ النَّبِيِّ ومُشْرِكِي مَكَّةَ أجْلَتْ لنا جانِبَ المَعْقُولِ عِندَهُ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُ وَبَين المَنْقُولِ سنشْهَدُ الجَمَالَ وَالكَمالَ المُحَمَّدِيَّ، وبالتالي لَن نَشْهَدَ إِلَّا هُوَ صلى الله عليه وآله وسلم دَالَّا بِاللهِ عَلَى اللهِ، قَائِمًا للهِ بينَ يَدَيْهِ، عندها لن تسمعَ الأمةُ للخوارجِ الذين يشبِّهونه بساعي البريدِ. فمَاذا جَاءَ في هذهِ المُنَاظَرَةِ.
مُنَاظَرَةُ النَّبِيِّ معَ المُشْرِكِينَ
عَنِ الإِمَامِ العَسْكَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (قُلْتُ لِأَبِي، عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ: هَلْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ينَاظِرُ اليَهُودَ وَالمُشْرِكِينَ إِذَا عَاتَبُوهُ وَيَحَاجُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى مِرَارًا كَثِيرَةً …. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ قَاعِدًا ذَاتَ يَوْمِ بِمَكَّةَ بِفِنَاءِ الكَعْبَةِ، إِذِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ قَرَيْشٍ مِنْهُمْ: الوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ، وَأَبُو البَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالعَاصُ ابْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ، وكانَ مَعَهُمْ جَمْعُ مِمَّنْ يَلِيهِمْ كَثِيرٌ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يقرأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَيْهِمْ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَقَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ وَعَظْمَ خَطْبُهُ، فَتَعَالَوْا نَبْدَأَ بِتَقْرِيعِهِ وَتَبْكِيتِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالاحْتِجَاج عَلَيْهِ، وَإِبْطَالِ مَا جَاءَ بِهِ لِيَهُونَ خَطْبُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَيَصْغُرَ قَدْرُهُ عِندَهُمْ، فَلَعَلَّهُ يَنْزِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيِّهِ وَبَاطِلِهِ، وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ، فَإِنِ انْتَهَى وَإِلَّا عَامَلْنَاهُ بِالسَّيْفِ البَاتِر.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَلِي كَلَامَهُ وَمُجَادَلَتَهُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمِّيَّةَ المخْزُومِيُّ: أَنَا إِلَى ذَلِكَ، أَفَمَا تَرْضَانِي لَهُ قِرْنَا حَسِيبًا، ومُجَادِلًا كَفِيًّا؟ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: بَلَى.
شُبُهَاتُ وَتَسَاؤُلاَتُ المُشْرِكِينَ
فَأَتَوْهُ بِأجْمَعِهِمْ، فَابْتَدَأَ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي أمَيَّةَ المخْزُومِيُّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! لَقَدِ ادَّعَيْتَ دَعْوَى عَظِيمَةً، وَقُلْتَ مَقَالًا هَائِلًا، زَعَمْتَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَمَا يَنْبَغِي لِرَبِّ العَالَمِينَ وَخَالِقِ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ رَسُولَهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا، تَأْكُلُ كَمَا نَأْكُلُ، وَتَشْرَبُ كَمَا نَشْرَبُ، وَتَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ كَمَا نَمْشِي.
فَهَذَا مَلِكُ الرُّومِ وَهَذَا مَلِكُ الْفُرْسِ لَا يَبْعَثَانِ رَسُولًا؛ إلَّا كَثِيرَ المَالِ، عَظِيمَ الحَالِ، لَهُ قُصُورٌ وَدُورٌ، وَفَسَاطِيطُ وَخِيَامٌ، وَعَبِيدٌ وَخُدَّامٌ ، وَرَبُّ العَالِمِينَ فَوْقَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَهُمْ عَبِيدُهُ، وَلَوْ كُنتَ نَبِيًّا لَكَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يُصَدِّقُكَ وَنُشَاهِدُهُ، بَلْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا نَبِيًّا لَكَانَ إِنَّمَا يَبْعَثُ إِلَيْنَا مَلَكًا لَا بَشَرًا مِثْلَنَا، مَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا وَلَسْتَ بِنَبِيٍّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: (هَلْ بَقِيَ مِنْ كَلَامِكَ شَيْءٌ؟).
قَالَ: بَلَى، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا لَبَعَثَ أَجَلَّ مَنْ فِيهَا بَيْنَنَا، أكْثَرَهُ مَالًا، وَأَحْسَنَهُ حَالًا، فَهَلَّا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَهُ عَلَيْكَ، وَابْتَعَثَكَ بِهِ رَسُولًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ القريَتَيْنِ عظِيمٍ : إمَّا الوَلِيدُ بنُ المغِيرَةِ بِمَكَّةً، وَإِمَّا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ التَّقِفِيُّ بالطَّائِفِ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هَلْ بَقِيَ مِنْ كَلَامِكَ شَيْءٌ يَا عبد الله؟).
قَالَ: بَلَى، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا بِمَكَّةَ هَذِهِ، فَإِنَّهَا ذَاتُ أَحْجَارٍ وَعِرَةٍ وَجِبَالٍ، تَكْسَحُ أَرْضَهَا وَتَحْفُرُهَا وَتُجْرِي فِيهَا العُيُونَ، فَإِنَّنَا إِلَى ذَلِكَ مُحْتَاجُونَ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتَأْكُلَ مِنْهَا وَتُطْعِمُنَا، فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا – خِلَالَ تِلْكَ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ – تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا، فَإِنَّكَ قُلْتَ لَنَا: )وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقطًا يَقُولُوا سَحَابُ مَرْكُومٌ( فَلَعَلَّنَا نَقُولُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلًا، تَأْتِي بِهِ وَبِهِمْ وَهُمْ لَنَا مُقَابِلُونَ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ تُعْطِينَا مِنْهُ وَتُغْنِينَا بِهِ، فَلَعَلَّنَا نَطْغَى، وَأَنَّكَ قُلْتَ لَنَا: )كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لِيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(.
ثُمَّ قَالَ: أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ، أَيْ: تَصْعَدُ فِي السَّمَاءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، أي: لِصُعُودِكَ؛ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ: مِنَ اللهِ العَزيز الحكيم إلى عَبْدِ الله بنِ أبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، بأن آمِنُوا بمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ رَسُولِي، وَصَدِّقُوهُ فِي مَقَالِهِ إِنَّهُ مِنْ عِنْدِي، ثُمَّ لَا أَدْرِي يَا مُحَمَّدُ إِذَا فَعَلْتَ هَذَا كُلَّهُ أَؤْمِنُ بِكَ أَوْ لَا أَؤْمِنُ بِكَ، بَلْ لَوْ رَفَعْتَنَا إِلَى السَّمَاءِ وَفَتَحْتَ أَبْوَابَهَا وَأَدْخَلْتَنَاهَا؛ لَقُلْنَا: إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا وَسَحَرْتَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا عبدَ اللهِ! أَبَقِيَ شَيْءٌ مِن كَلامِكَ؟).
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَوَلَيْسَ فِيمَا أَوْرَدْتُهُ عَلَيْكَ كِفَايَةٌ وَبَلَاغٌ، مَا بَقِي شَيْءٌ فَقُلْ مَا بَدَا لَكَ، وَأَفْصِحْ عَنْ نَفْسِكَ إِنْ كَانَ لَكَ حُجَّةٌ، وَأْتِنَا بِمَا سألَنَاكَ بِهِ.
جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى شُبُهَاتِ وَتسَاؤُلاتِ الْمُشْرِكِينَ
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ أَنتَ السَّامِعُ لِكُلِّ صَوْتٍ، وَالعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، تَعْلَمُ مَا قَالَهُ عِبَادُكَ، فَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، يَا مُحَمَّدُ )وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكُ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا( (الفرقان: ٧ – ٩)….
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنِّي آكُلُ الطَّعَامَ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ أَكُونَ لِلَّهِ رَسُولًا، فَإِنَّمَا الأَمْرُ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ مَحْمُودٌ وَلَيْسَ لَكَ وَلَا لِأَحَدٍ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِـ (لِمَ) وَ (كَيْفَ)، أَلَا تَرَى أَنَّ اللهَ كَيْفَ أَفَقَرَ بَعْضًا وَأَغْنَى بَعْضًا، وَأَعَزَّ بَعْضًا وَأَذَلَّ بَعْضًا، وَأَصَحَّ بَعْضًا وَأَسْقَمَ بَعْضًا، وَشَرَّفَ بَعْضًا وَوَضَعَ بَعْضًا، وَكُلُّهُمْ مِمَّنْ يَأْكُلُ الطعام.
ثُمَّ لَيْسَ لِلْفُقَرَاءِ أَنْ يَقُولُوا: “لِمَ أَفَقَرْتَنَا وَأَغْنَيْتَهُمْ”؟، وَلَا للوُضَعَاءِ أَنْ يَقُولُوا: “لِمَ وَضَعْتَنَا وَشَرَّفَتَهُمْ؟”، وَلَا لِلزَّمْنَى([1]) وَالضُّعَفَاءِ([2]) أَنْ يَقُولُوا: “لِمَ أَزْمَنتَنَا وَأَضْعَفْتَنَا وَصَحَحْتَهُمْ؟”، وَلَا لِلأَذِلَّاءِ أَنْ يَقُولُوا: “لِمَ أَذْلَلْتَنَا وَأَعْزَزْتَهُمْ؟”، وَلَا لِقِبَاحِ الصُّوَرِ أَنْ يَقُولُوا: “لِمَ قَبَّحْتَنَا وَجَمَّلْتَهُمْ؟”، بَلْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ كَانُوا عَلَى رَبِّهِم رَادِّينَ، وَلَهُ فِي أَحْكَامِهِ مُنَازِعِينَ، وَبِهِ كَافِرِينَ.
وَلَكَانَ جَوَابُهُ لَهُمْ: أَنا الملكُ، الخَافِضُ الرَّافِعُ، المُغْنِي المُفْقِرُ، المُعِزُّ الْمُذِلُّ، المُصَحِّحُ المُسْقِمُ، وَأَنْتُمُ العَبِيدُ لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِي وَالانْقِيَادُ لِحُكْمِي، فَإِنْ سَلَّمْتُمْ كُنتُمْ عِبَادًا مُؤْمِنِينَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ كُنْتُمْ بِي كَافِرِينَ، وَبِعُقُوبَاتِي مِنَ الهَالِكِينَ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ( يَعْنِي آَكُلُ الطَّعَامَ، وَ)يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ( يَعْنِي قُلْ لَهُمْ: أَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ مِثْلُكُمْ، وَلَكِنَّ رَبِّي خَصَّنِي بِالنُّبُوَّةِ دُونَكُمْ، كَمَا يَخُضُّ بَعْضَ البَشَرِ بِالغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْجَمَالِ دُونَ بَعْضٍ مِنَ البَشَرِ، فَلَا تُنكِرُوا أَنْ يَخُصَّنِي أَيْضًا بِالنُّبُوَّةِ دُونَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَأَمَّا قَوْلُكَ: (هَذَا مَلِكُ الرُّومِ وَمَلِكُ الْفُرْسِ لا يَبْعَثَانِ رَسُولًا إِلَّا كَثِيرَ المَالِ، عَظِيمَ الحَالِ، لَهُ قَصُورٌ وَدُورٌ، وَفَسَاطِيطُ وَخِيَامٌ، وَعَبِيدٌ وَخُدَّامٌ، وَرَبُّ العَالِمِينَ فَوْقَ هَؤُلَاءِ كلِّهِمْ فَهُمْ عَبِيدُهُ)، فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ التَّدْبِيرُ وَالحُكْمُ لَا يَفْعَلُ عَلَى ظَنِّكَ وَحُسْبَانِكَ وَلَا بِاقْتِرَاحِكَ بلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَهُوَ مَحْمُودٌ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ نبِيَّهُ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَكِدَّ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَنَهَارَهُ، فَلَوْ كَانَ صَاحِبَ قُصُورٍ يَحْتَجِبُ فِيهَا، وَعَبِيدٍ وَخَدَمٍ يَسْتُرُونَهُ عَنِ النَّاسِ؛ أَلَيْسَ كَانَتِ الرِّسالَةُ تَضِيعُ وَالأُمُورُ تَتَبَاطَأُ، أَوَمَا تَرَى الْمُلُوكَ إِذَا احْتَجَبُوا كَيْفَ يَجْرِي الفَسَادُ وَالقَبَائِحُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ولا يَشْعُرُونَ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنَّمَا بَعَثَنِي اللَّهُ وَلَا مَالَ لِي، لِيُعَرِّفَكُمْ قُدْرَتَهُ وَقُوَّتَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ لِرَسُولِهِ، وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِهِ وَلَا مَنْعِهِ فِي رِسَالَاتِهِ، فَهَذَا بَيِّنٌ فِي قُدْرَتِهِ وَفِي عَجْزِكُمْ، وَسَوْفَ يُظْفِرُنِي اللهُ بِكُمْ فَأَسَعُكُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، ثُمَّ يُظْفِرُنِي اللهُ ببِلادِكُمْ، وَيَسْتَوْلِي عَلَيْها الْمُؤْمِنُونَ مِن دُونِكُمْ وَدُونِ مَنْ يُوَافِقُكُمْ عَلَى دِينِكُم.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَأَمَّا قَوْلُكَ لِي: “لَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَكَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يُصَدِّقُكَ وَنُشَاهِدُهُ، بَلْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا نَبِيًّا لَكَانَ إِنَّمَا يَبْعَثُ مَلَكًا لَا بَشَرًا مِثلَنَا”، فَالْمَلَكُ لَا تُشَاهِدُهُ حَوَاسُّكُمْ؛ لأَنَّهُ مِن جِنْسِ هَذَا الهَوَاء لَا عِيَانَ مِنْهُ، وَلَوْ شَاهَدتُمُوهُ – بِأَنْ يَزْدَادَ فِي قُوَى أَبْصَارِكُمْ – لَقُلْتُمْ لَيْسَ هَذَا مَلَكًا بَلْ هَذَا بَشَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كانَ يَظْهَرُ لَكُمْ بِصُورَةِ البَشَرِ الَّذِي أَلِفْتُمُوهُ لِتَفْهَمُوا عَنْهُ مَقَالَتَهُ، وَتَعْرِفُوا خِطَابَهُ وَمُرَادَهُ؟
فكَيْفَ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ الْمَلَكِ وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ حَقٌّ، بَلْ إِنَّمَا بَعَثَ الله بَشَرًا وَأَظْهَرَ عَلَى يَدِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي طَبَائِعِ البَشَرِ الَّذِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ ضَمَائِرَ قُلُوبِهِمْ، فَتَعْلَمُونَ بِعَجْزِكُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ معْجَزَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ بِالصِّدْقِ لَهُ، وَلَوْ ظَهَرَ لَكُمْ مَلَكٌ وَظَهَرَ عَلَى يَدِهِ مَا تَعْجَرُونَ عَنْهُ، وَيَعْجَرُ عَنْهُ جَمِيعُ البَشَرِ لم يَكُن فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّكُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي طَبَائِعِ سَائِرِ أَجْنَاسِهِ مِن المَلَائِكَةِ؛ حتَّى يَصِيرَ ذلكَ مُعْجِزًا.
أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الطُّيُورَ التي تَطِيرُ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْهَا بِمُعْجِزٍ؛ لأَنَّ لَها أَجْنَاسًا يَقَعُ مِنْهَا مِثْلُ طَيَرَانِهَا، وَلَوْ أَنَّ آدَمِيَّا طَارَ كَطَيَرَانِهَا كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، فَإِنَّ اللَّهَ U سَهَّلَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرُ، وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ تَقُومُ عَلَيْكُمْ حُجَّتُهُ، وَأَنتُمْ تقْتَرِحُونَ عَمَلَ الصَّعْبِ الَّذِي لا حُجَّةَ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَأَمَّا قَوْلُكَ: “مَا أَنْتَ إِلَّا رَجُلٌ مَسْحُورٌ”. فكَيْفَ أَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّي فِي صِحَّةَ التَّمَيُّزِ وَالعَقْلِ فَوْقَكُمْ، فهل جَرَّبْتُمُ عَلَيَّ مُنْذُ نَشَأْتُ إِلَى أَنِ اسْتَكْمَلْتُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خِزْيَةً أَوْ زَلَّةً، أَوْ كَذِبَةً أَوْ خِيَانَةً، أَوْ خَطَئًا مِنَ القَوْلِ، أَوْ سَفَهًا مِنَ الرَّأْيِ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ رَجُلًا يَعْتَصِمُ طُولَ هَذِهِ المُدَّةِ بِحَوْلِ نَفْسِهِ وَقُوَّتِهَا أَوْ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ؟.
وَذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ: )انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا( إِلَى أَنْ يُثْبِتُوا عَلَيْكَ عَمًى بِحُجَّةٍ أَكثرَ مِنْ دَعَاوِيهِمُ البَاطِلَةِ الَّتِي تَبَيَّنَ عَلَيْكَ تَحْصِيلُ بُطْلَانِهَا.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَأَمَّا قَوْلُكَ: “لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ: الوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِمَكَّةَ، أَوْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ بِالطَّائِفِ”، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ يَسْتَعْظِمُ مَالَ الدُّنْيَا كَمَا تَسْتَعْظِمُهُ أنتَ، وَلَا خَطَرَ لَهُ عِنْدَهُ كَمَا لَهُ عِندَكَ، بَلْ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا بِهِ مُخَالِفًا لَهُ شَرْبَةَ مَاءٍ، وَلَيْسَ قِسْمَةُ اللَّهِ إِلَيْكَ، بَلِ اللَّهُ هُوَ القَاسِمُ لِلرَّحَمَاتِ، وَالفَاعِلُ لِمَا يَشَاءُ فِي عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ.
ولَيْسَ هُوَ عز وجل مِمَّنْ يَخَافُ أَحَدًا كَمَا تَخَافُهُ أَنْتَ لِمَالِهِ وَحَالِهِ فعَرَفْتَهُ بِالنُّبُوَّةِ لِذَلِكَ، وَلَا مِمَّنْ يَطْمَعُ فِي أَحَدٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي حَالِهِ، كَمَا تَطْمَعُ أَنتَ فَتَخُصَّهُ بِالنُّبُوَّةَ لِذَلِكَ، وَلَا مِمَّنْ يُحِبُّ أَحَدًا مَحَبَّةَ الهَوَاءِ كَمَا تُحِبُّ أَنْتَ فَتُقَدِّمُ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، وَإِنَّمَا مُعَامَلَتُهُ بِالعَدْلِ، فَلَا يُؤْثِرُ أَحَدًا لِأَفْضَلِ مَرَاتِبِ الدِّينِ وَجَلَالِهِ؛ إِلَّا الأَفْضَلَ في طَاعَتِهِ، وَالأَجَدَّ فِي خِدْمَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ فِي مَرَاتِبِ الدِّينِ وَجَلَالِهِ؛ إِلَّا أَشَدَّهُمْ تَبَاطُؤًا عَنْ طَاعَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا صِفَتَهُ لَمْ يَنظُرْ إِلَى مَالٍ وَلَا إِلَى حَالٍ، بَلْ هَذَا المَالُ وَالْحَالُ مِنْ تفَضُّلِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهِ ضَرِيبَةُ لازِبٍ([3])، فَلَا يُقَالُ لَهُ: إِذَا تَفَضَّلْتَ بِالمَالِ عَلَى عَبْدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ إِكْرَاهُهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ وَلَا إِلزَامُهُ تَفَضُّلًا؛ لأَنَّهُ تَفَضَّلَ قبله بِنِعَمِهِ.
أَلَا تَرَى يَا عَبْدَ اللَّهِ! كَيْفَ أَغْنَى وَاحِدًا وَقَبَّحَ صُورَتَهُ، وَكَيْفَ حَسَّنَ صُورَة وَاحِدٍ وَأَفْقَرَهُ، وَكَيْفَ شَرَّفَ وَاحِدًا وَأَفْقَرَهُ، وَكَيْفَ أَغْنَى وَاحِدًا وَوَضَعَهُ. ثُمَّ لَيْسَ لِهَذَا الغَنِيِّ أَنْ يَقُولَ: “هَلَّا أُضِيفَ إِلَى يَسَارِي جَمَالُ فُلَانٍ”، وَلَا لِلجَمِيلِ أَنْ يَقُولَ: “هَلَّا أُضِيفَ إِلَى جَمَالِي مَالُ فُلَانٍ”، وَلَا لِلشَّرِيفِ أَن يَقُول: “هَلَّا أُضِيفَ إِلَى شَرَفِي مَالُ فَلَانٍ”، ولا لِلْوَضِيعِ أَنْ يَقُولَ: “هَلَّا أُضِيفَ إِلَى ضَعَتِي شَرَفُ فُلَانٍ”، ولكنِ الحُكْمُ لِلَّهِ يَقْسِمُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ، مَحْمُودٌ فِي أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: )وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفْعَنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ([4])( (الزخرف: 31، 32).
فَأَحْوَجَنَا بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ، أَحْوَجَ هَذَا إِلَى مَالِ ذَلِكَ، وَأَخْوَجَ ذلِكَ إِلَى سِلْعَةِ هَذَا وَإِلَى خِدْمَتِهِ. فَتَرَى أَجَلَّ الْمُلُوكِ وَأَغْنَى الأَغْنِيَاءِ مُحْتَاجًا إِلَى أَفَقَرِ الْفُقَرَاءِ فِي ضَرْبٍ مِنَ الضُروب:
إِمَّا سِلْعَةٌ مَعَهُ لَيْسَتْ مَعَهُ، وَإِمَّا خِدْمَةٌ يَصْلُحُ لَهَا لا يَتَهَيَّأُ لِذلِكَ المَلِكِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ إِلَّا بِهِ، وَإِمَّا بَابٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالحِكَمِ هُوَ فَقِيرٌ إلَى أَنْ يَسْتَفِيدَهَا مِنْ هَذَا الْفَقِيرِ، فَهَذَا الفَقِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى مَالِ ذَلِكَ المَلِكِ الغَنِيِّ، وَذَلِكَ الْمَلِكُ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ هَذَا الفَقِيرِ أَوْ رَأْيِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ.
ثُمَّ لَيْسَ لِلْمَلِكِ أَن يَقُول: “هَلَّا اجْتَمَعَ إِلَى مَالِي عِلْمُ هَذَا الفِقِيرِ”، وَلَا لِلْفقيرِ أَن يَقُولَ: “هَلَّا اجْتَمَعَ إِلَى رَأْيِي وَعِلْمِي، وَمَا أَتَصَرَّفُ فِيهِ من فُنُونِ الحِكْمَةِ مَالُ هذا المَلِكِ الغَنِيِّ”.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَأَمَّا قَوْلُكَ: “لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا”، إِلَى آخِرِ مَا قُلْتَهُ([5])، فَإِنَّكَ قَدِ اقْتَرَحْتَ علَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ أَشْيَاءَ:
– منهَا: مَا لَوْ جَاءَكَ بِهِ لَمْ يَكُن بُرْهَانًا لِنُبُوَّتِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَرْتَفِعُ عَنْ أَن يَغْتَنِمَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ، وَيَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ.
– وَمِنْهَا: مَا لَوْ جَاءَكَ بِهِ كَانَ مَعَهُ هلاكُكَ. وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ لِيَلْزَمَ عِبَادُ اللَّهِ الإِيمَانَ بِهَا، لَا ليَهْلَكُوا بِهَا، فَإِنَّمَا اقْتَرَحْتَ هَلَاكَكَ، وَرَبُّ العَالِمِينَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ وَأعْلَمُ بِمَصَالِحِهِمْ مِنْ أَنْ يُهْلِكَهُمْ كَمَا تَقْتَرِحُونَ.
– وَمِنْهَا: المُحَالُ الَّذِي لا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ، وَرَسُولُ رَبِّ العَالِمِينَ يُعَرِّفُكَ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ مَعَاذِيرَكَ، وَيُضيِّقُ عَلَيْكَ سَبِيلَ مخَالَفَتِهِ، وَيُلْجِئُكَ بِحُجَجِ اللَّهِ إِلَى تَصْدِيقِهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ لَكَ عَنْهُ مَحِيدٌ ولا مَحِيصٌ.
– ومنها: مَا قَدِ اعْتَرَفْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ فِيهِ مُعَانِدٌ مُتَمَرِّدٌ، لَا تَقْبَلُ حُجَّةً وَلَا تَصْغَى إِلَى بُرْهَانٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَدَوَاؤُهُ عَذَابُ اللَّهِ النَّازِلُ مِنْ سَمَائِهِ فِي جَحِيمِهِ ، أَوْ بِسُيُوفِ أَوْلِيَائِهِ.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُفَصِّلُ الأُمُورَ
فأَمَّا قَوْلُكَ يَا عَبْد اللهِ: “لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا بِمَكَّةَ هَذِهِ فَإِنَّهَا ذَاتُ أَحْجَارٍ وَصُخُورٍ وَجَبَالٍ، تَكْسَحُ أَرْضَهَا وَتَحْفُرُهَا وتُجْرِي فِيهَا العُيُونَ فَإِنَّنَا إِلَى ذَلِكَ مُحْتَاجُونَ”، فَإِنَّكَ سَأَلْتَ هذَا وَأَنْتَ جَاهِلٌ بِدَلَائِلِ اللَّهِ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ فَعَلْتُ هَذَا أَكُنْتُ مِنْ أَجْلِ هَذَا نَبِيًّا؟ قَالَ: لا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ الطَّائِفَ الَّتِي لَكَ فِيهَا بَسَاتِينُ، أَمَا كَانَ هُنَاكَ مَوَاضِعُ فَاسِدَةٌ صَعْبَةٌ أَصْلَحْتَهَا وَذَلَّلْتَهَا وَكَسَحْتَها وَأَجْرَيْتَ فِيهَا عُيُونًا اسْتَنْبَطْتَهَا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَهَلْ لَكَ فِي هَذَا نُظَرَاءُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَصِرْتَ أَنتَ وَهُمْ بِذَلِكَ أَنْبِيَاءَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ هَذَا حُجَةً لِمُحَمَّدٍ لَوْ فَعَلَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَمَا هُوَ إِلَّا كَقَوْلِكَ: “لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ؛ حَتَّى تَقُومَ وَتَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ كَمَا يَمْشِي النَّاسُ، أَوْ حَتَّى تَأْكُلَ الطَّعَامَ كَمَا يَأْكُلُ النَّاسُ”.
وأَمَّا قولك يَا عَبْدَ اللَّهِ: “أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتَأكُلَ مِنْهَا وَتُطْعِمُنَا، وَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا”، أَوَلَيْسَ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ جنَّاتٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ بِالطَّائِفِ تَأكُلُونَ وَتُطْعِمُونَ مِنْهَا، وَتُفَجِّرُونَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَفَصِرْتُمْ أَنْبِيَاءَ بِهَذَا؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَمَا بَالُ اقْتِرَاحِكُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَشْيَاءَ لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقْتَرِحُونَ لَمَا دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ، بَلْ لوْ تَعَاطاهَا دَلَّ تَعَاطِيهَا عَلَى كَذِبهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَيَخْتَدِعُ الضُّعَفَاءَ عَنْ عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَرَسُولُ ربِّ الْعَالَمِينَ يَجِلُّ وَيَرْتَفِعُ عَنْ هَذَا.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ! وَأَمَّا قَوْلُكُ: “أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا”، فَإِنَّكَ قُلْتَ: “وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ”، فَإِنَّهُ فِي سُقُوطِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ هَلَاكَكُمْ وَمُو~تَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُهْلِكَكَ، وَرَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ أَرْحَمُ مِن ذَلِكَ، لَا يُهْلِكُكَ وَلَكِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْكَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَيْسَ حُجَجُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَحْدَهُ عَلَى حَسْبِ اقْتِرَاحَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّ العِبَادَ جُهَّالٌ بِمَا يَجُوزُ مِنَ الصَّلَاحِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ مِنَ الفَسَادِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ اقْتَرَاحُهُمْ وَيَتَضَادُّ حَتَّى يَسْتَحِيلَ وُقُوعُهُ، وَاللَّهُ U طَبِيبُكُمْ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُ عَلَى مَا يَلْزَمُ بِهِ المُحَالُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَهَلْ رَأَيْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ طَبِيبًا كَانَ دَوَاؤُهُ للْمَرْضَى عَلَى حَسْبِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِهِ مَا يَعْلَمُ صَلَاحَهُ فِيهِ، أَحَبَّهُ العَلِيلُ أَوْ كَرِهَهُ؟ فَأَنتُمُ الْمَرْضَى وَاللَّهُ طَبيبُكُمْ، فَإِنِ انْقَدْتُمْ لِدَوَائِهِ شَفَاكُمُ، وَإِنْ تَمَرَّدْتُمْ عَلَيْهِ أَسْقَمَكُمْ.
وَبَعْدُ، فَمَتَى رَأَيْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ مُدْعِي حَقٍّ مِنْ قِبَلِ رَجُلٍ، أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِهِمْ فِيمَا مَضَى بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ عَلَى حَسْبِ افْتِرَاحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ إِذًا مَا كَانَ يَثْبُتُ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ دَعْوًى وَلَا حَقٌّ، وَلَا كَانَ بينَ ظَالِمٍ وَمَظْلُومٍ، وَلَا بَيْنَ صَادِقٍ وَكَاذِبٍ فَرْقَ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ! وَأَمَّا قَوْلُكَ: “أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَة قَبِيلًا، يُقَابِلُونَنَا وَنُعَايِنُهُمْ”، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا خْفَاءَ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّنَا U لَيْسَ كالْمَخْلُوقِينَ يَجِيءُ وَيُذْهَبُ وَيَتَحرَّكُ ويُقابِلُ شَيْئًا؛ حَتَّى يُؤْتَى بِهِ، فَقَدْ سَأَلْتُمْ المُحَالَ، وَإِنَّمَا هَذَا الَّذِي دَعَوْتَ إِلَيْهِ صِفَةُ أَصْنَامِكُمُ الضَّعِيفَةِ المَنْقُوصَةِ، الَّتِي لَا تَسْمَعُ ولَا تُبْصِرُ، ولا تَعْلَمُ، وَلَا تُغْنِي عَنكُمْ شَيْئًا وَلَا عَنْ أَحَدٍ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَوَلَيْسَ لَكَ ضِيَاعٌ وَجِنَانٌ بِالطَّائِفِ وَعَقَارٌ بِمَكَّةَ وَقُوَّامٌ عليها؟ قال: بلى.
قَالَ: أَفَتَشَاهِدُ جَمِيعَ أَحْوَالِهَا بِنَفْسِكَ أَوْ بِسُفَرَاءَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُعامِلِيكَ؟ قَالَ: بِسُفَرَاءَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ مُعَامِلُوكَ وَأكَرَتُكَ([6]) وَخَدَمَتُكَ لِسُفَرَائِكَ: لَا نُصَدِّقُكُمْ فِي هَذِهِ السِّفَارَةِ إِلَّا أَنْ تَأْتُونَا بَعْبْدِ اللَّهِ ابنِ أَبِي أُمَيَّةَ لِنُشَاهِدَهُ فَنَسْمَعُ مَا تَقُولُونَ عَنْهُ شِفَاهًا، كُنتَ تُسَوِّغَهُمْ هَذَا، أَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ عِندَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا.
قَالَ: فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى سُفَرَائِكَ، أَلَيْسَ أَنْ يَأْتُوهُمْ عَنْكَ بِعَلَامَةٍ صَحِيحَةٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ؟ قَالَ: بَلَى. قالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ سَفِيرَكَ لُوْ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا عَادَ إِلَيْكَ وَقَالَ لَكَ: قُمْ مَعِي فَإِنَّهُمْ قَدِ اقْتَرَحُوا عَلَيَّ مَجِيئَكَ مَعِي، أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا لَكَ مُخَالِفًا، وَتَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ لا مُشِيرٌ وَلَا آمِرٌ؟ قال: بلى.
قَالَ: فَكَيْفَ صِرْتَ تَقْتَرِحُ عَلَى رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ، مَا لَا تُسَوِّعُ لِأَكَرَتِكَ ومعامِلِيكَ أَنْ يَقْتَرِحُوهُ عَلَى رَسُولِكَ إِلَيْهِمْ؟! وَكَيْفَ أَرَدْتَ مِنْ رسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ أَنْ يَسْتَذِمَّ إِلَى رَبِّهِ بِأَنْ يَأْمُرَ عَلَيْهِ وَيَنْهَى، وَأَنتَ لا تُسَوَّعُ مِثْلَ هَذَا عَلَى رَسُولِكَ إِلَى أَكَرَتِكَ وَقُوَّامِكَ؟ هَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لإبْطَالِ جَمِيعِ مَا ذَكَرْتَهُ فِي كُلّ مَا اقْتَرَحْتَهُ يَا عَبْدَ اللهِ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ يَا عَبْدَ اللهِ: “أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ”، وَهُوَ الذَّهَبُ، أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ لِعَظِيمِ مِصْرَ بُيُوتًا مِنْ زُخْرُفٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَصَارَ بِذَلِكَ نَبِيًّا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ لمَحَمَّدٍ نُبُوَّةٌ لَوْ كَانَ لَهُ بُيُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَ مُحَمَّدٌ لَا يَغْنَمُ جَهْلَكَ بِحُجَجِ اللَّهِ.
وَأَمَّا قُولُكَ يَا عَبْدَ اللهِ: “أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ”، ثُمَّ قُلْتَ: “وَلَنْ نُؤْمِنَ لرُقِيِّكَ؛ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ”، يَا عَبْدَ اللَّهِ! الصَّعُودُ إِلَى السَّمَاءِ أَصْعَبُ مِنَ النُّزُولِ عَنْهَا، وَإِذَا اعْتَرَفْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ لا تُؤْمِنُ إِذَا صَعَدْتُ، فَكَذَلِكَ حُكمُ النُّزُولُ، ثُمَّ قُلْتَ: “حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا أَدْرِي أَؤْمِنُ بِكَ أَوْ لَا أؤْمِنُ بِكَ”، فَأَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ مُقِرٌّ بِأَنَّكَ تُعَانِدُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْكَ، فَلَا دَوَاءَ لَكَ إِلَّا تَأْدِيبُهُ لَكَ عَلَى يَدِ أَوْلِيَائِهِ مِنَ البَشَرِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ حِكْمَةً بَالِغَةً جَامِعَةً لِبُطْلَانِ كُلِّ مَا اقترحته. فَقَالَ عز وجل: “قُلْ” يَا مُحَمَّدُ: )سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا( مَا أَبْعَدَ رَبِّي عَنْ أَنْ يَفْعَلَ الأَشْيَاء عَلَى مَا يَقْتَرِحُهُ الْجُهَّالُ ممَّا يَجُوزُ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ، وَهَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا لَا يَلْزَمُنِي إِلَّا إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ الَّتِي أَعْطَانِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ آمُرَ عَلَى رَبِّي وَلَا أَنْهَى وَلَا أُشِيرُ، فَأَكُونُ كالرَّسُولِ الَّذِي بَعَثَهُ مَلِكٌ إِلَى قَوْمٍ مِنْ مُخَالِفِيهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ! هَهُنَا وَاحِدَةٌ، أَلَسْتَ زَعَمْتَ: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى أُحْرِقُوا بِالصَّاعِقَةِ لَمَّا سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَلَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَاحْتَرَقْنَا نَحْنُ أَيْضًا، فَقَدْ سَأَلْنَا أَشَدَّ مِمَّا سأَلَ قَوْمُ مُوسَى؛ لِأَنَّهُمْ كَمَا زَعَمْتَ قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، نُعَايِنُهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا أَبَا جَهْلٍ! أَمَا عَلِمْتَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ لمَّا رُفِعَ فِي المَلَكُوتِ، وَذَلِكَ قَوْلُ رَبِّي: )وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ( قَوَّى اللَّهُ بَصَرَهُ لَمَّا رَفَعَهُ دُونَ السَّمَاءِ؛ حَتَّى أَبْصَرَ الْأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا ظَاهِرِينَ وَمُسْتَتِرِينَ، فَرَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً عَلَى فَاحِشَةٍ، فَدَعَا عَلَيْهِمَا بِالهَلَاكِ فَهَلَكَا، ثُمَّ رَأَى آخَرَيْنِ فَدَعَا عَلَيْهِمَا بِالهَلَاكِ، فَهَلَكَا.
ثُمَّ رَأَى آخَرَيْنِ فَدَعَا عَلَيْهِمَا بِالهَلَاكِ فَهَلَكَا، ثُمَّ رَأَى آخَرَيْنِ فَهَمَّ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ! اكْفُفْ دَعْوَتَكَ عَنْ عِبَادِي وَإِمَائِي فَإِنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الْجَبَّارُ الحَلِيمُ، لَا يَضُرُّنِي ذُنُوبُ عِبَادِي كَمَا لَا تَنْفَعُنِي طَاعَتُهُمْ، وَلَسْتُ أَسُوسُهُمْ بِشِفَاءِ الغَيْظِ كَسِيَاسَتِكَ.
فَاكْقُفْ دَعْوَتَكَ عَنْ عِبَادِي وَإِمَائِي، فَإِنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ نَذِيرٌ لا شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا مُهَيْمِنٌ عَلَيَّ وَلَا عِبَادِي، وَعِبَادِي معِي بَيْنَ خِلَالٍ ثَلَاثٍ:
١- إِمَّا تَابُوا إِلَيَّ فَتُبْتُ عَلَيْهِمْ وَغَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ وَسَتَرْتُ عُيُوبَهُمْ.
٢- وَإِمَّا كَفَفْتُ عَنْهُمْ عَذَابِي لعِلْمِي بِأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أَصَلَابِهِمْ ذُرِّيَاتٌ مُؤْمِنُونَ، فَأَرْفُقُ بِالآبَاءِ الكَافِرِينَ، وَأَتَأَنَّى بِالأَمَّهَاتِ الكَافِرَاتِ، وَأَرْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابِي لِيَخْرُجَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ. فَإِذَا تزَايَلُوا([7]) حَلَّ بِهِمْ عَذَابِي، وَحَاقَ بِهِمْ بَلائي.
٣- وَإِن لَمْ يَكُن هَذَا وَلَا هَذَا فَإِنَّ الَّذِي أَعْدَدْتُهُ لَهُمْ مِنْ عَذَابِي أَعْظَمُ مِمَّا تُرِيدُهُ بِهِمْ، فَإِنَّ عَذَابِي لِعِبَادِي عَلَى حَسْبِ جَلَالِي وَكبْرِيَائِي.
يَا إِبْرَاهِيمُ! خَلَّ بَيْنِي وَبَيْنَ عِبَادِي، فَأَنَا أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْكَ، وَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَ عِبَادِي، فَإِنِّي أَنَا الْجَبَّارُ الحَلِيمُ، العَلَّامُ الحَكِيمُ، أُدَبِّرُهُمْ بِعِلمِي وَأُنْفِذُ فِيهِمْ قَضَائِي وَقَدَرِي([8]).
أسأل الله أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الربانى، الذى به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.
===============================
([4]) أي: ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
([5]) يشير إلى قوله: أو تسقط السماء كسفًا، وقوله: أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا، وقوله: أو ترقى في السماء.. إلخ.
([7]) تميز الكفار من المؤمنين.
([8]) مسند الإمام الحسن العسكري للشيخ عزير الله العطاردي ص١٨٩ – ٢٠٠ عن التفسير المنسوب إليه: سورة البقرة الآية ۱۰۸.