أخبار عاجلة

جوانب الخلاف بين جمعية العلماء والطرق الصوفية (4)

إن الفقهاء الكبار قسموا البدع هذا التقسيم، فقد روي عن الشافعي أنه قال: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم)…

أ. د. نور الدين أبو لحية

بقية: الفصل الأول:

جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول مفهوم البدعة وضوابطها

بقية: المبحث الأول:حقيقة البدعة وحكمها

بقية: المطلب الثاني: حكم البدعة

بقية: الفريق الثاني: المتساهلون

روي عن ابن عمر مثله في صلاة الضحى، فقد روي عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعمت البدعة، وقد قال تعالى حاكيًا عن أهل الكتاب: )رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا( [الحديد: 27]([1]).

بل إن الفقهاء الكبار قسموا البدع هذا التقسيم، فقد روي عن الشافعي أنه قال: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم)([2]).

وقال ابن حزم: (البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله o إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسنًا، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر: (نعمت البدعة هذه)، وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحبابًا، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذمومًا ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به)([3]).

وقال أبو حامد الغزالي: (وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله o، فليس كل ما أبدع منهيًّا عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرًا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب)([4]).

وقال ابن الأثير: (البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله o فهو في حَيِّز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ عليه الله ورسوله: فهو في حَيِّز المدح)([5]).

ولكن الذي نظر لهذا، ودافع عنه، حتى اشتهر به هو العز بن عبد السلام، فقد قال في كتابه الذي خصصه لمقاصد الشريعة، وسماه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام): (البدعة فعل ما لم يُعْهَد في عصر رسول الله o وهي منقسمة إلى: بـدعة واجبة، وبدعة مُحَرَّمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي مُحَرَّمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة)([6]).

وتبعه على هذا الكثير من الفقهاء الذين انتشرت كتبهم ودرست في المدارس الإسلامية فترة طويلة، كالإمام النووي([7])، والحافظ ابن حجر([8]).

بل إن الكثير ممن كتب في ذم البدع ذهب إلى هذا الرأي:

فأبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) يقول: (ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة)([9]).

ومن المتأخرين الشيخ عبد الله الصديق الغماري، فقد قال في كتابه (القول المبين): (قَسّم عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى البدعة باعتبار استعمالها على المصلحة والمفسدة، أو خُلُوّها عنهما إلى أقسام الحكم الخمسة: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، ومَثّل لكل قسم منها، وذكر ما يشهد له من قواعد الشريعة. وكلامه في ذلك كلام ناقد بصير، أحاط خُبْرًا بالقواعد الفقهية، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها. ومن مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسسًا على أساسٍ من الفقه وقواعدِهِ متين؛ ولذا وافقه عليه الإمام النووي والحافظ ابن حجر وجمهور العلماء تَلقّوا كلامه بالقبول، ورأوا أن العمل به متعين في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله، حتى جاء صاحب (الاعتصام) فخرج عن جمهرة العلماء، وشَذّ بإنكار هذا التقسيم فَبَرْهَن بـهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه، بعيد عن قواعده المبنيَّة على المصالح والمفاسد لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله، ولا يَدْري ما فيه مفسدة فيطلب اجتنابـها بتركه ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء. وأخيرًا برهـن على أنه لم يَتَذوَّق علم الأصول تذوقًا يمكّنه من معرفة وجوه الاستنباط، وكيفية استعمالها، والتصرف فيها بما يناسب الوقائع، وإن كان له في الأصول كتاب (الموافقات) فهو كتاب قليل الجدوى، عديم الفائدة، وإنما هو بارع في النحو له فيه شرح على ألفية ابن مالك في أربعة مجلدات دَلَّ على مقدرته في علم العربية، على أنَّا وإن كنا نعلم أن للشاطبي دراية بعلم أصول الفقه على سبيل المشاركة: فلا نشك في أن سلطان العلماء فيه أمكن، وعلمه بقواعده أتم، وقواعده الكبرى خير شاهد على ذلك)([10]).

ومنهم – كذلك – الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور شيخ المقاصد ومعلمها في هذا العصر، والذي تتلمذ عليه الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فهو من القائلين بانقسام البدع، وقد حصل بينه وبين ابن باديس خلاف شديد في هذا، رأينا بعض صوره عند الحديث عن الاتجاه الفكري للجمعية.

=============================

([1]) ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، الدار السلفية الهندية، (2/ 405).

([2]) أبو نعيم، حلية الأولياء، (9/113).

([3]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (1/ 47).

([4]) إحياء علوم الدين (2/ 3).

([5]) المبارك بن محمد الجزري بن الأثير مجد الدين أبو السعادات، النهاية في غريب الحديث، المكتبة الإسلامية، (1/106).

([6]) أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي، دار المعارف، بيروت – لبنان، (2/ 172).

([7]) قال النووي في (شرح النووي على مسلم (3/ 247): (قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحَرَّمة ومكروهة ومباحة).

([8]) قال في فتح الباري: (التحقيق: أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع هي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح) (أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة – بيروت، 1379، 4/253).

([9]) عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، الباعث على إنكار البدع والحوادث، دار الهدى – القاهرة، الطبعة الأولى، 1398 – 1978م، ص22.

([10]) عبد الله بن الصديق الحسني الغماري، الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين، مطبعة العهد الجديد، الطبعة الثانية، سنة 1374 هـ – 1955 م، ص 107.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (36)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …