أخبار عاجلة

معارج المقربين (10)

اعلموا أيها الإخوان – أيدكم الله تعالى بروح من عنده – أنه لا ينبغي أن يتكلم أحد في ذات الباري تعالى، ولا في صفاته بالحدس والتخمين، بل ينبغي له أن لا يجادل فيه إلا بعد تصفية النفس، فإن ذلك يؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلال؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ (الحج: 8)..

الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم

الأصل الثاني للوصول إلى الله

استقامة الطريق:

إخواني – ودَّني الله وإياكم بالصفا القدسي – اعلموا أن كل قاصد نحو مطلوب من أمور الدنيا، فإنه يتحرى في مقصده نحو مطلوبه أقرب الطرقات وأسهلها مسلكًا؛ لأنه قد علم أنه إن لم يكن له طريق قريب فإنه يبطئ في وصوله إلى مطلوبه، وأيضًا فإنه إن لم يكن الطريق سهل المسلك، فربما يعوق من البلوغ إليه، أو يتعب في سلوكه. وإن أقرب الطرقات ما كان على خط مستقيم، وأسهلها مسلكًا هو الذي لا عوائق فيه، فهكذا ينبغي أيضًا للقاصدين إلى الله تعالى بعد تصفية نفوسهم، والراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام، والذين يريدون الصعود إلى ملكوت السماء والدخول في جملة الملائكة، بأن يتحروا في مقصدهم أقرب الطرقات إليه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴾ (الجن: 14) وقال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ (الأنعام: 153). وقال تعالى: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ﴾ (الزخرف: 24).

ونحن نريد أن نبين ما الطريق المستقيم الذي وصانا به، وأمرنا باتباعه على ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، وننص أيضًا كيف ينبغي أن نسلكه؛ حتى نصل إلى ما وعدنا ربنا، كما قال الله تعالى: ﴿ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ﴾ (الأعراف: 44) ولكن لا يمكننا بيان ذلك بالحقيقة إلا بكلام موزون، وقياس صحيح، ودلائل واضحة من بيان الله تعالى، وسنة أنبيائه صلوات الله عليهم، بالوصف البليغ لسائر آيات الله تعالى في الآفاق ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ (الذاريات: 21) وإذا فصلنا ذلك فتحت أبواب العلوم المخزونة والأسرار المكنونة، التي لا يمسها إلا المطهرون.

واعلموا أيها الإخوان – أيدكم الله تعالى بروح من عنده – أنه لا ينبغي أن يتكلم أحد في ذات الباري تعالى، ولا في صفاته بالحدس والتخمين، بل ينبغي له أن لا يجادل فيه إلا بعد تصفية النفس، فإن ذلك يؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلال؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ (الحج: 8).

وقد بدأنا أولًا قبل كل شيء، فبينا كيف ينبغي أن نصفي النفس من الأخلاق الرديئة، التي اعتدنا عليها من الصبا، وجعلت لذلك في هذا الكتاب أبوابًا شتى، وأريد بتوفيق الله وحسن معونته أن أضع أبوابًا أخرى أبين فيها ما الطريق المستقيم إلى الله U بدلائل واضحة، ليكون منهاجًا للقاصدين وإرشادًا للمريدين.

ثم ابتدئ بعد هاتين الجهتين بالكشف عن الأمور الإلهية الخفية والأسرار المخزونة، مما عرفناه بإلهام الله تعالى، أو مما قد استنبطناه عن تفاسير أوليائه لكتابه العزيز، ومما قد جرى على ألسنة العارفين وإرشاداتهم ورموزهم من بدء كون العالم بعد أن لم يكن، ووقوع النفس وغرورها، وخلق آدم وعصيانه، وحديث الملائكة وسجودهم لآدم، وقصة إبليس والجان واستكباره عن السجود، وشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، وأخذ الميثاق إلى ذرية آدم، وأخبار القيامة والنفخ في الصور والبعث والنشور والحساب وفصل القضاء، والجواز على الصراط، والنجاة من النار، والدخول إلى الجنة، وزيارة الرب تبارك وتعالى، وما شاكل هذه من الأخبار المذكورة في الكتاب العزيز، وما حقائق معانيها.

لأن في الناس أقوامًا عقلاء مميزين، إذا فكروا في هذه الأشياء وقاسوها بعقولهم، لا تتصور لهم معانيها الحقيقية، وإذا حملوها على ما يدل عليه ظاهر ألفاظ التنزيل لا تقبله عقولهم، فيقعون عند ذلك في الشكوك والحيرة، وإذا طالت تلك الحيرة بهم أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك باللسان مخافة السيف، وفي الناس أقوام دونهم في العلم والتمييز، يؤمنون ويعلمون أنها الحق، وأقوام آخرون يأخذونها تقليدًا، ولا يتفكرون فيها.

وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل نفرت نفوسهم منها واشمأزوا من ذكرها، وينسبون المتكلم أو السائل عنها إلى الكفر والزندقة والتكلف لما لا ينبغي.

فأولئك أقوام قد استغرقت نفوسهم في نوم الجهالة، فينبغي للمذكِّر لهم أن يكون طبيبًا رفيقًا، يحسن أن يداويهم بأرفق ما يقدر عليه من التذكار لهم بآيات الكتب الإلهية، وما في أيديهم من أخبار أنبيائهم، وما في أحكام شرائعهم من الحدود والرسوم والأمثلة، فإن ذلك كله إشارات للنفس بالتذكار لها فيما قد غفلت عنه من أمر معادها ومبدئها، مثل مقادير الفروض التي فرضها الله تعالى، وما بينه النبي o من تعيين أوقاتها، وبيان شروطها وكيفيتها، وتعيين الجهة التي يوجه إليها.

واجبات المرشد:

ولما كان المرشد يلزمه أن يذكِّر كل عباد الله من بني آدم ليجمع الخلق على الحق؛ لأن المرشد الكامل وارث رسول الله J، فعليه أن يجعل قسطًا لتذكير النصراني واليهودي والصنمي، بشرط أن يكون كما قال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (النحل: 125) فيتحبب إليهم بأن يبين لهم معاني الإنجيل إن كانوا نصارى، معظمًا له خشية تنفيرهم، والتوراة إن كانوا يهودًا كذلك، وينص في بيانه على الإشارات والعبارات الدالة على التوحيد، مع اللطف والحرص على إقبالهم ونجاتهم من هاوية البعد، فإن تعلقهم بظاهر أحكام شرائعهم، وحرصهم وعنايتهم بقراءة كتب أنبيائهم، واعتقادهم صواب ما فيها من أحكام الدين والدنيا، حجة عليهم، وحجة لمن يفهم منهم على قسسهم وأحبارهم الجهلاء.

ويجب على المرشد أن يجعل لعباد الأصنام والشمس والقمر حظًّا من دعوته، بشرط أن يحتاط من تنفيرهم وذم معبوداتهم وعقائدهم، بل يجب عليه أن يبين لهم أسرار وضع الصور والتماثيل والهياكل والطلسمات، ويبين لهم سر وضعها ومبدئها، والإشارة إلى ذلك بشرط أن يكون محصلًا لتلك الأسرار؛ حتى يميلوا إليه ويألفوه، ويقودهم إلى التوحيد بالرحمة والعاطفة؛ لأنهم من بني الإنسان، وأن تلك المسائل التي يقوم بها المرشد، سالكًا بها سبيل السنة في دعوة الخلق إلى الله تعالى، تشتاق إلى بيانها النفوس، وتألفها الأسماع.

ولكن الناس فيها طوائف، طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل تطلعت همم نفوسهم إلى أجوبتها، ورغبت في معرفة معانيها، فإذا سمعوا الجواب عنها، قبلتها بلا حجة ولا برهان، ولكن على التقليد، أولئك قوم نفوسهم سليمة لم تتعوج بالآراء الفاسدة، ولم تستغرق في نوم الجهالة، فيحتاج المذكر أن يسلك بهم طريق التعليم التدريجي، كما سبق لنا بيانه بالعبارة والكتابة والعمل. فإذا تهذبت نفوسهم، وصفت أذهانهم، وقويت أفكارهم، بينت لهم بأجوبة من هذه المسائل براهينها، كما بينا فيما كتبناه تحت عنوان الإنسان، وفي مواضع كثيرة نظمية ونثرية، مبينة لحقيقة الإنسان وصورته، وما بينا من الدلائل والبراهين الموجودة في صورة الإنسان مما يسلمه كل عاقل.

وفي الناس طائفة من أهل العلم قد نظروا في بعض العلوم، أو قرأوا بعض كتب الحكماء، أو سمعوا من المتكلمين في مناظراتهم، ومن المتفلسفين والشرعيين جميعًا قد تكلموا في مثل هذه المسائل، وأجابوا عنها بجوابات مختلفة، ولم يتفقوا على شيء واحد، ولا صح لهم فيها رأي واحد، بل وقعت بهم في ذلك منازعات ومناقضات، كل ذلك لأنهم لم يكن لهم أصل واحد صحيح، ولا قياس واحد مستو، يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل كلها من ذلك أو على ذلك القياس، ولكن كانت أصولهم مختلفة، وقياساتهم متفاوتة غير مبينة.

واعلموا أيها الإخوان – أيدكم الله بروح من عنده – أن الجواب على أصول مختلفة، والحكم بقياسات متفاوتة، تكون متناقضة غير صحيحة.

ونحن قد أجبنا عن هذه المسائل كلها، وأكثر منها – مما يشاكلها من المسائل – على أصل واحد وقياس واحد وهو صورة الإنسان؛ لأن صورة الإنسان أكبر حجة لله على خلقه؛ لأنها أقربها إليهم، ودلائلها أوضح، وبراهينها أصح، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي الميزان الذي وضعه بين خلقه، وهي المكيال الذي يكيل لهم به يوم القيامة، وما يستحقونه من الثواب والجزاء، وهي المجموع فيها صور العالم جميعًا، وهي المختصر من العلوم التي في اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كل جاحد، وهي الطريق إلى كل خير، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار.

وينبغي لمن يدعي الرياسة في العلوم الحقيقية ويقول: إنه يحسن أن يجيب عن هذه المسائل التي تقدم ذكرها، أن يطلب منه الجواب على أصل واحد وقياس واحد، فإنه لا يمكنه ذلك إلا أن يجعل أصله صورة الإنسان من بين صور جميع الموجودات من الأفلاك والكواكب والأركان والحيوان والنبات وغير ذلك.

وإن جعل أصله أشياء غير صورة الإنسان فلا يمكنه أن يقيس بها سائر الموجودات، ولا يجيب عن هذه المسائل إلا بمثل ما قسنا عليه نحن وأجبنا عنه، إذا فعل ذلك اتفق الجميع على رأي واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، وارتفع الخلاف واتضح الحق للجميع، ويكون ذلك سببًا لنجاة الكل، ونحن لا نرخص لأحد النظر في مثل هذه الأشياء، ولا السؤال عنها؛ إلا بعد تهذيب النفس بمثل ما قلناه ووصفناه في مباحثنا المتضمنة، هذا اقتداء بسنة الله تبارك وتعالى كما أخبر وقال: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ (الأعراف: 142) وذلك أن موسى u قام لياليها وصام نهارها؛ حتى صفت نفسه لمناجاة الله تعالى؛ عند ذلك كلمه.

ويروي عن النبي J أنه قال: » من أخلص العبادة لله أربعين يومًا فتح الله قلبه وشرح صدره وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجميًّا غلفًا « .

فمن أجل هذا أوجب على الحكماء إذا أرادوا فتح باب الحكمة للمتعلمين وكشف الأسرار للمريدين، أن يروضوهم أولًا ويهذبوا نفوسهم بالتأديب كيما تصفو نفوسهم، وتطهر أخلاقهم؛ لأن الحكمة كالعروس، تريد لها مجلسًا خاليًا، فإنها من كنوز الآخرة، وإن الحكيم إذا لم يفعل ما هو واجب في الحكمة – من رياضة المتعلمين قبل أن يكشف لهم أسرار الحكمة – فيكون مثله في ذلك كمثل خادم ملك أذن لقوم بُله بالدخول على الملك من غير تأديب ولا ترتيب، فإنه يستحق العقوبة عليه إن فعل ذلك، فإذا هو فعل ما قد يجب من تأديبهم، ثم لم يفعلوا ولا قبلوا منه، فقد برئ الحكيم من اللوم، ولزمهم الذنب؛ لأنك إذا قدمت الطعام والشراب لجائع فقد أشبعته، فإذا هو لم يأكل حتى مات جوعًا فهو المأخوذ بدمه ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ (النساء: 93) وفقك الله أيها البار الرحيم وإيانا للرشاد، وسدد لك وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف رحيم.

خصال الطريقة المستقيمة:

الطريقة المستقيمة تشتمل على اثنتي عشرة خصلة، هي جامعة لأوصاف الإيمان:

1- أول ذلك الشهادتان وهي الفطرة.

2- والصلوات الخمس وهي الملة.

3- والزكاة وهي الطهارة.

4- والصيام وهو الجُنَّة.

5- والحج وهو الكمال.

6- والجهاد وهو النصر.

7- والأمر بالمعروف وهو الحجة.

8- والنهي عن المنكر وهو الوقاية.

9- والجماعة وهي الألفة.

10- والاستقامة وهي العصمة.

11- وأكل الحلال وهو الورع.

12- والحب والبغض في الله وهو الوثيقة.

وقد روينا بعض هذه الخصال عن رسول الله J، وقد جاء نحوه عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما.

متى يـكـون الـمـريـد على الطريقة المستقيمة؟:

يكون على الطريقة المستقيمة، ويحصل له المزيد من مشاهد التوحيد، وتجدد الأحوال الروحانية، وتوالي الواردات الربانية، ويكون ممن لهم الأمن وهم مهتدون، إذا أعانه الله تعالى على تزكية نفسه، وعلى التمسك بسنة رسول الله J والعض عليها بالنواجذ، عملًا بما أمر J، وتباعدًا عما نهى عنه J، والتجمل بفضائل أهل العلم والمعرفة من السلف الصالح، ولزوم مجالس العارفين، وسماع إشاراتهم، وتلقي أسرارهم، وكل ذلك لا يتحصل عليه المريد؛ إلا إذا ابتدأ بالبحث عن عالم عامل عارف متمكن، منحه الله الفقه في قلبه، وجمل ظاهره بجمال حلل السنة، حتى إذا وجده سعى إليه حيث كان وصحبه، مسلِّمًا له نفسه، ملاحظًا لأعماله وأقواله وأحواله؛ حتى يتلقى عنه السنة المحمدية عملًا وحالًا وتعليمًا، فإذا ظفر بالرجل، واقتدى بهديه، ورأى من نفسه الانقياد له، صحت بدايته وحسنت نهايته، وظفر بالطريق المستقيم القريب الذي يوصله إلى الحق سبحانه، وإن لم يظفر بالرجل، فعليه أن يبحث عن الآثار وأعمال السلف وهديهم من العلماء وفي الكتب، ويعمل بها ويترك أعمال علماء الدنيا، ويدوم بحثه عن الرجل المرشد الحقيقي ليكون له ثواب السعي في طلب الله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف: 90).

ولا يخلو زمان من الأزمنة من عارف بالله إما ظاهرًا مشهورًا أو باطنًا مغمورًا، يعرفه من اختارهم الله واجتباهم؛ لأن علوم القلوب وأسرار الغيوب لا ترسم في كتاب، ولكنها تلقي من فم العارف الحي للراغب المسلم، وبهذا يكون المريد ناهجًا على الصراط المستقيم، سالكًا مسالك الأبرار، مؤهلًا لمشاهد المقربين الأخيار، ومن أراد المزيد في هذا الموضوع، فليراجع علوم اليقين في (أصول الوصول).

ولما كان لا بد في الطريق إلى الله تعالى من المرشد، وقد سبق لنا شرح أوصاف المرشد بالتفصيل في كتاب: (شراب الأرواح) وكتاب: (أصول الوصول) فأحب أن أبين أوصاف نواب المرشد، ثم كيفية صحبة المرشد، ثم معاملة المرشد للمسترشد، ثم أشرح حقيقة الأخوة والإخوان.

نواب المرشد:

الدعوة إلى الله تعالى يلزم أن يقوم بها جماعة من أهل الفضل والعقل والعرفان، الذين صحبوا المرشد صحبة حقيقية بصحة بداية وحسن نية وجمال مقصد، وتلقوا عنه أسرار عقيدته، وفهموا أنوار حاله، وذاقوا حلاوة فهم علومه ومعاملاته القلبية والبدنية، وعباراته وأخلاقه، حتى ظهرت لهم الدنيا منكشفة عن حقيقة زوالها وبقاء تبعاتها من الأعمال السيئة، أو نوال السعادة في الدار الآخرة، بما منَّ الله به عليه من حسن العقيدة، وحسن العمل والخلق؛ حتى زهدوا فيما فيها، وأنكروا ما فيها مما هو فانٍ، إنكارًا حقيقيًّا، ومالوا إلى الحق بكليتهم، وتحققوا الخير ورأوه بعين اليقين، ورأوا ما عليه الناس فأشفقوا عليهم، فبذلوا وسعهم في إنقاذهم من الهاوية والغضب الإلهي برأفة وشفقة وحكمة، وبيان لآيات الله سبحانه وتعالى ونعمه على العباد، وذكرى لمننه عليهم، ليحنوا إلى الله سبحانه، وينهجوا على نهج رسول الله J.

فإذا منح الله تعالى مريدًا تلك المنن، فهو القائم مقام المرشد في غيبته؛ لأن الدعوة إلى الله سبحانه يلزم أن تكون عامة بين الناس للنفع العام.

فالمريد الذي أنس من نفسه بتلك الصفات، وتحقق من نفسه أنها راغبة حقيقة في نجاة الإخوان من هاوية العذاب، وبعد المقت، وأنس من نفسه أنها تعينه على عظيم شدائد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من الصبر على الفقراء والجزع وأذية الخلق وإنكارهم، والرضا بالقليل من الدنيا، وبذل الكثير منها لجمع القلوب على الله تعالى، وعلم حفظ نفسه من الغرور بإقبال الناس، وحسن ذكره بينهم، وكثرة أتباعه، وتحقق صدقه في حب الخير العام للمسلمين، فعليه أن يقوم متجملًا بحلل التواضع والانكسار والمسكنة والذل والخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى، متباعدًا عن الجدل، وفتح أبوابه بالوقوع فيما يخالف السنة المجمع عليها، أو بعمل تعود العامة على غيره، جهلًا منهم بالسنة إلا بعد البيان، وكشف حقيقة السنة بالمعروف واللطف، ويتباعد عن فتح باب الجدل، بكشف سر من أسرار الحقائق أمام من لم يسلِّم ويؤمن حقيقة، فإن ذلك موجب لضياع السنة، بل وربما أوقع الجدل في سخط الله ومقته.

وعليه أن يتباعد عن الوقوع في الفتنة والفتن العامة، كجلوسه في خلوة مع النساء أو الصبيان، أو دعوى أنه شريف مكي أو مدني أو مادح، أو يلبس ملابس الرياء كالمرقعات تكلفًا، أو العكوف في الخلوات ترغيبًا للخلق، وذم أهل الطريق والمعتقدين عند العامة، ويتباعد عن الطمع فيما في أيدي الناس، خصوصًا ما يحبونه من ملبس وسلاح ودواب وكراسي وزينة، إلا إذا قربوه برغبة، مع إظهار عدم الرغبة فيه.

ولما كان النائب عن المرشد صورة له ممثلة له فعليه أن يحافظ على الأكمل من العمل والخُلق وحسن الهدى – ولو تكلفًا – رغبة في ميل القلوب إلى المرشد لينالوا السعادة، فإن فضله وكماله يجعل القلوب تألف المرشد، وإذا خالف ذلك كان قاطعًا من قطاع الطريق وإن كان محفوظًا، إلا إذا أحب ميل القلوب إليه وستر فضائل المرشد، فإن ذلك يكون قطيعة له وإن لم يضر غيره، وعلى العموم فالمريد الأولى له أن يلازم على تطهير نفسه وتزكيتها، ويشتغل بالإقبال على الله تعالى، ويجعل الدعوة إلى الله من أكمل أعماله وأجملها ليتقرب بها إلى رسول الله J.

 

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

حملة إخراس الألسن.. لماذا يستهدف الخوارج الدكتور علي جمعة؟

هجوم تيارات الإسلام السياسي، يأتي في إطار سياسة (خرس الألسنة)، وهي السياسة التي تلجأ إليها …