أخبار عاجلة

فقه مالك والمالكية (4)

كان الإمام مالك يبذل أقصى جهده للبعد عن الثورات والتحريض عليها، وعن الفتن والخوض فيها، ومع ذلك فقد نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، سنة 146هـ، ضُرب يومها بالسياط، ومُدت يده حتى انخلعت كتفاه، بسبب أنه كان يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق»…

د. محمد الإدريسي الحسني

بقية: رجاله وعصره وآثارهم

بقية: المدخل:

محنة الإمام مالك:

كان الإمام مالك يبذل أقصى جهده للبعد عن الثورات والتحريض عليها، وعن الفتن والخوض فيها، ومع ذلك فقد نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، سنة 146هـ، ضُرب يومها بالسياط، ومُدت يده حتى انخلعت كتفاه، بسبب أنه كان يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق»، فاتخذ مروجو الفتن من هذا الحديث حجةً لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور، وذاع هذا وشاع في وقت خروج محمد ابن عبد الله بن حسن النفس الزكية بالمدينة، فنُهي من أبي جعفر عن أن يحدث بهذا الحديث، ثم دُس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضُرب. أما من قام بتعذيبه فهو والي المدينة جعفر بن سليمان، وقد أثار هذا الفعل سخط أهل المدينة على العباسيين، وولاتهم لقناعتهم بأنه كان مظلومًا، فما حرض على الفتنة ولا بغى ولا تجاوز حد الإفتاء، ولم يفارق خطته قبل الأذى ولا بعده، فلزم درسه بعد المحنة لا يحرض ولا يدعو إلى فساد، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين، وجعل الحكام يحسون بمرارة ما فعلوا، لذلك عندما جاء أبو جعفر المنصور إلى الحجاز حاجًّا أرسل إلى مالك يعتذر إليه، قال الإمام مالك: (لما دخلت على أبي جعفر، وقد عهد إلي أن آتيه في الموسم، قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرتُ بالذي كان ولا علمتُه، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، وإني أخالك أمانًا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب، وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما لك منه)، فقلت: «عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله J وقرابته منك».

ثـالـثًا: الـبـيـئـة العـلـمـيـة لنـشأة الإمام مالك

عاش الإمام مالك طفولته في بيت كان يتجه إلى العلم ورواية الحديث ـ فجده كان من كبار التابعين وعلمائهم، روى عن عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعائشة أم المؤمنين وأبي هريرة وحسان بن ثابت وعقيل بن أبي طالب، وقد روى الزهري عن والد الإمام مالك أنس، وعميه أويس وأبي سهيل. وروى أبو أويس عبد الله عن عمه الربيع من ذلك نعلم أنه لا غرابة أن يتجه في أول نشأته إلى العلم والرواية، فلم يتجه إلى حرفة يحترفها؛ بل اتجه إلى العلم يصبو إليه، وكذلك كان أخ له طلب الحديث من قبل اسمه النضر، كان ملازمًا للعلماء من التابعين يأخذ عنهم، ولما اتجه مالك إلى الرواية كان يعرف بأخي النضر لشهرة أخيه، فلما ذاع أمره بين شيوخه صار أشهر من أخيه، وصار يذكر النضر بأنه أخو مالك. ولقد كانت البيئة العامة، مع البيئة الخاصة توعز إليه بالاتجاه إلى العلم وطلبه. فقد كانت بيئة مدينة الرسول J، ومهاجره الذي هاجر إليه، موطنًا للشرع، ومبعث النور، ومعقد الحكم الإسلامي الأول، وقصبة الإسلام في عهد أبي بكر وعمر وعثمان. وكان عهد عمر هو العهد الذي انفتقت فيه القرائح الإسلامية تستنبط من هدي القرآن والرسول أحكاما تصلح للمدنيات والحضارات التي أظلها الإسلام بسلطانه. وقد استمرت المدينة في العهد الأموي موئل الشريعة ومرجع العلماء.. هكذا كانت المدينة المنورة وقت نشأة مالك، وفي ظلها وظل بيئته الخاصة التي توجهه إلى العلم نشأ إمام دار الهجرة، الذي بشر به رسول الله J.

عن أبي هريرة 0 قال: قال رسول الله J: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة “، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

قال العلماء: وعالم المدينة هو مالك بن أنس. وفي رواية: “ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة”.

ويروى عن ابن عيينة قال: كنت أقول: هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله وغيرهما، ثم أصبحت اليوم أقول: إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة. وقال القاضي عياض: هذا هو الصحيح، عن سفيان رواه عنه ابن مهدي وابن معين وذؤيب بن عمامة وابن المديني والزبير بن بكار وإسحاق بن أبي إسرائيل كلهم سمع سفيان يفسره: “بمالك” أو يقول وأظنه أو أحسبه أو أراه، أو كانوا يرونه. وقال الشافعي: إذا ذُكر العلماء فمالك النجم. وقال الزبير بن بكار في حديث “ليضربن الناس أكباد الإبل”: كان سفيان بن عيينة إذا حدث بهذا في حياة مالك، يقول: أراه مالكًا. ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه والجلالة والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة والقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم، فلما تفانوا اشتهر ذِكر مالك بها وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمان والدراوردي وأقرانهم، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق رحمه الله تعالى.

تدرج الإمام مالك في طلب العلم فاتجه بداية إلى حفظ القرآن الكريم فحفظه. وقد اقترح على أهله أن يحضر مجالس العلماء، كعمه وأخيه من قبل، ليكتب العلم ويدرسه. وقد أجابوا طلبه، وأوصته أمه بقولها: “اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه”. وربيعة هذا فقيه اشتهر بالرأي بين أهل المدينة، ولهذا التحريض من أمه جلس إلى ربيعة، فأخذ عنه فقه الرأي، وهو حدث صغير، حتى لقد قال بعض معاصريه: “رأيت مالكًا في حلقة ربيعة وفي أذنه شنف (الشنف: ما يعلق في أعلى الأذن للأطفال الذكور)”. ولقد أخذ من بعد ذلك يتنقل في مجالس العلماء، كالطير تتنقل بين الأشجار تأخذ من كل شجرة ما تختار من ثمرها. ولكن لا بد من شيخ يخصه بفضل من الملازمة، ويجعل منه موقفًا وهاديًا ومرشدًا. وقد اختار ذلك الشيخ، وهو ابن هرمز، فلازمه. ولقد كان التلميذ الشاب معجبًا بشيخه، محبًّا له، مقدرًا لعلمه. وقال 0 في شيخه: “جالست ابن هرمز ثلاث عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس”. قال: “وكان من أعلم الناس بالرد على أهل الأهواء، وبما اختلف فيه الناس”، وكان يتأدب بأدبه، ويأخذ بحكمته، ولقد قال في ذلك: “سمعت ابن هرمز يقول:

“ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول لا أدري”، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه. فإذا سئل أحدهم عما لا يدري، قال: “لا أدري”. قال ابن وهب (تلميذ مالك): “كان مالك يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدري”.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …