الاعتماد على الذاكرة فيما يخص العلاقة بين العرب وإسرائيل من التفاصيل التي لا يمكن الفكاك من شَرَكها الحتمي، وكعادة الشعوب العربية هي لا ترى أزماتها التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية حتى مشكلاتها المتعلقة بالبنية التحتية إلا من منظور صهيوني استثنائي..
الأستاذ الدكتور بليغ حمدي
بقية: الصهيونية من التبرؤ إلى الاستيطان إلى ترويج السيرة الذاتية
العَرَبُ وإسْرَائِيْل:
الاعتماد على الذاكرة فيما يخص العلاقة بين العرب وإسرائيل من التفاصيل التي لا يمكن الفكاك من شَرَكها الحتمي، وكعادة الشعوب العربية هي لا ترى أزماتها التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية حتى مشكلاتها المتعلقة بالبنية التحتية إلا من منظور صهيوني استثنائي، بل وبات العرب مولعًا بفكرة الصراع الصهيوني ذي الصبغة الأمريكية على الاستحواذ على عقله وجسده وهويته، وبالتأكيد هذا المعنى موجود بالفعل في أجندة المؤامرات الصهيونية على دول الشرق الأوسط لاسيما الدول التي تتمتع بهويات فريدة وتاريخ ضارب في التكوين مثل مصر وسوريا وبعض الأحايين المملكة المغربية بوصفها آخر القلاع الإسلامية التي كانت شريكة للأندلس قبل سقوطها.
لكن تبقى المشكلة الأزلية التي يعاني منها العقل العربي ولا يمكنه التخلص من آثارها، وهي توصيف الكيان الصهيوني المعروف بإسرائيل من خلال ذهنية عربية خالصة، وهي رؤية تكاد تكون تخييلية قائمة على المشاهد الدموية التي تبثها بعض القنوات الإخبارية عن المجازر الإسرائيلية بشأن الشعب الفلسطيني، أو من خلال مجموعة من المتون الثقافية القديمة التي تصور اليهودي إما على أنه تاجر مرابي، أو صاحب حانوت لبيع الخمور، أو جاسوس متلصص، وهذا بفضل الإعلام المرئي السطحي الذي يعاني منه المجتمع العربي منذ عقود بعيدة.
وبحق، تعد مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي من أبرز المشكلات المعاصرة والتي تلقي بظلالها على ممارسات المشهد السياسي، وهي مشكلة لها جذور متأصلة لكننا نصر دومًا على الاقتناع بالرواية الرسمية الفلسطينية الإسرائيلية وهو السرد التي نراه مكتوبًا في مساجلات المفاوضات العلانية بين طرفي النزاع، وإن كان العرب كدول يعد طرفًا رئيسًا في هذا النزاع التاريخي، وهذه الرواية الأقرب لمؤتمرات حقوق الإنسان؛ كلام مجرد وفعل غائب، وجوهر ضائع.
وهذه القضية، قضية الصراع العربي الإسرائيلي تاريخ طويل من المفاوضات السرية التي لا يعلمها المواطن سوى مجموعة من المشاهد التي تبثها الفضائيات، وهذا التاريخ الطويل من المفاوضات السرية يمكن توصيفه بالمعقد أحيانًا وبالغامض أحيانًا أخرى، فهو معقد لأن المشكلة لم تحل سياسيًّا حتى اليوم وإسرائيل نفسها تعلم أن بناء دولة حقيقية لفلسطين مالكة الأرض والتاريخ والتكوين يعني زوال الدولة اليهودية أو بالأحرى الكيان الصهيوني، وغامض لأنه لا توجد أجندة واضحة المعالم وضابطة ذات شرائط حاسمة وحازمة لتلك المفاوضات تلزم طرفي النزاع بحقوق وواجبات غير تمييزية.
ويعد جوهر الصراع العربي الإسرائيلي معقدًا وغامضًا أيضًا، فالعرب ينظرون إلى إسرائيل على أنها دولة شريرة سارقة لا أخلاق لها، وعلى الشاطئ الآخر يرى اليهود أن العرب ارتضوا الصفقة التي أبرموها مع الفلسطينيين والخاصة ببيع وشراء الأراضي هناك، بل إن من اليهود من يرى أن فلسطين دولة قائمة بذاتها لكنها تحت الانتداب الإسرائيلي بغرض تأهيل وإعداد السكان العرب للحكم الذاتي بعد ذلك، لكن تبقى لهذه القضية ملامح وجذور هي التي تحدد مسار المفاوضات والممارسات بين العرب وإسرائيل.
ولأننا رهن الرواية الفلسطينية الإسرائيلية للأحداث التي تجري على الأراضي العربية فلا يمكن التسليم بصدقها مطلقًا، ولا يمكننا فهم تلك الرواية السياسية بمعزل عن إرهاصاتها التاريخية، ففلسطين التي نراها اليوم جريحة وتستحق الدعم والمساندة كانت الفرصة سانحة أمامها للقضاء على الوجود الصهيوني بأراضيها منذ عقود بعيدة. فهذا محمد أمين الحسيني مفتي القدس 1921 ـ 1922م، طالب بإنهاء فوري للانتداب البريطاني، وبإيقاف الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، لكنه رغم ذلك قام بوعد غامض وسري من خلال وثيقة سرية مكتوب فيها نصًّا ” مع احترام الحقوق الدينية والمدنية لليهود الموجودين في البلاد “.
وإذا نظرنا باستقراء إلى نص الوثيقة الظاهري فيمكننا الإشادة بمفتي القدس آنذاك، ولكن ما وراء السطور أن رأيًا كهذا من سلطة دينية وفقهية رسمية أباحت لليهود الاستيطان المشروع ليس فقط من خلال حقوقهم الدينية وشعائرهم التعبدية التي تخالف شريعة الإسلام، بل إن فيها التزامًا بالحقوق المدنية لليهود وربما هذه الوثيقة اتخذها اليهود ذريعة للمواطنة والإقامة في أرض فلسطين بغض النظر عن وجودهم بأمر بريطاني عسكري.
الغريب في شأن تاريخ القضية الفلسطينية، أن بريطانيا نفسها التي أعطت ومنحت بغير وجه حق اليهود صك إقامتهم في فلسطين بمقتضى وعد بلفور، جاءت في عام 1939م وأعلنت هدفًا لحكومتها آنذاك وهو كبح جماح الهجرة اليهودية نظرًا لتعدد مصالحها ومطامعها التجارية والاقتصادية مع بعض الدول العربية.
ورغم صدور هذا الهدف في صورة إعلان رسمي إلا أن الفلسطينيين والعرب لم يستغلوا تلك الفرصة التاريخية في تبرؤ بريطانيا من وعد بلفور المشئوم كمحاولة لزرع سيطرة عربية مطلقة على أرض فلسطين، وربما لأن فلسطين في ذاك العهد كانت تعاني من ثمة أمور مثل المجتمع الزراعي الأمي ثقافيًّا، والحالة البدائية من الناحية السياسية والتمثيل السياسي الرسمي العالمي هي التي أودت إلى التغلغل اليهودي في الأراضي وسط غياب سياسي رسمي لحكومة فلسطينية. بجانب الافتقار إلى الوعي السياسي على مستوى الأفراد، وغياب مؤسسات الحكم الذاتي هناك.