إن الإمام مالكًا عندما يطلق الرأي يعني به فقهه الذي يكون بعضه رأيًا اختاره من مجموع آراء التابعين، وبعضه رأيًا قد قاسه على ما علم، ومن ثم فإن باب أصول فقه الرأي عنده هو ما عليه أهل المدينة وعلم الصحابة والتابعين….
د. محمد الإدريسي الحسني
بقية: رجاله وعصره وآثارهم
بقية: المدخل:
بقية: مميزات فقه الإمام مالك وأصول مذهبه:
أولًا: الأصول النقلية وتتمثل في:
– القرآن الكريم: يلتقي الإمام مالك مع جميع الأئمة المسلمين في كون كتاب الله U هو أصل الأصول، ولا أحد أنزع منه إليه، يستدل بنصه، وبظاهره ويعتبر السنة تبيانًا له.
– السنة النبوية: سار الإمام مالك في مفهوم السنة على ما سار عليه السلف وعامة المحدثين الذين كان من أئمتهم وأقطابهم، غير أنه عمم في السنة لتشمل ما يعرف عند علماء الحديث بالمأثور. وهو بهذا المعنى يعطي لعمل أهل المدينة وإجماعهم مكانة خاصة، ويجعل من قبيل السنة كذلك فتاوى الصحابة، وفتاوى كبار التابعين الآخذين عنهم، كسعيد بن المسيب، ومحمد بن شهاب الزهري، ونافع، ومن في طبقتهم ومرتبتهم العلمية، كبقية الفقهاء السبعة.
– عمل أهل المدينة: من الأصول التي انفرد بها مالك واعتبرها من مصادر فقه الأحكام والفتاوى. وتنقسم عند فقهاء المالكية إلى قسمين، الأول: ما نقل بالتواتر كمسألة الأذان، ومسألة الصاع، وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي اتصل العمل بها في المدينة على وجه التحقيق، ونقل نقلًا يقطع العذر. والثاني: ما نقل عن طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد، وهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة، وعلماء غيرهم من أن المصير منه إلى ما عضده الدليل والترجيح. ولذلك خالف مالك في مسائل عدة أقوال أهل المدينة.
– الإجماع: لعل مالكًا أكثر الأئمة الأربعة ذكرًا للإجماع واحتجاجًا به، والموطأ خير شاهد على ذلك. أما مدلول كلمة الإجماع عنده فقد قال: “وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه”.
– شرع من قبلنا: ذهب مالك على أن شرع من قبلنا شرع لنا.
ثانيًا: الأصول العقلية وتتمثل فيما يلي:
– الاجتهاد: كان للإمام مالك منهج اجتهادي متميز يختلف عن منهج الفقهاء الآخرين، وهو وإن كان يمثل مدرسة الحديث في المدينة ويقود تيارها، فقد كان يأخذ بالرأي ويعتمد عليه، وأحيانًا توسع في الرأي أكثر ما توسع فيه فقهاء الرأي في العراق، كاستعماله الرأي والقياس فيما اتضح معناه من الحدود والكفارات مما لم يقل به علماء المذهب الحنفي.
ومن الأصول العقلية المعتمدة في المذهب المالكي:
– القياس: يعتبر القياس على الأحكام الواردة في الكتاب المحكم والسنة المعمول بها، طبقًا للمنهج الذي قاس عليه علماء التابعين من قبله.
– الاستحسان: لقد اشتهر على ألسنة فقهاء المذهب المالكي قولهم: (ترك القياس والأخذ بما هو أرفق بالناس) إشارة إلى أصل الاستحسان، الذي هو طلب الأحسن للإتباع.
– المصالح المرسلة: من أصول مذهب مالك المصالح المرسلة، ومن شروطها ألا تعارض نصًّا قطعيًّا دلالة وسندًا. فالمصالح المرسلة التي لا تشهد لها أصول عامة وقواعد كلية منثورة ضمن الشريعة، لا يعتد بها، والأصل أن تمثل هذه المصلحة الخاصة واحدة من جزئيات هذه الأصول والقواعد العامة.
– سد الذرائع: هذا أصل من الأصول التي أكثر مالك الاعتماد عليه في اجتهاده الفقهي، ومعناه المنع من الذرائع أي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل ممنوع، أي أن حقيقة سد الذرائع التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
– العرف والعادة: إن العرف أصل من أصول الاستنباط عند مالك، وقد بنيت عليه أحكام كثيرة؛ لأنه في كثير من الأحيان يتفق مع المصلحة، والمصلحة أصل بلا نزاع في المذهب المالكي.
– الاستصحاب: كان مالك يأخذ بالاستصحاب كحجة، ومؤدى هذا الأصل هو بقاء الحال على ما كان حتى يقوم دليل يغيره.
– قاعدة مراعاة الخلاف: من بين الأصول التي اختلف المالكية بشأنها “قاعدة مراعاة الخلاف”، فمنهم من عدها من الأصول ومنهم من أنكرها. ومعناها “إعمال دليل في لازم مدلول الذي أعمل في نقيضه دليل آخر”، ومثاله: إعمال المجتهد دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار، في لازم مدلوله الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار فيما إذا مات أحدهما، فالمدلول هو عدم الفسخ وأعمل مالك في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر. فمذهب مالك وجوب الفسخ وثبوت الإرث إذا مات أحدهما.
ثالثًا: النظر المقاصدي في المذهب المالكي:
إن الإمام مالكًا عندما يطلق الرأي يعني به فقهه الذي يكون بعضه رأيًا اختاره من مجموع آراء التابعين، وبعضه رأيًا قد قاسه على ما علم، ومن ثم فإن باب أصول فقه الرأي عنده هو ما عليه أهل المدينة وعلم الصحابة والتابعين.
ويمكن تلخيص ذلك في قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي عليها مدار مقاصد الشريعة الإسلامية، فهذا هو أساس الرأي عنده مهما تعددت ضروبه واختلفت أسماؤه.
إن أخص ما امتاز فقه مالك هو رعاية المصلحة واعتبارها، لهذا فهي عمدة فقه الرأي عنده اتخذها أصلًا للاستنباط مستقلًّا.