أخبار عاجلة

مدخل إلى تهويد القدس (2/ 4)

التهويد هو عملية نزع الطابع الإسلامي والمسيحي عن القدس وفرض الطابع الذي يسمى “يهوديًّا” عليها. وتهويد القدس جزء من عملية تهويد فلسطين ككل…

د. خالد عزب

إننا نستطيع من خلال وثائق القدس وآثارها المعمارية الإسلامية والمسيحية التي ما زالت باقية إلى اليوم رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكية أراضيها خاصة ما يقع في ملكية الأوقاف منها. ومما يساعد على ذلك أن الوقفيات وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأه وأبعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والأراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأه دينية أو خيرية أو منشأه اقتصادية تدر ريعًا.

إن هذه الخريطة الطبوغرافية التاريخية ستساعد بلا أدنى شك في استرداد الأراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. سواء في القدس أو في باقي أراضى فلسطين المحتلة. لقد فهم اليهود أهمية وثائق القدس فقاموا في 18 نوفمبر 1991م بالاستيلاء على بعضها من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة.

إن التصور الإسرائيلي يطرح القدس وكأنها مدينة خالية من البشر والعمران، إحدى دور النشر الغربية عكست هذا التصور حين نشرت كتاب ديفيد روبرت (الأرض المقدسة) وديفيد رحالة إسكتلندي رسم العديد من اللوحات لمصر وفلسطين بين عامي 1838 و 1839م وسجل مع هذه اللوحات انطباعاته عن الأماكن التي مر بها. وإلى هذا الحد الأمر ليس فيه ما يثير أي تساؤل إلا أن دار النشر التي أعادت نشر اللوحات عام 1990م وتعليقاتها تمر دون أن ترفق بها سرد تاريخي للأب كروللي لا يمت لعلم الآثار بصلة، قدر ما يمت بصلة قوية إلى الرائج من روايات وخرافات العصور الوسطى، ففي وصفه لا وجود للعرب وإنما هناك التسمية الخطأ التي يتعمد بعض الأوربيون استخدامها وهي (السرسيون) نسبة إلى السيدة سارة، ولا يرد ذكرهم إلا في سياق أنهم سبب معاناة المدينة المقدسة -القدس- تلك التي لا ترتفع معاناتها إلا مع سيطرة الصليبيين عليها!

ويستند وصف الأمكنة إلى مخيلة كروللي المستمدة من روايات التوراة على الرغم من إثبات الدراسات الأثرية حديثًا شكوكًا واسعة حول صحة روايات التوراة؛ حتى أن العديد من علماء الآثار الغربيين بدءوا يصرفون النظر عن اعتماد التوراة كمرجع للأبحاث الأثرية في فلسطين لتناقض ما جاء بها مع المكتشفات الأثرية الحديثة.

تصور لوحات ديفيد روبرت مشاهد من خارج المدن ولا تصور الحياة داخلها، وغالبًا حين يصور البشر يصورهم في حالة استرخاء، وتظهر بلوحاته الأرض حول القدس على سبيل المثال وكأنها صحراء جرداء خالية من العمران والبشر، هنا تتقدم دار النشر لتقدم لعبة ذكية لخدمة مقولة الأرض الخالية التي روجت لها الصهيونية. بأن أرفقوا مع كل لوحة من لوحات ديفيد صورة فوتوغرافية حديثة للموقع نفسه. وبالمقارنة يظهر الفرق الشاسع بين موقع يكاد يكون صحراويًّا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وبين الموقع نفسه المحتشد بالعمران في أواخر القرن العشرين. توحي هذه المقارنة بالأيدي البيضاء للصهيونية على فلسطين بصفة عامة والقدس بصفة خاصة.

الكتاب بهذا المعنى صورة أعيدت صياغتها لتلائم أغراض الحاضر الصهيوني كما يذكر الكاتب الفلسطيني محمد الأسعد، ليس لأن شروحات كروللي تشير إلى (أرض إسرائيل) قبل قيام دولة بهذا الاسم فقط، بل لأن المنحنى كله يود أن يقول أن الأرض الخالية التي شاهدها روبرت لم تعد خالية. وربما لهذا السبب عمد ناشرو الكتاب إلى تصديره بكلمة لعمدة القدس المحتلة تيدي كوليك، وإلى وضع خرائط للأرض المقدسة تطابق بين الجغرافية الخيالية للتوراة والجغرافيا الطبيعية لفلسطين. هذا الكتاب يمثل واحدًا من عشرات الكتب التي يتم بها تغذية الوجدان الثقافي الغربي، وهو نموذجًا صافيًا لنظرة ثقافية غربية لا ترى في المشهد الثقافي العربي غير مسار التاريخ التوراتي.

الصورة هنا صورة قدس جديدة رأى اليهود أن تشيع في العالم سواء من خلال الكتاب الذي يقدم مسار رحلة الحج التاريخية إلى مسيحي العالم كما رآها رحالة في القرن 19، وكما رأتها دار النشر في القرن العشرين، هذه الصورة هي للقدس عاصمة إسرائيل الأبدية، التي سعى اليهود إلى تكريسها حتى أصبحنا نحن العرب نتقبل جانب من هذه المقولات كحقيقة صادقة لا تقبل النقاش، فالقول بوجود قدسين: شرقية، وغربية، أشبه بالهراء، إذ لا توجد سوى قدس واحدة، هي المدينة القديمة وضواحيها، التي هي عاصمة فلسطين المحتلة، ومنشأ شيوع هذا الخطأ السياسيين ووسائل الإعلام، إذ كانت القدس حتى عام 1917م، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الهوية العربية للقدس في التغير خلال فترة الانتداب البريطاني الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا في عام 1922م على فلسطين، وترتب على ذلك زيادة هجرة اليهود لفلسطين، وبدأت ديموغرافية القدس في التغير، وتضاعف عدد اليهود فيها في الفترة من 1917 إلى 1948م ليقفز من ثلاثين ألفًا إلى حوالي مائة ألف بنهاية فترة الانتداب.

اغتصب اليهود القدس على مرحلتين: في المرحلة الأولى عام 1948م استولوا على القدس الجديدة وضموا إليها المدن العربية المحيطة بها، كان يسكن هذه المدينة فلسطينيون عرب ويهود، وقد سكنت الأغلبية من أهالي القدس العرب في خمس عشرة ضاحية سكنية في القدس الجديدة وامتلكت ثلاثة أرباع أراضيها ومبانيها، وكانت المناطق العربية تفتقر إلى الحماية، ولذا احتلت إسرائيل ثلاث عشر ضاحية منها، وبذلك يكون من الخطأ أن نتصور أن اليهود في 1948م استولوا على الجزء الغربي اليهودي من المدينة بينما فرض العرب سيادتهم على الجزء العربي.

يرى اليهود في القدس مدينة مقدسة بالنسبة لهم، وواقع التراث اليهودي ينفي ذلك، فمن المعروف أن أسفار موسى الخمس لم يرد بها أي ذكر للقدس كمدينة مقدسة لدى اليهود، ولم تذكر القدس سوى في أربعة أسفار: سفري صموئيل الأول والثاني، وسفري الملوك الأول والثاني، ومن الواضح أن استشهادات اليهود الحالية جاءت من سفري صموئيل. وأكد علماء الديانة اليهودية بأن هذين السفرين من تأليف النبي صموئيل نفسه، والذي يعتبر آخر قضاة بني إسرائيل. ويوجد في السفرين ما يناقض فكرة كتابة صموئيل للسفرين المنسوبين إليه، ففي الإصحاح 25 من سفر صموئيل الأول: (مات صموئيل فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه ودفنوه في بيته)، والمعروف أن قصة بناء القدس ذكرت في السفر الثاني، فإذا كان صموئيل قد مات قبل أن يكمل السفر الأول، فالسؤال الآن من أكمل السفر الأول وكتب الثاني بأكمله؟

وإجابة السؤال: هي أن السفرين إضافات لاحقة أضيفت فيما بعد لخدمة الأغراض السياسية القومية لليهود، خاصة أن كتبهم المقدسة لعنت القدس كمدينة في مواضع عديدة.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …