أخبار عاجلة

المستشرقون وتعصبهم الفاضح ضد العرب والإسلام .. إرنست رينان كمثال [5 /7]

 لما كثر عدد المسلمين واشتدت حميتهم الدينية زالت العلوم وظهر الهول الديني والنفاق ظهورًا تامًّا، فكان دين الإسلام ذا حرية وعدل لما كان ضعيفًا، وذا قساوة لما كان قويًّا، فلا فضل إذًا فيما أجازه لعدم استطاعته منعه، ففضله في ذلك كفضل علماء ديننا في علوم عصرنا التي استكشفت رغمًا عنهم، إذ عقائد الدين النصراني كان أشد منعًا للعلوم من دين الإسلام؛ إلا أنها ما نجحت في قتل العلم كما نجح دين الإسلام في بلاده…

الأستاذ محمد إسحاق عبد الرسول

بقية: الرد على ما جاء في المحاضرة

تلك هي الهالة التي حاكها رينان وأمثاله من هذا النمط من المستشرقين، في الوقت الذي فيه قد نسوا جميعًا أن الكنيسة في أوروبا قد اضطهدت العلم والعلماء، يقول ديورانت: “لم تستطع البروتستينية أن تؤيد العلم؛ لأنها أسست على كتاب مقدس معصوم، ورفض لوثر – المصلح الديني الشهير – فلك كوبرنيق؛ لأن التوراة ذكرت أن يشوع أمر الشمس، لا الأرض، أن تقف”([1]).

ومن العجيب أن رينان الذي تأسف على نكبة ابن رشد قد تناسى ما فعلته محاكم التفتيش في معظم ربوع أوروبا، فلم يتأسف على نكبة الفلكي الإيطالي الشهير جاليليو Galileo وأحد بناة العلم في عصر النهضة عندما أصدرت إحدى محاكم التفتيش في إيطاليا سنة 1633م قرارها بإدانته بالهرطقة والتمرد والعصيان. وعرضت عليه الغفران شريطة تأدية القسم علنًا أمام الجمهور بالتخلي عن آرائه في الفلك وحكمت عليه بالسجن، ورأت للتكفير عن ذنبه أن يتلو مزامير الكفارة السبعة كل يوم طيلة السنوات الثلاث التالية وفي هذا يقول ديورانت: “واضح أن جاليليو كان رجلًا متهدمًا مغلوبًا على أمره أذلته كنيسة أحسّت بأنها وصية على عقيدة بني البشر وآمالهم وأخلاقهم أنْ تخلّيه عن آرائه بعد قضاء شهور عدّة في السجن، وأيام عدّة من المساءلة والمحاكمة، مما كان من الجائز أن يحطّم عقل مكافح شاب كما يحطم إرادته، نقول: إنّ هذا التخلّي كان أمرًا يمكن لدى شيخ هرم علق بذاكرته إحراق برونو”([2])، أما برونو الذي ورد اسمه فهو أحد الفلاسفة الذين تبنوا بعض أفكار كوبرنيكس الفلكية حيث حكم عليه بأن يحرق حيًّا في سنة 1600م على مشهد من جمع غفير([3]). وهل نسي رينان أيضًا أن ميشيل سرفيتوس Servitus الذي نشر عام 1553م كتابًا يصف فيه الدورة الدموية قد أعدم بسببه حرقًا([4]).

ولقد حفظ لنا التاريخ – من حسن الحظ – تلك الرسالة الخالدة التي يبرأ فيها جاليليو من أفكاره الفلكية في أخريات حياته وقد قارب من السبعين عامًا والتي يقول فيها: “بقلب مخلص، وإيمان صادق، ألعن وأبغض وأعلن التخلي عن الأخطاء والهرطقة المنسوبة إليّ، وعن أي خطأ أو هرطقة أخرى أخالف فيها الكنيسة المقدسة. وأقسم أني لن أذكر بعد اليوم أي شيء قد يثير مثل هذه الريب حولي، وأني إذا عرفت أي هرطيق فلا بدّ من أن أبلغ عنه هذه المحكمة…. وأدعو الله أن يمنحني العون وأن تساعدني هذه الكتب المقدسة التي أضع يدي عليها([5]).

خامسًا: يقول رينان في كذب ظاهر وحسرة زائفة: “ونرى أيضًا أن كتب الفلسفة أعدمت وصارت نادرة جدًّا وأنه لا يجوز تعليم علم الفلك إلا بقدر ما هو لازم لمعرفة اتجاه القبلة للصلاة “. ومن يطالع هذا الكلام لا بد أن يدور بذهنه على الفور أنه كانت هناك مذبحة لكتب الفلسفة، غير أن كتب التاريخ قد خلت من ذكر هذا الأمر، كما أن المستشرقين الذين ما انفكوا يكيدون للإسلام والمسلمين لا نجد في مؤلفاتهم ما يؤيد هذا الرأي، ولعل رينان لو كان صادقًا في دعواه لأقام هؤلاء المستشرقون الدنيا وأقعدوها طعنًا في الإسلام الذي يضطهد الفلسفة والفلاسفة والعلم والعلماء، صحيح أن هناك من كان يبغض الفلسفة كالإمام الغزالي – مثلًا – الذي كتب مؤلفًا شهيرًا ضد الفلسفة وهو كتاب “تهافت الفلاسفة” غير أن ابن رشد قد رد عليه بكتاب “تهافت التهافت” وهو نوع من صراع الأفكار الدالة على مدى رقي الحياة العقلية والفكرية في الحضارة العربية الإسلامية، فضلًا عن كونها من الظواهر الصحية بكل المقاييس. ولعل أوضح دليل على كذب هذا الادعاء وبطلانه، أن جميع المؤرخين والمستشرقين من دون استثناء لم يجدوا فضلًا للعرب سوى نقلهم لتراث الإغريق الحافل بالفلسفة والمنطق، فكيف يستقيم هذا مع ادعائه بأن كتب الفلسفة قد أعدمت.

إن المحنة الحقيقية التي حلت بكتب الفلسفة إنما جاءت على يد الأوروبيين أنفسهم إبان سقوط الأندلس، إذ يحدثنا عن هذه المحنة محمد عبد الله عنان في مؤلفه الموسوعي الشهير “دولة الإسلام في الأندلس” بقوله: “واستدعي الكردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تنصير المسلمين، ولم يقف عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية التي انتهت بتوقيع التنصير على عشرات الألوف من المسلمين، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربري وشائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية، ونظمت أكداسًا هائلة في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف وأضرمت النيران فيها جميعًا، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، وذهبت ضحية هذا الإجراء الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما بقي من تراث التفكير الإسلامي في الأندلس”([6]).

ويعلق المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت W.Prescott  على هذه المحنة بقوله: “إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل، وإنما حَبر مثقف، وقد وقع لا في ظلام العصور الوسطى، ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها”([7]).

واستطرادًا لسلسلة الإبادة الجماعية للتراث العربي، فقد ذكر المؤرخ جيبون Gibbon عن الدولة الرومانية أنه كان في مدينة طرابلس وحدها على عهد الفاطميين، مكتبة تحتوي على ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنجة كلها في سنة 502ھ (1100م)([8]).

سادسًا: لم يأل رينان جهدًا في التدليل على أن الإسلام دين يعادي العلم، وأن العرب إذا كان لهم حظ من العلم فإنه لا يعدو عن كونه علمًا يونانيًّا قد كُتِب باللسان العربي، وقد شايع هذا النهج جمهرة كبيرة من مؤرخي العلم من الغربيين. ولو كان رينان على قدر يسير من البصر والبصيرة لأدرك فضل الإسلام بوصفه عقيدة على العلم، وهو ما تنبه إليه عدد من المستشرقين منهم على سبيل المثال؛ كرلو نلينو C. Nallino وهو من الثقات في علم الفلك عند العرب إذ ألف كتابًا شهيرًا بعنوان “علم الفلك …تاريخه عند العرب في القرون الوسطى” بيّن فيه العلاقة بين تقدم العرب في علم الفك من ناحية وبين بعض أركان الإسلام من ناحية أخرى إذ يقول: ” لا يخفى على من اعتبر أمور الدين الإسلامي، ما وقع بين بعض أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات وبين بعض الظواهر الفلكية من الارتباط الواضح الجليّ. إن أوقات الصلوات الخمس تختلف من بلد إلى بلد، ومن يوم إلى يوم، فيقتضي حسابها معرفة عرض البلد الجغرافي، وحركة الشمس في فلك البروج. ومن شروط الصلاة الاتجاه إلى الكعبة فيستلزم ذلك معرفة سمت القبلة. كما أن أحكام الشريعة في الصوم حملت الفلكيين على البحث في المسائل العويصة بشرط رؤية الهلال وأحوال الشفق، فبرزوا في ذلك واخترعوا حسابات وطرقًا بديعة لم يسبقهم إليها أحد. فبالجملة أن ارتباط بعض أحكام الشريعة بالمسائل الفلكية زاد المسلمين اهتمامًا بمعرفة أمور السماء والكواكب ….الخ”([9]).

========================

([1]) قصة الحضارة، مصدر سابق، ج27 ص115.

([2]) المصدر سابق، ج30 ص 280.

([3]) المصدر سابق، ج30 ص300.

([4]) في تراثنا العربي الإسلامي، د. توفيق الطويل، ص126.

([5]) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ج 30 ص279.

([6]) دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، ج7 ص316.

([7]) المصدر السابق، ص 218.

([8]) خصائص الأدب العربي، أنور الجندي، ص220.

([9]) علم الفلك …تاريخه عند العرب، كرلو نلينو، ص229.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (36)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …