لما كثر عدد المسلمين واشتدت حميتهم الدينية زالت العلوم وظهر الهول الديني والنفاق ظهورًا تامًّا، فكان دين الإسلام ذا حرية وعدل لما كان ضعيفًا، وذا قساوة لما كان قويًّا، فلا فضل إذًا فيما أجازه لعدم استطاعته منعه، ففضله في ذلك كفضل علماء ديننا في علوم عصرنا التي استكشفت رغمًا عنهم، إذ عقائد الدين النصراني كان أشد منعًا للعلوم من دين الإسلام؛ إلا أنها ما نجحت في قتل العلم كما نجح دين الإسلام في بلاده…
الأستاذ محمد إسحاق عبد الرسول
بقية: الرد على ما جاء في المحاضرة
تاسعًا: إن رينان وإنْ كان على علم ودراسةٍ بالفلسفة وكَتَب فيها مؤلفات عدّة إلا أننا نعتقد أنه لم يكن على شيء ذي بال من العلم. ولو كان رينان على شيء ملموس من العِلْم لعرف قيمة علوم العرب في مخطوطات التراث العلمي العربي التي تعج بها مكتبات فرنسا. ولكن الرجل لم يكن يَعْنيه شيء من علوم المسلمين ولم يكلف نفسه أَدنى جهدٍ في التعرف على إسهام المسلمين في هذا المجال حتى يكون على بَيّنةٍ ممّا يقول؛ لأنه كان مَعْنيّاً بأمْرٍ آخر لا يتعداه، وهو الطعْن على العرب وعلى المسلمين سواء في لغتهم أو دينهم أو حتى علومهم. ويخيّل إلينا أن رينان كان واحدًا من هؤلاء المستشرقين الذين لم يجهدوا أنفسهم في التعرف على المصادر الأصلية لتراث العرب في لغتها الأصلية، وأغلب الظن أن ذلك يرجع إلى ضعف مستواه في اللغة العربية باعترافه نفسه بأنه “مستعرب ضعيف المستوى في العربية”([i]). وأغلب الظن أيضًا أن كل محصوله من دراسة العلوم عند المسلمين كان من قراءته لمستشرقين سابقين له. فقد لوحظ ” أن علماء الاستشراق الكبار يعتمدون في دراستهم للإسلام على مؤلفات أوروبية في أغلب الأحيان فمثلًا أ. جيب A. Gibb عندما يستعرض تاريخ الإسلام يرتكز إلى تسعة عشر مؤلفًا أوروبيًّا ويَفْعل الشيء نفسه فننسان مُشيل V.Mosheel عندما وضَع رسالته الحديثة عن العربي الحديث، مما يدل على الرغبة في وضع النظريات من دون التعرف على باطن الأرض المدروسة. فهل يمكن أن تكون تلك النظرية علمية وسليمة؟ طبعًا، لا ….. الخ”([ii]).
عاشرًا: لو كان رينان قد أجْهَد نفسه قليلًا في التعَرف على مآثر العرب العلمية لكان له رَأْي آخر، ولكنه لم يَفعل لسبب بسيط للغاية هْو أنه قد خشي أَنْ يهدم فكرته التي كرس لها حياته وهي الكيْد للعرب والطعن في الإسلام بوصفه عقيدة وإنه دين يناقض العلم. ولقد تبين لنا من تلك المحاضرة ومن سائر كتبه أنه يحتقر العلم العربي، حيث يقول: ” فهذا العلم العربي وهذه الفلسفة العربية، لم يكونا إلا نقلًا حقيرًا للعلم والفلسفة اليونانية. وإذا تمعّنا في كل هذه الآثار نجد أن العلم العربي، لا شيء عربيًّا فيه، وأن صفحة من روجر بيكون لتحوي من التفكير العلمي الحق أضعاف هذا العلم غير الأصيل بالمرة”([iii]). تلك أحكام جائرة بكل المقاييس، لا تليق بمؤرخ يفترض فيه الموضوعية والتجرد من الهوى والعصبية وإذا في قوله هذا أكثر من سقطة يمكن مراجعته فيها ورده إلى الصواب فإن سقطته الكبيرة هو استشهاده بروجر بيكونR. Bacon لأن بيكون (1210 – 1290م) كما يقول فؤاد سيزكين: “قد اقتبس جميع ما نسب إليه من نتائج علمية من الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية”([iv]). كما أن روجر بيكون الذي جعل رينان صفحة واحدة منه تحوي من التفكير العلمي أضعاف العلم العربي، قد آمن بفكرة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة كالذهب، وهي الفكرة التي رفضها الغالبية العظمى من العلماء العرب، والتي نادوا جميعًا باستحالة هذا التحويل والتي سبق ذكرها رغم مرور قرون عدة من رفض العلماء العرب لها تطور فيها العلم في مجالات شتى، أي: إن بيكون لم يستفد من العقلية العلمية والنهج العملي لهؤلاء العلماء على الرغم من أنه في كثير من أعماله كان مستمدًّا من العلم العربي. ليس هذا فحسب بل يبدو أن علم بيكون هذا الذي أقر رينان أن صفحة واحدة منه تحوي من التفكير العلمي أضعاف علم العرب، كان عالة على العلم العربي بدليل اعتراف رينان نفسه – وهذا من العجيب – في قوله عندما سُئل بيكون عن مسألة فلسفية: ” إنه انتحل – يقصد بيكون – رأي الأساتذة العرب جهرًا”([v]). وقال روجر بيكون في موضع آخر: ” وظهر ابن رشد بعد ابن سينا، ظهر هذا الرجل ذو المذهب المتين الذي أصلح به أقوال أسلافه، وأضاف إليها كثيرًا. وقد استشهد بيكون استشهادًا صريحًا بشروح الطبيعيات وكتاب النفس وكتاب السماء والعالم”([vi])، وجميعها من مؤلفات ابن رشد.
خاتمة
على الرغم من أن رينان كان ذا شهرة غالبة، إلا أن بعضًا من مؤرخي الفلسفة قد نقدوا آراءه بل وذهبوا مذهبًا يخالف ما ذهب إليه. يقول مصطفى عبد الرازق في كتابه “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”: “على أنا نجد من معاصري رينان الفرنسيين من يرميه بالحيف في حكمه على الفلسفة عند العرب. ففي كتاب دوجا Dugat ” تاريخ الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين ” المطبوع بباريس سنة 1889م نجده يقول: “وهذه أحكام – يقصد بها آراء رينان – تذهب في البت إلى حد الشطط، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة وجهلنا بما للعرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو.
وما أسوق إلا شاهدًا واحدًا:
فهل يظن ظان أن عقلًا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئًا طريفًا؟ وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثمارًا بديعة أنتجها الجنس العربي؟”([vii]).
إن رينان وإنْ كان على علم ودراسةٍ بالفلسفة وكَتَب فيها مؤلفات عديدة؛ إلا أننا نعتقد أنه لم يكن على شيء ذي بال من العلم. ولو كان رينان على شيء ملموس من العِلْم لعرف قيمة علوم العرب في مخطوطات التراث العلمي العربي التي تعج بها مكتبات فرنسا. ولكن الرجل لم يكن يَعْنيه شيء من علوم المسلمين ولم يكلف نفسه أَدنى جهدٍ في التعرف على إسهام المسلمين في هذا المجال حتى يكون على بَيّنةٍ مما يقول؛ لأنه كان مَعْنيّاً بأمْرٍ آخر لا يتعداه، وهو الطعْن على العرب وعلى المسلمين سواء في لغتهم أو دينهم أو حتى علومهم. إن هذه المحاضرة ليست مجرد محاضرة من المحاضرات قد ألقاها مستشرق من المستشرقين، بل هي اتجاه عام في عالم الاستشراق، فقد شايع هذا الرأي عدد من المستشرقين مثل جيوم تنمان G.Tennemann الذي يقول: “إن العرب ميالون إلى التأثر بالأوهام، وأن القرآن يعوق النظر العقلي الحر، وأن أهل السنة يقفون عند ظاهر النص، ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه من معان وأسرار، وبهذا عاقوا انطلاق الفكر”([viii]).
ومن أصحاب هذا الرأي أيضًا مارتن بلسنر M. Plessner الذي كتب يقول: “وربما كان العلم هو أقل الميادين الثقافية خضوعًا لعملية الصبغ بالصبغة الإسلامية يضاف إلى ذلك، أن استمرار عداء المذهب السني الرسمي لعلوم الأوائل – يقصد علوم اليونان والفرس والهنود – وعدم تلاشى هذا العداء ظل صفةً مميزةً للإسلام. فقد كان أهل السنة المسلمون يرون أن كل علمٍ لا ينْبع من القرآن والسنة لا يعتبر عقيمًا فحسب، بل يعتبر الخطوة الأولى على الطريق المفضي إلى الزندقة”([ix]).
ولو كان رينان قد أجْهَد نفسه قليلًا في التعَرف على مآثر العرب العلمية لربما كان له رَأْي آخر ولكنه لم يَفعل لسبب بسيط للغاية هْو أنه قد خشي أَنْ يهدم فكرته التي كرس لها حياته وهي الكيْد للعرب والطعن في الإسلام.
ولعل ما قاله المؤرخ الشهير ول ديورانت في مؤلفه الموسوعي “قصة الحضارة” يكذّب كل مزاعم رينان حول الإسلام والعلم إذ يقول في ختام الفصل الخاص بالفلسفة في ضمن حديثه عن “الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية”: “وأن ما يؤسف له أن يكون علمنا بتلك القرون الثلاثة (750 – 1050م) التي ازدهر فيها التفكير الإسلامي ناقصًا كل النقص. وليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي في تلك القرون إلا جزءًا صغيرًا مما بقي من تراث المسلمين، وليس هذا الجزء الباقي إلا قسمًا ضئيلًا مما أثمرته قرائحهم، وليس ما أثبتناه في هذه الصحف، إلا نقطة من بحر تراثهم، وإذا كشف العلماء عن هذا التراث المنسيّ فأكبر ظننا أننا سنضع القرن العاشر – أي القرن الرابع الهجري – من تاريخ الإسلام في الشرق بين العصور الذهبية في تاريخ العقل البشري”([x]).
================================
([i]) موسوعة المستشرقين، مصدر سابق، ص311.
([ii]) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ج13، ص380.
([iii]) مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، د. محمد السويسي، ج2 ص24.
([iv]) أبحاث الندوة العالمية الأولى لتاريخ العلوم عند العرب، لفيف من الباحثين، ص55.
([v]) ابن رشد والرشدية، مصدر سابق، ص274.
([vii]) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرازق، ص17.
([viii]) قضايا من رحاب الفلسفة والعلم، د. توفيق الطويل، ص250.
([ix]) تراث الإسلام، شاخت وبوذورث، ترجمة د.حسين مؤنس وآخرين، ج2 ص217.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية