أخبار عاجلة

معارج المقربين (7)

عمارة كل وقت من أوقات السالك فيما اقتضاه الوقت من اللازم الشرعي من عمل قلبي فقط، أو عمل بدني فقط، أو عمل مزدوج منهما، وبذلك ينتقل على معارج القرب في كل لمحة ونفس؛ لأن الزمن هو المراحل التي ينتقل منها إلى حضرة الرب سبحانه وتعالى..

الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم

الطريق إلى الله تعالى

تعريف الطريق إلى الله:

عمارة كل وقت من أوقات السالك فيما اقتضاه الوقت من اللازم الشرعي من عمل قلبي فقط، أو عمل بدني فقط، أو عمل مزدوج منهما، وبذلك ينتقل على معارج القرب في كل لمحة ونفس؛ لأن الزمن هو المراحل التي ينتقل منها إلى حضرة الرب سبحانه وتعالى، وإنما العمر هو المسافة التي بين العبد وربه: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ (العلق: 8)، فكلما مضى من عمره نفس انتقل مرحلة إلى ربه، وفي كل نفس له كمالات يتجمل بها إذا عمر الوقت بواجبه، فإن أهمل خسر الوقت وخسر الربح فيه، وطولب بواجبه؛ لأن تلك الصحف ترسم فيها صور الأعمال محلاة بنور القبول والثناء من الله، أو بظلمة من المعصية والمقت من الله، ولا يعد المريد سالكًا على الطريق إذا لم يحط علمًا بواجب الأوقات وبصحبة من سلك، وعرف المبدأ والمرجع، وتمكن من معرفة النفوس وعلم أمراضها ودواءها وتكميلها.

على أني لا أحكم أن المريد معصوم عن المعاصي، ولكني أرى أنه يقع في صغائر الأمور التي تشتبه عليه؛ لأنها خفية، وانتفاؤها عن المريد متعذر، كما يحصل من بعض المريدين من المسارعة في عمل النوافل، والتساهل بالواجبات من بر أو صلة أو نجدة أو عيادة أو جهاد أو اكتساب، فقد يكون واجبًا يقتضيه الوقت، فيترك ذلك ويقبل على الأوراد والصيام والسهر في القيام، فتكون تلك المعاصي تدخل على المريد من حيث لا يعلم، وأمثال هذه كثيرة، نكتفي بما تقدم من المثل، لهذا يجب على المريد صحبة الكامل.

إذا تحقق هذا من أن العمر هو المسافة، لزم على كل مريد أن يعلم الحقوق الواجبة عليه لنفسه ولربه سبحانه وللناس بحسب مراتبهم، ويعلم مواقيت تلك الحقوق وشروطها، فقد يكون الوقت يقتضي الشكر فيصرفه في الذكر، وقد يقتضي السعي على المعاش فيصرفه في الصلوات، وإني أحب أن أضع مقدمات للمريد وضوابط، إذا لاحظها يسهل عليه معرفة مقتضى الوقت، ويعلم الأحكام الشرعية التي تجب عليه في نفس الوقت، والله الموفق.

المقدمات والضوابط

المقدمات:

المقدمة الأولى: العلم بالنفس، العلم بالله، العلم بأحكامه، العلم بأيامه.

المقدمة الثانية: إخلاص النية عند العمل. تأدية العمل على الوجه الشرعي. الفرح به من حيث أنه لله وبتوفيقه، الشكر بعده لله على عنايته وإقامة العبد مقام عامل له سبحانه. عدم الاعتماد على العمل. تحققه بالعجز عن حقوق الشكر بعد العمل. جعل كل الأعمال لله تعالى ولو كانت من شهواته الحيوانية بتصريفها بحسن النية. مجاهدة نفسه حتى لا يجد سرورًا في نفسه بالعمل أمام الناس أو في الخلوة لصحة توجهه إلى الله تعالى، فإن نشط أمام الخلق وكسل في الخلوة جاهد نفسه ليكون حاضرًا مع الله في الحالين، غائبًا عن الخلق في المشهدين، كما يحصل للعامل إذا عمل عملًا نافعًا لذاته، فإن الأمر يستوي عنده في الخلوة والمجتمع. تلبية قلبه فيما يدعوه إليه، إلا فيما أوقع في ريبة في عين الخلق أو شبهة عنده، فإنه يحفظ الخلق من الوقوع في محرم بشأنه، أو من الوقوع في محرم بالاقتداء به. غض البصر عن عورات الناس وعيوبهم ومساويهم ليستريح ويريح، إلا من أمر بمعروف أو نهى عن منكر بشروطه الشرعية. المسارعة عند النشاط على القربات بعد الفرائض. قهر النفس عند الكسل على عمل الواجبات في أوقاتها، ولو بالتكلف.

تسليم ما يجهل من أسرار الحكمة والقدرة للعالم الأكبر I؛ حتى يفتح له باب العلم بها بدون بحث بعقل، ولا تنقيب بفكر، فإنه ولد جاهلًا أولًا. ترك الجدل مرة واحدة، فإنه باب القطيعة ومهاوي البعد؛ لأنه إذا ترك الظالم أو المبتدع في ضلالته، خير له من أن يجادله ليرده إلى الحق؛ لأن الجدل بدعة مضلة ولا يأتي الخير بالشر ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ (الزخرف: 58) وقال J: (إذا غضب الله على قوم أوتوا الجدل)، يكون مقصوده الرضا من الله تعالى، وحسن الثناء منه سبحانه، الأمر الذي يصغر الخلق في عينه فلا يحزنه سخطهم وإدبارهم، ولا يفرحه إقبالهم ورضاهم؛ إلا من وجهة حب الخير لهم وبغض الشر لهم، ورؤية الفضل من الله عليه في الحالين بالشكر في الإقبال، والابتهال والتضرع في الإدبار.

الضوابط:

أيها المنتسب إلى الطريق، والمتزيِّي بزي أهله: مسافة ما بينك وبين وصولك بمقصودك واتصالك بمحبوبك وفوزك بالفلاح هو مدة عمرك المعدودة لحظاته، المحدودة مسافته، التي لا تزيد ولا تنقص نفسًا ولا أقل ولا أكثر، والعمر قصير، والمطلوب عظيم، والأنفاس معارج، فلو أضعت نفسًا في غير عمارته بما يجعله معراجًا لقربك، وكنزًا محفوظًا لك، وخيرًا مدخرًا لآجلك، أعقبك بعدًا عن الحق، ونقصًا من الأجر، وجهلًا بما لا بد من عمله، ولو أنفقت النفيس في رجوعه لتعمره لاستحال ذلك .

وبديهي أن تلك الأنفاس مرتبة خصوصياتها بعضها على بعض كما يترتب البيت على أسه، فرب ضياع وقت أدى إلى رد أعمال ما بعده من الأوقات، وإن مفاتيح كنوز ما في الأوقات من الأسرار هي القلب والعينان واللسان والشم والذوق واللمس والبطن والفرج، فإذا عطلت تلك المفاتيح بما يشغلها بما جبلت عليه النفس من الحظوظ والأهواء، والطمع والأمل، والغرور وزهرة الدنيا وحب العلو فيها، ونسيان الآخرة، وصرفت تلك المفاتيح في فتح أبواب الشر، بجلب حطام الدنيا والعمل لها، والتجمل للخلق وحب الأثرة، فتح المريد على نفسه أبواب الشر، ووقف عن السير، وبقيت المسافة بينه وبين الوصول كما كانت يوم ولادته، وطويت سجلات عمره مسودة بالمساوئ والغرور، وهو – لجهله – يظن أنه يحسن عملًا؛ حتى يتنزل به داعي الرحيل فيقهر على مفارقة الدنيا آسفًا عليها، حزينًا على ما فارقه، خائفًا مما يلقاه، وليس هذا من أهل طريق أولياء الله.

وولي الله من كان الله تعالى ورسوله J وأحكام الله وأيام الله غاية مقصوده، وقصارى آماله، وتحقق أن نوال ذلك لا يكون إلا بالعلم والعمل، فأقبل بكليته على صرف الأنفاس فيما يقربه إلى الله ويبلغه رضوانه، وينيله الفوز، فيكون قائمًا لله تعالى بما أوجبه، ويكون طالبًا لله في كل أحواله وشئونه من أحوال نفسه وأحوال أهليه وحسن المعاملة. ويكون ذلك كله عبادة لله، يرتقي السالك بها درجات القرب، ويفوز بطهور الحب، ويتجمل بحلل القبول ومعاني الرضوان. ويكون نومه وأكله وشربه وعمله في الدنيا قربات وطاعات مع أنه في عمل نفسه، ولكن تعلق قلبه بربه جعل أنفاسه وحركاته عبادات.

فتنبه أيها المريد السالك، وكن أبخل الناس بنفائس الأنفاس، وأكرم الناس بما عداها في سبيل عمارتها، لتصل إلى ربك بمضي تلك المسافة، فرحًا بلقائه، لا تخاف من عقوبته، ولا تحزن على ما خلفته وراءك، فتكون قد فزت بالنعيم المقيم.

الأصل الأول للوصول إلى الله: صفاء جوهر النفس إخواني – منحكم الله الوصول إلى مقامات القرب – اعلموا أن السلوك في طريق الله تعالى للوصول إلى جنابه العلي متوقف على أصلين عظيمين، أولهما: صفاء النفس، والثاني: استقامة الطريق.

صفاء جوهر النفس:

النفس جوهر الإنسان، فإن اسم الإنسان إنما هو موضوع للنفس والبدن، والبدن هو هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وغيرها، وهي أجسام أرضية مظلمة متغيرة. وأما النفس فإنها جوهرة سماوية روحانية نورانية إذا لم تتراكم عليها الجهالات، ولم تدنسها الأعمال السيئة، ولم تحجبها الأخلاق الفاسدة، ولم تتعوج بالعقائد الباطلة، فإنها تشاهد الأنوار الملكوتية بلطافتها كما تشاهد المحسوسات بحواسها، فإذا كانت النفس جاهلة وتدنست بالأعمال السيئة، وحجبت بالأخلاق الرديئة، أو اعوجت بالعقائد الفاسدة بقيت محجوبة عن إدراك الحقائق الروحانية بعيدة عن الوصول إلى الله تعالى، وتحرم نعيم الآخرة، قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ  يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ (المطففين: 15)، وحجابها جهالتها جوهرها وجهلها بربها وجهلها بمعادها، وتلك الجهالة من سوء أعمالها، وقبح أفعالها، كما قال تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين: 14)، وأما اعوجاجها فهو من أجل عقائدها الفاسدة، وأخلاقها الرديئة، كما قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصف: 5).

إخواني – منحكم الله القرب والحب – إن النفس ما دامت على هذه الصفات لا تبصر ذاتها، ولا تشاهد في حقيقتها المشاهدة القدسية والمعاني العلية، كما قال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (الزخرف: 71)، وقال I: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 17).

إخواني – أشهدكم الله الملكوت، ونعمكم بالنظر إلى وجهه الجميل – اعلموا أن النفوس لا تشتاق إلى الجناب الإلهي ولا ترغب فيما عنده، ولا تطلب القرب من حظائر القدس، ولا تتأله لهذا الجناب العلي إذا لم تشاهد أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت، فتبقى كأنها عمياء كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)، وبعماها تحرص على الدنيا وتتمنى الخلود فيها، وترضى بها وتأنس، ولا تميل إلى الآخرة كما قال الله تعالى: ﴿ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ (يونس: 7)، وقال تعالى: ﴿ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ (الممتحنة: 13)، ومالت عن الموعظة، وتكبرت على العارفين بالله كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ﴾ (الصافات: 13)، فيدوم عماها وطغيانها إلى الممات ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ (لقمان: 7).

تعريف النفس:

وقف العقل الكامل عن إدراك حقيقة النفس، ورسمها بحد؛ لأنها من أمر ربنا سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85)، ولا يزال الإنسان من لدن نشأته الأولى والنفس محل بحثه ونظره، حتى أن أكثر الحكماء المتقدمين والحكماء المسلمين، رأوا أنها ليست بجسم ولا بعرض؛ لأنهم أثبتوا وجودها لما لها من الأفعال الخاصة بها، والأحوال القاصرة عليها، التي تغاير بالمرة أعمال الأجسام، وخواص الأعراض، وتضاد أيضًا أجزاء الأجسام وخواصها؛ حتى لا تشاركه في حال من الأحوال، وتباين الأعراض وتضادها كلها غاية المباينة، من حيث أن الأجسام أجسام، والأعراض أعراض؛ لأنه ثبت أن النفس لا تتحيز ولا تتغير، وتدرك جميع الأشياء بالسوية بدون أن يلحقها فتور ولا ملل ولا كلال.

وشرح ذلك أن أي جسم من الأجسام له صورة فإنه لا يمكن أن يقبل صورة أخرى من نوع صورته الأولى، إلا بعد أن يفارق صورته الأولى مفارقة حقيقية، فإنه لو فرضنا أن جسمًا ما على شكل مربع أو مثلث، وأردنا أن نجعله مستطيلًا أو أسطوانيًّا، فلا يمكننا ذلك إلا بعد مفارقته شكله الأول، وكذلك إذا نقش في جسم ما صورة من الصور، فلا يمكن أن ننقش فيه صورة أخرى، إلا بعد مفارقة الأولى، حتى لو بقي فيه بعض الصورة الأولى لما قبل الصورة الثانية على التمام، بل تختلط به الصورتان، والمُثل بيِّنة.

والحال أننا نجد أنفسنا نقبل صور الأشياء كلها على تباينها وكثرة أنواعها من المحسوسات والمعقولات بغير نقص ولا تفاوت، ولا مفارقة للأولى، ولا تعاقب ولا زوال رسم، بل تبقى الصورة الأولى تامة، وتقبل الرسم الثاني، ثم لا تزال تقبل الصور المختلفة، صورة بعد صورة دائمًا أبدًا، بدون أن تضعف، أو تفتر في وقت من الأوقات عن قبول ما يرد عليها، ويتجدد لها من الصور، بل تزداد بالصورة الأولى قوة على ما يرد عليها من الصورة الأخرى، وهذه خاصة من خواصها تباين بها الأجسام، ولهذه الخاصة يزداد الإنسان فهمًا كلما ارتاض، وتكمل بالعلوم والآداب.

ينتج من هذه المقدمات أن النفس ليس جسمًا، وتقرر أنها ليست عرضًا؛ لأن العرض لا يحمل عرضًا، ولأن العرض في نفسه محمول أبدًا موجود في غيره، لا قوام له بذاته، وجوهر النفس قابل أبدًا حامل ما هو أتم وأكمل من حمل الأجسام للأعراض.

لهذا يظهر أن النفس ليست جسمًا ولا جزءًا من جسم، ولا عرضًا، هذا والطول والعرض والعمق من المعاني التي صار الجسم بها جسمًا، تحصل في قوة النفس الوهمية من غير أن تصير به طويلة عريضة عميقة وتزداد فيها تلك المعاني أبدًا بلا نهاية، فلا تغيرها عن حقيقتها ولا تتغير إذا تصورت كيفيات الجسم من الألوان والطعوم والروائح، ولا يمنع بعضها قبول بعض من أضدادها كما يمنع في الجسم، وكذلك حالها في المعقولات، فإنها تقوى بقبول بعض المعقولات على قبول غيرها أبدًا بلا نهاية، وتلك الخواص في غاية البعد عن الأجسام، والجسم لا يعرف العلوم إلا من الحواس، فيشتاق إليها بالملامسة كالشهوات البدنية ومحبة الانتقام، فإن الجسم يشتاق إلى تلك الأشياء، ويزداد بها قوة ويستفيد منها كمالًا، ويفرح بها لأنها تتمم وجوده وتمده.

وأما النفس فإنها كلما تباعدت عن الشهوات البدنية وخلت بذاتها، ازدادت قوة وكمالًا، وتجملت بالعلوم الحقة، والآراء الصحيحة، بذلك يثبت أن طباعها وجوهرها تباين طباع الجسم والبدن، وأنها أكرم جوهر، هذا مع شوقها إلى معرفة حقائق الأمور الكونية، ولهفها لفهم المعاني الإلهية وإيثارها لها، ولا يمنع من ذلك أنها أخذت كثيرًا من مبادئ العلوم عن الحواس؛ لأن لها من نفسها علومًا أخرى، وأفعالًا لا تأخذها عن الحواس أبدًا، وذلك ثابت بديهي خصوصًا في علوم النظر، وما تكاشف به من أسرار الملكوت والفقه في دين الله تعالى، وهي التي تحكم على الحس بالصدق أو الكذب فكثيرًا ما يشهد الحس الأمور على غير حقيقتها وهي ترده إلى الحق، كما ترى العين الشمس صغيرة، ويرى العامود الموضوع في الماء معوجًا، ويرى الراكب في السفينة أنه ساكن، ويرى الأشجار حوله تمشي، كل تلك العلوم من نفسها. وقد يخطئ فيما يراه من بعد أو قرب، وكل الحواس تخطئ وتردها النفس، فقد تذوق حاسة الذوق الحلو مُرًّا عند انحراف المزاج، وكل تلك المعلومات ليست من الحس، بل هي من ذات النفس.

من هذا حكموا أن النفس ليست جسمًا، ولا جزءًا منه، ولا عرضًا، والمراد بالنفس إذا أطلقت النفس الملكية التي تسمى بالناطقة، وإذا أردت أن أعرِّفها فإنما تعرف بما يقرب حقيقتها لا حقيقتها، فأقول: هي جوهرة سماوية روحانية نورانية من أمر ربنا I، ومما قلته فيها:

نَفْسِي هِيَ الْكَنْزُ فِيهَا سِــــــــــــــرُّ مَعْنَاهُ

بِغَيْرِ كَيْفٍ وَفِيهَا نُورُ مَجْـــــــــــــــــــلَاهُ

جَهْلِي بِهَا الْحَجْبُ عَنْ عِلْمِي بِمُبْدِعِــــهَا

وَعِلْمُهَا كَشْفُ حَجْبِي فَهْمُ مَعْنَــــــــــــــاهُ

نَفْسِي مِثَالٌ تَرَاءَىٰ لِي بِـــــــــهِ وَضُحَتْ

آيَاتُهُ وَبِهِ أُعْطِيــــــــــــــــــــــــتُ جَدْوَاهُ

نَفْسِي لَهُ صُورَةٌ تُنْبِي مُشَاهِــــــــــــــدَهَا

إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْمُبْــــــــــــــــــــــــــدِعَ اللَّهُ

جَهْلِي بِهَا اللَّبْسُ وَالتَّشْكِيكُ أَجَمَعُـــــــــهُ

وَعِلْمُهَا الْكَشْفُ عَنْ غَيْــــــــــبٍ وَأَخْفَاهُ

جَهْلِي بِهَا التِّيهُ بَلْ وَالْبُعْـــــــدُ عَنْ نِسَبٍ

بِهَا يَلُوحُ جَمَالُ الْــــــــــــــــــوَجْهِ أَجْلَاهُ

لَوْ أَنَّهَا أَشْــــــــــــــــــرَقَتْ نَفَسًا لِعَالَمِهَا

فُكَّتْ طَلَاسِمُهُ وَرَقَـــــــــــــــــــــىٰ لِعَلْيَاهُ

يَا نَفْسُ، مَا أَنْتِ؟! نُورٌ أَنْتِ أَمْ عَرَضٌ؟!

أَمْ كَوْكَبٌ مُشْـــــــــــرِقٌ بِضِيَاءِ مَبْنَاهُ ؟!

وَهَلْ بِكِ الْجِسْمُ قَــــــــــــدْ قَامَتْ مَعَالِمُهُ

أَوْ قُمْتِ فِيهِ فَهَٰذَا السِّــــــــــــــرُّ أَهْوَاهُ؟!

حَيَّرْتِ أَفْكَارَ أَهْلِ الْعَقْلِ لَـــــــــمْ يَصِلُوا

إِلَىٰ يَقِينٍ وَفِيكِ ضَــــــــــــــــــــلَّ أَهْدَاهُ

الْعَقْلُ: يَعْقِلُ مَحْسُــــــــــــــوسًا وَنِسْبَتَهُ

لَا يُدْرِكَنْ رُتْبَتِى وَالْمُنْعِـــــــــــــــــمُ اللَّهُ

سِرِّي خَفِيٌّ عَــــــــــنِ الأَلْبَابِ يَحْجُبُهَا

عَنْهُ نَظَائِرُهُ فِيــــــــــــــــــــــهِ وَأَشْبَاهُ

مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَنْ يَطْلُبْهُ يَعْـــــــرِفُنِي

فَيَعْرِفُ اللَّهَ رَبَّ الْعَرْشِ مَـــــــــــوْلَاهُ

وَنَفْخَةٌ مِنْهُ تُجْلَىٰ لِلْمُرَادِ لَـــــــــــــــهُ

فَتَشْهَدُ الْوَجْهَ بِالتَّنْزِيــــــــــــــهِ عَيْنَاهُ

مَنْ كَانَ يَعْرِفُنِي بِالْفَضْلِ يَعْــــــــرِفُهُ

أَنَا الْمِثَالُ لَهُ أُفْـــــــــــــــــــــقٌ لِمَرْآهُ

تَجَلَّ لِي بِجَمَالٍ مِنْكَ يَشْمَلُنِــــــــــــي

بِهِ أَنَالُ مِنَ الإِقْبَالِ أَهْنَـــــــــــــــــاهُ

وَنَوِّرِ الْقَلْبَ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ وَكُــــــــنْ

مُنَاوِلِي مِنْ طَهُورِ الْــــــــــوُدِّ أَصْفَاهُ

مَعِي بِلُطْفِكَ وَالإِحْسَانِ أَجْمَعِــــــــــهِ

يَامَنْ يُجِيبُ دُعَا الدَّاعِي وَنَجْــــــــوَاهُ

أَنْعِمْ عَلَيَّ بِفَضْلٍ مِنْكَ تُسْعِدُنِـــــــــــي

بِهِ وَتَرْفَعُنِي بِعَمِيـــــــــــــــــــمِ نُعْمَاهُ

 نَعِّمْ فُؤَادِي بِنُورِ الْحُبِّ رَبِّ عَسَــىٰ

أَفُوزُ فَضْلًا بِمَا أَبْغِي وَأَرْضَــــــــاهُ

وَجَّهْتُ وَجْهِي وَقَلْبِي مُخْلِصًا أَمَــلًا

فِي الْفَضْلِ مِنْ وَاهِبِ الإِمْدَادِ مَوْلَاهُ

نَادَيْتُهُ وَاثِقًا بِالْعَوْنِ مِنْهُ وَلِــــــــــي

يَقِينُ حَقٍّ بِنَيْلِي فَيْضَ نُعْمَــــــــــــاهُ

وَسِيلَتِي الْمُصْطَفَىٰ طَٰهَٰ وَعِتْرَتُــــــهُ

وَالأَنْبِيَاءُ وَمَنْ مَــــــــــــوْلَاهُ صَافَاهُ

وَصَلِّ رَبِّي عَلَىٰ غَوْثِ الْوُجُودِ وَمَنْ

بِنُورِهِ وَهُــــــــــــــــــــدَاهُ خَصَّنَا اللَّهُ

 

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

عودة الإخوان.. احذروا خدعة الماكرين في ثياب التائبين (4)

كان النظام الإخواني طوال فترة حكمه فى غيبوبة، لا يسمع صوت شعبه إلا من خلال …