أخبار عاجلة

أنا ومصر

قد يذكر لي بعضكم محمد حسان أو يعقوب أو الحويني.. وقد يذكر لي آخرون عادل إمام وإخوانه من أهل المجون والشذوذ.. وأنا أقول لكم: أنا لا أعتبر هؤلاء مصريين.. ذلك أن أولهما عبارة عن بضائع سعودية، جلبها حب المال، وثانيها بضائع غربية سوقت لمصر كما سوقت لغيرها من بلاد العالم الإسلامي…

أ. د. نور الدين أبو لحية

هناك أسباب موضوعية تجعلني أقف مع مصر في وجه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها من طرف الذين أدمنوا على تدمير بلاد المسلمين، والتي ربما لا تقنعكم، أو لا تقنع الكثير منكم، وسأحدثكم الآن عن شأن شخصي جعلني أقف تلك الوقفة التي أعتبرها فرضًا واجبًا، أو ديْنًا من مصر في رقبتي رأيت من الواجب عليَّ أن أؤديه لها، ومع أنه شأن ذاتي، وتجربة شخصية إلا أنه يمكن أن يكون بعضكم قد مرّ بما مررت به؛ ولعله يرى مثلما أرى من وجوب الوفاء بهذا الدَّين؛ فالدَّين معلق بصاحبه حتى يقضى عنه.

وأول هذا الدّين الذي علق برقبتي لمصر هو ارتباطها في ذهني بالقرآن الكريم؛ فقد كان أول ما طرق سمعي من أصوات أهلها تلك القراءات الشذية التي حببت القرآن إلى قلبي من أولئك القراء الكبار المشاهير أمثال: المنشاوي ورفعت ومصطفى وعبد الباسط وغيرهم، والذين أتى بعدهم من يستبدلهم بقراء من السعودية وغيرها، لتملأ فراغهم، لكنها لم تفعل شيئًا.. وبقيت تلك الأصوات وحدها، من له ذلك التأثير العجيب.

ولم يكن ذلك وحده ما جعلني أرتبط روحيًّا بمصر، بل كان هناك ما لا يقل شأنها، وهو ارتباطها في ذهني بالمحبة الإلهية، فقد كان أول الدواوين التي قرأتها ديوان ابن الفارض، والذي كنت أردد قصائده في كل المحال، وأتنغم بها، وكنت أشعر وأنا أرددها، وكأنني في نفس تلك الشعاب المصرية التي كان يردد فيها أشعاره الروحانية الجميلة، وخاصة تلك الأبيات التي يذكر فيها مصر، ويقول:

مــذ غـبــتــم عن ناظري لي أنَّـة

ملأت نواحي أرض مصر نواحا

وإذا ذكـرتـكـم أمــيــل كـأنــنــي

من طيب ذكركم سقيت الراحـــا

وهكذا ارتبطت في ذهني بالكثير من الصالحين الذين كانوا يرددون نفس ما يردده ابن الفارض من قصائد في المحبة الإلهية، من أمثال ساداتي: أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وعبد الرحيم القنائي وأبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي وعلي أبي الوفاء، وغيرهم كثير.. والذين كنت أقرأ سيرهم في مؤلفات الشيخ عبد الوهاب الشعراني؛ فأمتلئ شوقًا لتلك الأحياء المصرية التي ضمت كل هؤلاء الأولياء الذين كانوا أعرف بطرق السماء منهم بطرق الأرض.

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بالحكمة من خلال مطالعتي وتدبري لحكم ابن عطاء الله السكندري، والتي كان لأسلوبها ومعانيها تأثيره الكبير في نفسي، بل في حياتي جميعًا، ولا سيما حكمته الشهيرة: (ادفن وجودك في أرض الخمول ، فما نبت مما لم يدفن لا يتمّ نتاجه)، فقد كان لها تأثير كبير في كل حياتي، جعلتي أهرب من الأضواء، ومن كل ما يمكن أن يحجبني عن الحق والحقيقة، ومثل ذلك حكمه الكثيرة في التسليم والتفويض لله، والتي ضمنها رسالته المشهورة (التنوير في إسقاط التدبير)، وهكذا غيره كثير ممن سبقوه أو لحقوه، ونشروه من الحكمة الروحانية ما يرفع الإنسان إلى مرتبة الإنسان.

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بمحبة رسول الله o، وقد كان أعظم ما نحبه، ونردده، ومن صغرنا الباكر قصيدة البردة للبوصيري، ومثلها كل القصائد التي نهجت نهجها، ومن شعراء مصريين كبار، كأحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وغيرهما.. وقد كنا لا نكتفي بحب كلماتها المصرية، بل نضيف إليها حبنا لذلك الذي أداها فأحسن الأداء عبد العظيم العطواني.. والذي جعلها حية في مشاعرنا ووجداننا، لا نمل سماعها حتى لو كررناها آلاف المرات.. ولم يكن الأمر قاصرًا على ذلك بل هناك مئات بل آلاف من أمثاله، والذي تصدح حناجرهم كل حين بحب النبي o والارتباط به، وبكل أنواع الارتباط.

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بمحبة العترة الطاهرة، وآل البيت الكرام، والتعلق بهم إلى درجة التتيم والهيام، وهو ما لا نجده في جميع بلاد العالم الإسلامي التي تدعي أنها تنتسب لسنة رسول الله o، لكنها تقصر كثيرًا في حق عترته.. إلا المصريين؛ فهم ـ مع كونهم من المدرسة السنية ـ إلا أن ولاءهم للعترة الطاهرة، وعشقهم لهم لا يكاد يضاهيه أحد، فهم شيعة في ثياب سنة، أو سنة في ثياب شيعة.

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بكل المعاني الجميلة، لا في القديم فقط، بل في الحديث أيضًا.. فقد كان من أكبر العلماء والأدباء الذين ـ أحسب نفسي تلميذًا لهم ـ الأديب الكبير مصطفى محمود، فقد كنت أطالع كتبه وأكررها ولا أمل منها.. ومثل ذلك أستمع لحصصه التي تجمع بين العلم والإيمان، والتي كان لها تأثير كبير في كل حياتي.. ومثل ذلك الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي حبّب إليَّ تدبر القرآن الكريم والبحث عن لطائفه، وكم كنا نجتمع على حلقاته ودروسه في التفسير، ونكررها كل حين.

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بالوحدة الإسلامية، والتقارب بين المذاهب، والذي جعلت حياتي كلها متعلقة بأداء هذا الواجب النبيل، وقد كان أول من تتلمذت عليه في ذلك الشيخ محمود شلتوت، وغيره من مشايخ مصر الذين أبعدوني عن التطرف والطائفية، وجعلوني أتعلق بالإسلام وحده، وبالمسلمين مهما كانت طوائفهم..

وهكذا ارتبطت مصر في ذهني بالوعي للمخاطر التي تهدد الإسلام والمسلمين، وقد كان من أكبر من تتلمذت عليهم في ذلك أهل العزائم في مصر ـ كما أحب أن أطلق عليهم ـ ابتداء من إمامهم الأكبر محمد ماضي أبي العزائم، وانتهاء بإمامهم الحالي علاء الدين أبي العزائم.. وهم الذين أطلقوا شعار (الإسلام وطن)، في مجلتهم العريقة التي كانت سباقة للتحذير من كل المخاطر التي تهدد الأمة، ومنها مخاطر التيارات السلفية والحركية، ومن يمونها.. بالإضافة إلى المخاطر التي تهدد الأمة من أعداء الخارج.. وقد كان لذلك كله دوره الكبير في حمايتي من الوقوع في الفتن التي مرت بها الأمة.

هذه نماذج عن تأثيرات مصر في نفسي، وديونها علي، والتي جعلتني أحرص عليها، وأخاف أن يحدث أي خرق؛ فتهدم بسببه تلك القباب التي بنيت على أضرحة الصالحين والعترة الطاهرة، كما حصل في ليبيا وسورية.. أو يحدث اختراق لكل المؤسسات العلمية والزوايا التي تنشر الهداية النبوية، وحب العترة الطاهرة، لتستبدل بالمشروع الأموي، بما يحمله من ألوان النصب والتطرف والطائفية.

قد يذكر لي بعضكم محمد حسان أو يعقوب أو الحويني.. وقد يذكر لي آخرون عادل إمام وإخوانه من أهل المجون والشذوذ.. وأنا أقول لكم: أنا لا أعتبر هؤلاء مصريين.. ذلك أن أولهما عبارة عن بضائع سعودية، جلبها حب المال، وثانيها بضائع غربية سوقت لمصر كما سوقت لغيرها من بلاد العالم الإسلامي.. ومصر الروحانية الجميلة التي ذكرتها لكم لا تقبل أمثال هؤلاء الشواذ الذين دسوا في الجسد المصري لتشويهه.

وقريب من هؤلاء، أو ربما يتجاوزهم أولئك الذين يريدون أن ينسخوا صورة مصر الجميلة المرتبطة بالصلاح والروحانية والوعي.. ليجعلوا بدلها صورة مصر الخائنة التي تحاصر الجائعين وتقتلهم.. وهذا هدف كبير من أهداف الأعداء يريدون به القضاء على الإسلام من خلال القضاء على من يعطي له صورة جميلة.. لتصبح بعد ذلك السعودية وقطر وتركيا وسورية الجديدة هي من يمثل الإسلام، ليشوهوه بذلك أعظم تشويه.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (36)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …