بيَّنَّا اللقاء الماضي أن ما ورد في السُّنَّة الشريفة عن أشراط الساعة يدل دلالة صريحة على أنها نوعان: الأول: ما اعتاد العلماء واصطلحوا على تسميته بعلامات أو اشراط الساعة الصغرى، والثاني: ما اصطلح عليه العلماء بالأشراط الكبرى، وعددها عشر وهي التي تنذر بقرب انتهاء أجل الدنيا.. وفي هذا المقال نستكمل الحديث، فنقول:
أ.د. فاروق الدسوقي
بقية: علامات الساعة وأشراطها الصغرى
لا بأس من ذكر العلامات الصغرى إجمالًا، فعن الأحوال السياسية للأمة ما أخرجه الطبراني عن حامل الصدفي مرفوعًا: [سيكون بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، ثم يؤمَّر بعده القحطاني، فوالذي بعثني بالحق ما هو بدونه]([i]).
ونحن الآن بلا جدال في عهد الجبابرة.
وفي أخلاق الناس: [لا تقوم الساعة حتى يُعِزُّ الله فيه ثلاثًا: درهمًا من حلال، وعلمًا مستفادًا، وأخًا في الله U]([ii]).
وكذا قوله o: [لا تقوم الساعة حتى تُتخذ المساجد طرقًا، وحتى يسلم الرجل على الرجل للمعرفة، وحتى تتجر المرأة وزوجها، وحتى تغلو الخيل والناس، ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة]([iii]).
ومن الأحوال والخصال العديدة التي حدثت ما أورده صاحب كنز العمال عن ابن أبي الدنيا والطبراني معلقًا بقوله: (ولا بأس بسنده): [لا تقوم الساعة حتى يجعل كتاب الله عارًا، ويكون الإسلام غريبًا، وحتى تبدو الشحناء بين الناس، وحتى يُقبض العلم، ويهرم الزمان، وينقُصُ عمر البشر، وتنقُصُ السنون والثمرات، ويؤتمن التهماء ويتهم الأمناء، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى تبنى الغرف فتطاول، وحتى تحزن ذوات الأولاد وتفرح العواقر، ويظهر البغي والحسد والشح، ويهلك الناس، ويُتبع الهوى، ويُقضى بالظن، ويكثر المطر، ويقل الثمر، ويغيض العلم غيضًا، ويفيض الجهل فيضًا، ويكون الولد غيظًا، والشتاء قيظًا، وحتى يجهر بالفحشاء، فيجعلون حقي لشرار أمتي ومن صدقهم بذلك ورضى لم يرح رائحة الجنة]([iv]).
جميع هذه الأحوال والخصال والأخلاق والأحداث حدثت.
وعن السرعة في الانتقال بالوسائل الحديثة نقرأ هذا الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة عن النبي o قال: [لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة]([v]).
إن احتراق السعفة يكون في الثانية أو الثانيتين والطائرة تقطع في الثانية ما كان يقطع قديمًا بالحصان في الساعة إذ تبلغ سرعة الطائرة ٣٦٠٠ كم في الساعة والحصان ٦٠ كم في الساعة، وهكذا يكون تقارب الزمان قد تم وتعيشه البشرية الآن.
هذه الأحوال والخصال والأنظمة السياسية والأسرية والخلقية والاقتصادية كلها قائمة الآن في العالم كله، وفي العالم الإسلامي، على تفاوت بين شعوبه، ومنها إماتة الصلاة، وتضييع الأمانة، وأكل الربا وفشوه كنظام اقتصادي رئیسي، واستحلال الكذب والتطاول في البنيان، وتقطيع الأرحام وإمارة الرويبضة، أي سفهاء القوم، وغير ذلك مما هو مشهود اليوم. وكلها أحوال تخالف شريعة الله U حدثت ولا زالت مستمرة.
ومما يدل على أن من علامات اقتراب الساعة قربًا شديدًا تقارب الزمان، إذ يعد تقارب الزمان بالمعنى آنف الذكر – دليلًا على أن الدنيا في آخر أجلها، ويؤكده قول الرسول o فيما رواه عنه أبو هريرة: [إذا اقتربت الساعة تقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاحتراق السعفة في النار]([vi]).
وهي نفس الرواية السابقة لأبى هريرة مع اختلاف في بعض لفظها.
لكن قد يقول قائل: إن هذا كله من الأشراط الصغرى، وقد يكون من نصوص السنة ما يدل على وجود أشراط صغرى أخرى لم تحدث بعد، ومن ثم يبقى زمن طويل على بدء الأشراط الكبرى.
لذلك أرى أن أورد هنا أطول ما عثرت عليه في السنة الشريفة من أثر يجمع كل ما يمكن أن يتوقع من أشراط مستمرة؛ ليعرف القارئ أنها جميعًا قد حدثت ولم تبق إلا الكبرى.
أورد الشيخ الهندي في كنز العمال: عن زيد بن واقد عن مكحول عن عليٍّ قال: قال رسول الله o: [من اقتراب الساعة: إذا رأيتم الناس أضاعوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكبائر، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشى، وشيدوا البناء، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، واتخذوا القرآن مزامير، واتخذوا جلود السباع صفافًا، والمساجد طرقًا، والحرير لباسًا، وكثر الجور، وفشا الزنا، وتهاونوا بالطلاق، واؤتمن الخائن، وخُوِّن الأمين، وصار المطر قيظًا، والولد غيظًا، وأمراء فجرة، ووزراء كذبة، وأمناء خونة، وعرفاء ظلمة، وقلَّت العلماء، وكثرت القراء، وقلت الفقهاء، وحليت المصاحف، وزخرفت المساجد، وطولت المنابر، وفسدت القلوب، واتخذوا القينات، واستحلت المعازف، وشربت الخمور، وعطلت الحدود، ونقصت الشهور، ونُقضت المواثيق، وشاركت المرأة زوجها في التجارة، وركب النساء البراذين، وتشبهت النساء بالرجال والرجال بالنساء، ويُحلف بغير الله، ويشهد الرجل من غير أن يُستشهد، وكانت الزكاة مغرمًا، والأمانة مغنمًا، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه وأقصى أباه، وصارت الإمارات مواريث، وسبَّ آخر هذه الأمة أولها، وأكرم الرجل اتقاء شره، وكثرت الشرط، وصعد الجهال المنابر، ولبس الرجال التيجان، وضيقت الطرقات وشيد البناء، واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وكثرت خطباء منابركم، وركن علماؤكم إلى ولاتكم، فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، وأفتوهم بما يشتهون، وتعلم علماؤكم العلم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم، واتخذتم القرآن تجارة، وضيعتم حق الله في أموالكم، وصارت أموالكم عند شراركم، وقطعتم أرحامكم، وشربتم الخمور في ناديكم، ولعبتم الميسر، وضربتم بالكَبَر([vii]) والمعزفة والمزامير، ومنعتم محاويجكم زكاتكم، ورأيتموها مغرمًا، وقُتل البريء ليغيظ العامة بقتله، واختلفت أهواؤكم، وصار العطاء في العبيد والسقاط، وطفَّف المكائيل والموازين، ووليت أموركم السفهاء)([viii]).
==================================
([i]) كنز العمال ج١٤ حديث ٣٨٦٦٧ صفحة ٢٦٥.
([ii]) رواه الديلمي عن حذيفة وجاء في كنز العمال ج١٤ حديث ٣٨٦٠٠ صفحة ٢٤٩.
([iii]) الحاكم والطبراني عن كنز العمال ج١٤ حديث 38590 ص ٣٤٨.
([iv]) الحاكم والطبراني عن كنز العمال ج١٤ حديث ٣٨٥٧٧ ص ٣٤٤.
([v]) كنز العمال حديث رقم ٣٨٥04، ونسبه لمسند أحمد.
([vi]) أخرجه أبو يعلى وذكره صاحب الكنز حديث ٣٨٥٠٣ ج١٤ ص٢٢٧، وله نظير عند حذيفة سيأتي بعد.
([vii]) بالكبر: الكبر بفتحتين الطبل ذو الرأسين، وقيل: الطبل الذي له وجه واحد.
([viii]) كنز العمال حديث رقم ٣٩٦٣٩ ج١٤ ص٥٧٣، وعزاه إلى أبي الشيخ في الفتن والديلمي، وللحديث شواهد في أحاديث أخرى متفرقة، كما أن وقوع هذه الأحوال بين أمصار المسلمين اليوم يقويه، بل واعتبره دليلًا على صدق نبوة الرسول o.