أخبار عاجلة

المقاربة التداولية البلاغية والتلقي الاسترجاعي لرائية الخنساء (6)

 صاغت بست جمل إسمية خبرية، خمس من الضرب الإنكارى، المؤكدة بـ(إن) و(اللام) والجملة الأخيرة تشبيهية، تواصل ما انقطع من حديث عن خصال أخيها…

أ.د. عزيزة الصيفي

بقية: تحليل الرائية المقطع الثاني:

بقية: تحليل الرائية

المقطع الخامس:

صاغت بست جمل إسمية خبرية، خمس من الضرب الإنكارى، المؤكدة بـ(إن) و(اللام) والجملة الأخيرة تشبيهية، تواصل ما انقطع من حديث عن خصال أخيها إذ تبدأ بقولها:

وإن صـخرًا لـواليـنا وسيـدنا

وإن صخـرًا إذا نـشـتو لنحَّار

وإن صخرًا لمقدام إذا ركبوا

وإن صخـرًا إذا جاعوا لعقَّار

وإن صخرًا لتأتم الـهـداة بـه

كـأنـه عـلـم فـى رأسـه نـــار

يبتعد المقطع عن صيغة (قد كان)، وتخرج الخنساء من وجدها، وتهرب من تلك الحقيقة التى أقرتها فى المقطع السابق لتحيط أخاها بهذه الأخبار المأثورة عنه، وتكرر صورة الجملة الخبرية المؤكدة، تعرض فى كل مرة خصلة من خصال صخر، فى جمل متساوية المقاطع، فيما يسمى بالتشطير، لتختمها بالشطر الأخير، يحمل صورة تشبيهية مفردة مقيدة، حيث تشبهه فى قيادته وهدايته لقومه بهيئة  بالعلم (الجبل) بقيد كونه فى رأسه نار، فهو الهادى لقومه، يأتمون به، وكأنه خبر قائم ومستمر، وقد أصبحت هذه العبارة كالمثل المأثورة، ثم تولدت منها عبارة أخرى فى مقام المدح (هو نار على علم)، كناية عن الشهرة.

إذًا ابتعاد صيغة (قد كان) التى هى أداة الدهر وسلاحه، تخرج الخنساء من وجدها، وتهرب من تلك الحقيقة التى أقرتها فيما سبق، فى قولها: (يوم فارقنى)، حيث بدأت المقطع بواو استئنافية، كررتها ست مرات، وكأنها تريد أن تصل ما انقطع، من حديث عن فضائل وشمائل صخر.

واهتمام الخنساء بمواطن الوصل والفصل، وربطها بالسياق لها دور أساس فى توجيه الدلالة،” فالعربية تتميز بحتمية فى ترتيب أجزائها، ورغم ذلك ترك لنا النحو رتبًا محفوظة بالنسبة لهذه الأجزاء، والعدول عن هذه الرتب يمثل نوعًا من الخروج عن اللغة النفعية، إلى الإبداعية”([i]).

كما تستعين الخنساء باسم الفاعل، المتعلق بلام التوكيد (لوالينا)، الذى يمتد فيه الصوت ويدوم دوام ولايته وما بعدها، وتهتم بالجمل الشرطية، مرتين فى صورة متماثلة (إذا نشتوا لنحار، وإذا جاعوا لعقار)، ومرة يتقدم جواب الشرط (لمقدام إذا ركبوا) مما يتيح لها فرصة تقرير صفة العطاء والكرم والإقدام والشجاعة.

المقطع السادس:

ثم تتبع ذلك بجمل اسمية قصيرة متتالية، تواصل من خلالها ذكر صفاته، فتقول:

جـلـد جـمـيـل الـمـحيا كامل ورع

وفى الحروب غداة الروع مسعار

حـمـال ألــويــة، هـبـاط أوديـــــة

شـهـاد أنـديــة، للـجـيـش جــــرار

نـحــار راغـيـة، مـلـجـاء طاغية

فــكــاك عـانـيـة، لـلـعـظـم جبـار

وكأن الخنساء يريحها ويرضيها أن تظل تحصى خصال أخيها، فى جمل اسمية قصيرة، صورًا من الكنايات المتتابعة (فى الحروب مسعار) كناية، بحذف المسند إليه، ترسخ بها قناعتها أن صفاته الحميدة توفر له مساحة من الوجود فى ذاكرة قومها،  كما استعادته بصيغ المبالغة، الدالة على الكثرة والديمومة، فتراصت هذه الجمل كالحصن الحصين، تعدد الصفات بدون عاطف لكمال الاتصال؛ لأن الموصوف واحد (جلد، جميل المحيا، كامل، ورع) ثم تكنى بتسع جمل متتابعة عن قوة تحمله كرمه، وشجاعته، وإقدامه، وكل صفات السيادة والقيادة لحضوره شاخصًا بأعماله ومآثره.

واسم صخر يأتى متعلقًا بأداتى التوكيد، مكررًا خمس مرات إطنابًا؛ لأنه يحلو لها ترديد اسمه، بالإضافة إلى إلصاقه بكل هذه الشمائل، وتعزيزها بالمؤكدات، وصيغ المبالغة (نحار، مقدام، مسعار، حمال، هباط، شهاد، جرار ملجاء، فكاك، جبار)، على وزن (فعال ومفعال)، بتشديد العين، ما عدا (ورع) على وزن (فعل) بكسر العين، ومميزات هذه الصيغة أنها تفيد الكثرة والتكرار فيمتد الزمن معها ويدوم، كما يدوم ويثبت مع الصفة المشبهة (سيدنا، جلد، كامل، جميل)، والتركيز على تكرار صيغة (نحَّار) إطنابًا، للتوسع فيما يرافقها من معانى الكرم، والعطاء، وما يتردف معها (عقَّار)؛ لأن الذبح من أهم صفات السيد دائم الكرم.

المقطع السابع:

ولكن ما إن تنتهي من حديثها عن أخبار صخر؛ حتى تعود لحديثها السابق عن موته، فتقول:

فقـلـت لـمـا رأيت الدهر ليس له

مـعـاتـب وحــده يــســدى ونيار

لـقـد نـعـى ابن نهيك لى أخَا ثقة

كـانـت تـرجــم عـنـه قبـل أخبار

فـبــت ســـاهـــرة لـلـنـجم أرقبه

حتى أتى دون غور النجم أستار

تستأنف بالفاء، والفعل – جملة الخبر المقدم – والسياق يقتضى (لما رأيت الدهر ليس له معاتب، قلت) لتعود لحديثها السابق، وتنزل إلى أرض الواقع، وقد علمت أن الدهر الذى رابها ليس له معاتب، فتشخصه، على سبيل الاستعارة المكنية، فيأتى البيت كله عدول عن الدلالة الحقيقية للمجازية – أيضًا – فى الاستعارة التبعية (رأيت) بمعنى علمت أو وجدت، ويسبق الفعل بـ(لما) التعليقية بامتدادها الزمنى، وتحقق الخنساء بعد ما رأته من تناقضات الدهر أنه لا يعاتب، إذ هو وحده (يسدى ونيار) فتوظف المجاز وصلًا بالواو بين الفعل وصيغة المبالغة، ومطابقة بينهما بمعنى يصلح ويضر، أو يغزل وينقض غزله باستمرار.

ويأتى البيت التالى مقول القول (فقلت.. لقد نعى ابن نهيك لى أخَا ثقة) فصخر أخو ثقة وأمان، وأنت أخو الريب والشك، يأتى الفعل (نعى) ليقضى على فكرة وجوده، ويعيد لذاكرة الخنساء هذا الحدث المأساوى العنيف، الذى أطاح به، وأطار عقلها، ويأتى الفعل المبنى للمجهول (ترجم) أى من كانت تصلنى أخباره.

ويستدعى السياق (الفاء) المعقبة بها (فبت ساهرة للنجم أرقبه)، تصل ما انقطع من أخبار أخيها فى قولها: (كانت ترجم عنه قبل أخبار)، فالخنساء حالها (ساهرة)، وتقديم الجار والمجرور (للنجم ترقبه)؛ لأنه الأهم بالنسبة لها، وسهرها من أجله، فمن خلاله ستعرف أخبار أخيها -على عادة العرب فى علم التنجيم – لكن هيهات إنه المستحيل، لذا يأتى الشطر الثانى غير معطوف، تكنى عن يأسها فقد مات ولا أمل فى معرفة أخباره، فتقول: (حتى أتى دون غور النجم أستار)، يتناظر إيجابًا مع قولها السابق: (ودونه من جديد الترب أستار)، فالترب والنجم قد تحالفا لإخفاء أخباره وراء الأستار، هكذا يسترجع عقلها الحقيقة التى تحاول تناسيها، ووردت (حتى) فى سياقها المناسب؛ لأنها فى النهاية هى الحقيقة مهما تغافلت عنها، لتشع روح اليأس من جديد.

===============================

([i]) البلاغة والأسلوبية، محمد عبد المطلب ص٣٢٩، الشركة المصرية، العالمية للنشر، لبنان ١٩٩٤م.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (36)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …