أخبار عاجلة

المقاربة التداولية البلاغية والتلقي الاسترجاعي لرائية الخنساء (8)

تشعر الخنساء بالحسرة، لما آل إليه أخوها، وتقدم الجار والمجرور (فى جوف)، كما قدمت (فى رمسه) فالتقديم جعل اللحد مقره وهو الأولى بتقديمه، فكأن اللحد والرمس قد صارا موطنه، ومحل أقامته…

أ.د. عزيزة الصيفي

بقية: تحليل الرائية

المقطع العاشر:

فـى جـوف لحد مقيم قد تضمنه

فــى رمـسه مقمطرَّات وأحجار

طلق اليدين لفعل الخير ذو فجر

ضخم الدسـيـعـة بالخيرات أمَّار

لـيـبـكـه مـقـتـر أفـنـى حـريـبـته

دهــر وحــالـفـه بـؤس وإقــتـار

ورفـقـة حـار حـاديـهــم بمهلكة

كـأن ظـلـمـتـها فى الطخية القار

لا يمنع القـوم إن سـألـوه خلعته

ولا يـجـاوزه بـالـلـيـــل مـــرَّار

هكذا تصوغ الخنساء قصيدتها، كلما زاد وجدها، ذكرت موته، وكيف أن موته كان فى هيجاء معضلة، وتعتبر الدهر خصمها وهو سبب كل ما أصابها من ضرر، فيدفعها ذلك للحديث عن أخلاقه وصفاته الحميدة كما اتضح فيما سبق، فهو الكريم المنقطع للعطاء، تباهى به العرب، وتتوالى المقاطع ويتصل بعضها ببعض فى سياق إبداعى تظهر من خلاله براعة الخنساء فى اختيار ألفاظها وتراكيبها التى توظفها فى سياقات متفاوتة فى الصياغة أحيانًا متقاربة، أو مكررة فى معانيها، لتثبيت كينونة صخر بالإخبار عنه كأنه حيى يرزق، تكثر من المضارع والاسمية.

والبيت كمعظم أبيات القصيدة مستأنف، وتلك هى المرة الأولى التى تبدأ فيها بالجار والمجرور (فى جوف لحد)، هو (مقيم)، مسندًا مؤخرًا ولفظ مقيم استعارته بدلًا عن (مدفون)، فإذا كانت الإقامة للأحياء فهو حي فى ذاكرتها حين قالت: (كأن عينى لذكراه إذا خطرت)، فهى تأبى أن يكون ميتًا مدفونًا، على سبيل الاستعارة التبعية فى اسم المفعول (مقيم)، تصل بذلك ما انقطع فى قولها: (ودونه من جديد الترب أستار).

تشعر الخنساء بالحسرة، لما آل إليه أخوها، وتقدم الجار والمجرور (فى جوف)، كما قدمت (فى رمسه) فالتقديم جعل اللحد مقره وهو الأولى بتقديمه، فكأن اللحد والرمس قد صارا موطنه، ومحل أقامته، و(قد) التوكيدية التى تنشرها فى الأبيات يتبعا الفعل الماضي، فتعود صيغة قد كان مرة أخرى، تتحسر، فإقامة صخر ليست مريحة؛ لأنه محاط بالصخور والأحجار، والبيت ينضح استسلامًا وخضوعًا، لإرادة الدهر.

ولكن الحديث عن اللحد يوقع الخنساء فى حالة اضطراب ومغالطة، تأبى أن تستمر فيها، فإن صخرًا (البو) الماثل أمامها الموجود بخصاله الجميلة، لا بد أن يظل بعيدًا عن واقع (قد كان)، لذلك تعود لتستكمل أوصافه مكررة صفة الكرم بصياغة أخرى تقول: (طلق اليدين لفعل الخير) أفعاله الخيرة، تمتدح كرمه الذى طالما ذكرته، بمختلف الأساليب، منها الصفة المشبهة (طلق اليدين)، صفة مشبهة، كناية عن كرمه واندفاعه لعمل الخير، الذى طالما ذكرته، بمختلف الأساليب، ويكرر المعنى في (ذو فجر) بدون عاطف بمعنى عطاؤه مكشوف واضح  توكيدًا لكرمه، والشطر الثانى (ضخم الدسيعة بالخيرات أمار) تكرار لمعنى للكناية عن صفة العطاء والكرم،، وصيغة المبالغة (أمار) وزن فعال، فهو يكثر من الأمر بتقديم الخير.

ولكن تعود الخنساء يتنازعها البكاء مرة أخرى، تعود وقد تملكتها مرارة الإحساس بفقد من كان خالصة لها دون باقى الأهل، تقول: (ليبكه مقتر أفنى حريبته دهر) واللام للأمر بغرض الحث، فإن كل من أفنى الدهر ماله وتركه خاوي اليدين وضاق عيشه عليه أن يبكيه؛ لأن صخرًا كان عونًا له ضد تقلبات الدهر،  هنا تضع صخرًا بكرمه فى مقابلة الدهر ببخله حين ينتزع من الناس ما يملكون، وعطف جملة (حالفه) على (ليبكه) للإشراك فى الحكم الإعرابى، عرضت فى البيت ثلاث صفات للشخص الذى يجب عليه البكاء: أن يكون مقترًا: أى ضاق عيشه، فنيت حريبته: أى فقد ماله، حالفه بؤس وإقتار: أى فقر وضيق عيش، لاحظ كيف تكررت المعانى؛ لأنها تتلذذ بالإطناب فى وصف كرمه، والمقتَر بفتح التاء خلاف المقتِّر بكسرها وتشديدها الذى يعنى (البخل).

ولا تكتفى الخنساء ببكاء المقتر فتعطف جملة (رفقة حار حاديهم بمهلكة) على (ليبكه مقتر) إشراكًا فى الحكم الاعرابى، بمعنى ولتبكه رفقة وحذف الفعل؛ لأنه معلوم من السياق، وهنا يعود بنا السياق إلى (وإن صخرًا لتأتم الهداة به) فلأنه الهادي وجب على الرفقة التى ضل حاديها طريقه أن تبكيه، فغياب صخر قد أثر على الرفقة الذين تحير هاديهم ومرشدهم الطريق، وتاهوا فى مهلة، كناية عن منطقة وعرة يتوه فيها الناس ويهلكون، وصف تلك المهلكة (كأن ظلمتها فى الطخية القار) والطخية الغيم الذى يوارى النجوم ، فتشبه ظلمتها الشديدة فى وجود الطخية بالقار، لتبالغ فى شدة سوادها.

وتختتم القصيدة ببيت مستأنف يعد مجرد امتداد لحديثها المطول عن كرم أخيها، لا يصلح كحسن اختتام، تقول:

لا يمنع القوم إن سألوه خلعته

ولا يجـاوزه فـى اللـيـل مرار

  يظن المتلقى أن آخر القصيدة مفقود؛ لأن حسن الاختتام يقتضى أن يأتى بحكمة، أو بما يتناسب مع الاستهلال فالخنساء بدأت بالبكاء والتوله على أخيها، وتلك الغصة التى فى أعماقها، وما يستوجب ذلك من تقبل حقيقة موته، وحسن الختم يكون جملة التمام، ولكن الشاعرة عادت لتكرر نفس الصفة التى ألحت على ذكرها بأساليب متنوعة، وفى أحوال متعددة مبالغة فى كرمه، ووصولًا به إلى أبعد الغايات، والبيت، إطناب يمتد فيه معنى الكرم، ويسود كرم لا مثيل له كرم فى كل اتجاه، وفى جميع الأحوال، فى المسغبة، والجدوب، والشدة، وقرى الضيف، وإيثاره على نفسه، إلى غير ذلك من أحوال؛ حتى تصل إلى حد أنه (لا يمنع الناس خلعته) جملة جواب شرط مقدمة على فعل الشرط (إن سألوه خلعته) تأكيدًا لهذا الكرم الذى زاد وفاض، وأصبح نوعًا من الإيثار، ووصل لدرجة أنه (لا يجاوزه فى الليل مرار) كناية عن كرمه الذى تباهى به قومها، ومرار بصيغة المبالغة، دليل كثرتهم، فهو الكريم المنقطع لهذه الخصلة، التى لطالما امتدحها العرب؛ حتى صارت من أهم صفاتهم.

هكذا تنهى قصيدتها وكأن باب الحديث عن صخر مفتوح ومستمر لا يغلق، ومعلوم أن معظم شعرها تمحور حوله، تنهى القصيدة التى أقامتها، وشيدتها لتصبح صرحًا من صروح الشعر الجاهلى فى الرثاء، قويًّا منيعًا بأساليب لغوية متينة السبك والحبك تختار اللفظ الفصيح، والحرف المكين لأداء الدور فى إبانة، وتمام المعنى، استطاعت الخنساء أن ترتفع بالمتلقى إلى ذروة التأثير والانفعال العاطفى.

مراجعة أسلوبية للقصيدة

إن رائية الخنساء لولا صدق التجربة، وقوة الأسلوب، وروعة الأداء، ما استمر تداولها بين المتلقين، من العصر الجاهلى إلى الآن، فقد استطاعت الشاعرة أن تضع في النص كل لواعج الأسى، والحزن على أخيها، فجعلته مؤثرًا فى المتلقى وحافزًا للتعاطف معها، إنها الباكية المستبكية، التى وظفت كل طاقات الأساليب البلاغية تأثيرًا لتجعل المتلقى يتعاطف معها.

أهمية اختيار بحر القصيدة:

من (البحر البسيط) وهو من البحور الطويلة، يعمد إليه كثير من الشعراء فى الموضوعات الجدية، ويمتاز بجزالة موسيقاه ودقة إيقاعه بما يناسب رثاء الخنساء.

والقصيدة ترتبط فيها الأبيات برابطة أسلوبية، احتاجت إلى مقاربة، وقراءة بلاغية تداولية متأنية، لإبراز أهم نواحى التنوع الأسلوبى، وطرق التعبير التى أسهمت فى بنائها.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (36)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …