أخبار عاجلة

العلاقة بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية (15)

بيَّنَّا اللقاء الماضي أن من يزعم إمكانية استخدام المنهج التجريبي في موضوعات العقيدة ودراسة الإنسان، فهو لا يعرف العقيدة من ناحية، ولا يعرف طبيعة المنهج التجريبي من ناحية أخرى، أو هو يعرف ويخادع، وفي هذا المقال نواصل الحديث فنقول…

أ.د. فاروق الدسوقي

بقية: الاستقلال بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية من حيث المنهج

بقية: ج- منهج العلوم التجريبية:

استكمالًا لما بدأناه المقالات السابقة نقول: بما أن الفارق كبير بين المعرفة الدينية في الإسلام والمعرفة الدينية في المجتمعات المادية الكافرة؛ حيث الأولى إلهية ربانية: مصدرًا وموضوعًا ومنهجًا، والثانية وضعية: مصدرًا ومنهجًا. لكن لا يمنع هذا من ضرورة المعرفة الدينية بالمعنى الواسع الشامل لكل مجتمع من المجتمعات البشرية على ظهر الأرض.

وإذا كان من الثابت أن لكل معرفة غايتها وهدفها في الحياة الانسانية، فإن المعرفة الدينية لا يمكن أن تحقق هذا الهدف إلا إذا قامت بالمنهج الديني الصحيح لها، وعلى أصوله الثابتة، التي أثبتناها آنفًا، أي بإفراد الوحي والتلقي والاتباع والاجتهاد حسب أصول ضامنة؛ لأن يكون الحكم الصادر من المجتهد نابعًا من القرآن والسنة، ولذلك لا تتحقق فائدة هذه العلوم إلا بالدين الإسلامي وفي المجتمع الإسلامي.

أما بالنسبة للمجتمعات العلمانية التي تطبق المنهج التجريبي في مجال العلاقات والمعاملات الإنسانية، فإنها لا تصل إلى غايتها وهدفها المنشود من هذه العلوم.

وكذلك الأمر بالنسبة للمعرفة التجريبية حيث لا يستطيع الإنسان أن يسخر المادة والأحياء لمنفعته إلا بتطبيق المنهج العلمي التجريبي في دراسة الأشياء والأحياء في الأرض، ومعنى هذا أن هذا النوع من المعرفة لا يصل الإنسان به إلى هدفه وغايته منها، إلا باستخدام المنهج العلمي التجريبي.

ومن ثم فإن لكل نوع من المعرفة منهجه والفائدة كل الفائدة في استخدام كل منهج للمعرفة الخاصة به، والضرر كل الضرر والشر كل الشر في استخدام منهج المعرفة في نوع المعرفة المخالف له.

وبثبوت استقلال المعرفة الدينية عن المعرفة التجريبية في المنهج يتأكد لدينا رفع التنازع والتعارض بينهما.

6- والخاصية الأخيرة من خصائص المنهج التجريبي: هو أنه ـ بعكس المنهج الديني – يقوم على الابتداع والإبداع حيث يتمثل نجاح العالم أو الباحث في مقدار أو أهمية المعرفة الجديدة التي يضيفها إلى رصيد الإنسانية من العلم، فالإسهام العلمي في هذا المجال هو اكتشاف لقانون طبيعي، أو سنة كونية، أو علاقة ثابتة بين شيئين، وهذا الكشف العلمي الجديد يقوم عليه إبداع تقني جديد نافع للناس، وسنعرض لهذه الخاصية في الموضوع القادم بتفصيل أكثر بإذن الله تعالى.

الاستقلال والاختلاف بين المعرفتين من حيث الفائدة والنفع للحياة الإنسانية وللوجود الإنساني

أ- فائدة المعرفة والعلم:

لا شك أن الحديث عن فائدة المعرفة – سواء أكانت الدينية أم التجريبية – من نافلة القول، ذلك أن المعرفة بالنسبة للوجود الانساني وللحياة البشرية مقوم أساس وركيزة ضرورية وخاصية إنسانية؛ حتى يمكننا القول بأن تحقيق الذات الإنسانية والمحافظة عليها وثيق الصلة بالمعرفة.

كذلك ثبتت لنا ضرورة المعرفة وارتفاعها إلى مستوى أعلى القيم الإنسانية بارتباطها الوثيق بالابتلاء وهو الحكمة من خلق الإنسان، وبالخلافة وهي رسالة الإنسان وهدفه ودوره في الحياة، وبهما – أي الابتلاء والخلافة – وعليهما يتوقف مصير الإنسان في الدنيا والآخرة.

وإذا تذكرنا ما سبق أن توصلنا إليه من أن العامل الرئيس الإنساني الذي يتوقف عليه فوز الانسان في الابتلاء بتحقيق خلافته الله في الأرض هو الفاعلية الإنسانية، وأن المعرفة – بنوعيها الدينية والتجريبية – مقوم رئيس من مقومات الفاعلية الثلاثة بحيث لا تنتج ولا تصح إلا بهما، إذا تذكرنا هذا كله، ثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك ضرورة المعرفة وأهميتها، ليس للحياة البشرية فقط، بل للوجود الإنساني كله: دنيا وآخرة.

ولكن هذا كله لا يمنعنا من الكلام عن فائدة المعرفة وغاية الإنسان منها لا لتقرير هذا كنتيجة، فهو أمر مؤكد ومقرر سلفًا. بل لبيان الاستقلال بين غاية وهدف الإنسان من المعرفة الدينية، وبين غاية وهدف الإنسان من المعرفة التجريبية. فلكل نوع منهما فائدته للحياة الإنسانية الذي هو في نفس الوقت مساهمة ومشاركة في غاية الإنسانية العليا.

وكذلك نرمي من وراء الكلام عن فائدة المعرفة بيانًا آخر وهو أن المعرفة قد تكون ضارة وقد تكون نافعة. ودليل ذلك أن رسول الله J كان يستعيذ بالله U من علم لا ينفع، كما ثبت أيضًا أنه كان يسأل الله U علمًا نافعًا. فالمعرفة وإن كانت ضرورية للإنسان – إلا أنها قد تكون نافعة وقد تكون ضارة ولا يكون نفع وضرر الإنسان من المعرفة إلا بالعمل وبالفعل بحسب هذه المعرفة وبإرشاد منها وتوجيه.

ب- الفائدة والنفع من المعرفة الدينية:

إذا كانت العقيدة التي تعتقدها أمة من الأمم باطلة ولا تعبر عن الحق الكوني، وكانت الشريعة من وضع الناس فإن النفع العائد على الإنسان في حياته لن يكون تامًّا؛ لأن الغاية من المعرفة الدينية هي تحقيق العبودية لله U ووظيفة هذه المعرفة والعلوم التي تقوم عليها هي ترشيد وتوجيه وتسديد الفاعلية الإنسانية في مجال تحقيق العبودية لله U وحده حيث لن يستطيع الإنسان تحقيق عبوديته الله U بدين باطل لم يأمر به الله U.

إن عقائد الشرك والكفر هي رأس الفساد والشر والظلم في الأرض. ونهى الله U الناس عن الشرك والكفر ليس لفائدة تعود على الله U، فإنه غني عن العالمين، ولكن لفائدة تعود عليهم هم في حياتهم وآخرتهم، حيث إن الله U قد خلق الناس وخلق الأحياء والأشياء والظواهر وكل شيء في الحياة الدنيا بكيفيات وخصائص وطبائع وقوانين تؤدي إلى صلاح الحياة الدنيا وسعادة الانسان فيها، إذا وحَّد ربه وعاش بشريعة الله، ورفض أن يحيا وفق الشرائع والمناهج الحياتية الوضعية.

ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطيع أن يجني فائدة المعرفة الدينية التامة الكاملة؛ إلا من الدين الصحيح أي من الإسلام.

وأما ما عداه من أديان وضعية كانت أم سماوية محرفة فإن الفائدة التي يجنيها الإنسان منها فائدة جزئية محدودة، والشر والظلم والشقاء يطغى في حياة الإنسان على الخير وعلى النفع وعلى سعادة الإنسان، كنتيجة حتمية لشركه وكفره وفسقه وحياته وفق الأهواء والشرائع الوضعية.

وكما أن توحيد الله والإسلام له في المحيا والممات يؤدي إلى الفوز بالجنة في الآخرة بالإضافة إلى السعادة في الدنيا، فإن المعرفة الدينية الباطلة التي يسترشد بها الإنسان في حياته تقوده إلى الهلاك في الآخرة علاوة على الحياة النكدة والمعيشة الضنك في الدنيا.

إن الحياة الإسلامية تقوم على قيمتين رئيستين تعمل العلوم الإسلامية جميعها على تحقيقهما في واقع الحياة البشرية. هاتان القيمتان هما: الحق والعدل؛ لأنهما محور الفائدة والنفع في العلوم الدينية الإسلامية.

فالحق هو أساس العقيدة وهدفها؛ لأن العقيدة الصحيحة الخالية من التحريف هي ما تعبر عن الحقيقة الكلية الشاملة للوجود فهي التي تدل على كل ما هو حق وتهدي إليه، وهذه الحقيقة الكلية للوجود متضمنة في شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

والعدل هو أساس الشريعة الإسلامية وهدفها أيضًا؛ لأن الشريعة الربانية هي التي تهدي إلى كل ما هو عدل وخير للناس في حياتهم ومماتهم.

وبالمقياس والمنهج الاسلامي، كلما كانت العقيدة مطابقة لكلام الله U وحديث رسوله o خالصة من التحريف والشوائب، كلما صح توحيد العبد وزاد إيمانه وانتفع به في حياته وآخرته.

وكلما كانت الشريعة والعبادات خالية من البدع والتحريفات مطابقة لما نزل من عند الله، كلما عمت الفائدة من شرع الله وتمت نعمته بها على الفرد والمجتمع والأمة، بل والإنسانية كلها.

ومن ثَمَّ يمكننا القول أن الخير والنفع للإنسان في التزام الحق في المعرفة الدينية، وأن الشر في مجانبة الحق والتزام الباطل. والخير والشر هما النتيجتان العمليتان لكل من الحق والباطل على التوالي.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …