الحكمة الثانية والستون بعد المائة
الجَمالُ أربعةُ أقسَام: جمَالٌ صِرفٌ: وهو الجَنة، وجَلالٌ صرفٌ: وهو النَّار، وجمالٌ جَلالى: وهو الذى يكون ظاهرُه جمَالاً وباطنُه جَلالاً كالشهَوات، وجلالٌ جمَالى: وهو الذى يكون ظاهرُه جَلاَلا وباطِنُه جمَالاً كالنار في الدُّنيا..
الأستاذ سميح محمود قنديل
تعريف الجمال: الجمال ضد القبح، وهو الحُسْن والزينة، ومنه الحديث: (إن الله جميل يحب الجمال)، أي حسْن الأفعال، وصادق الأقوال، والجمال اصطلاحًا: حسن الشيء ونضرته وكماله على وجه يليق به، ومعنى ذلك أن كل شيء جماله وحسنه كامن في كماله اللائق به، الممكن له، فإذا كانت جميع كمالاته الممكنة حاضرة، فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر.
الجَمال صفة تُلحظ في الأشياء، وتبعث في النُّفوس سرورًا أو إحساسًا بالانتظام والتّناغم، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تُنسب إليها أحكام القيم: الجمال والحقّ والخير.
ويبين الإمام أبو العزائم 0 فى جوامع كلمه أن الجمال جمالان: جمال الرب، وجمال العبد، فجمال الرب: العزة والكبرياء، وجمال العبد: الذل والانكسار. وفى معنى آخر يقول: الجمال جمالان: جمال تبتهج به وإن احتقرك الناس، وجمال تحتقر بك نفسك وتعز عند الناس، أما الأول: فوضوح الحق لك عن عين يقين، وانتهاجك على سنته، وإن خالفك الناس وعادوك، وأما الثانى: فانبلاج أنوار الحق عليك؛ حتى تضيء أرجاء حقيقتك، فتعلم مقدار نفسك فتحتقرها، وتظهر أنوار الحق للخلق فتُحترم عندهم، وتُعظم فى أعينهم، وإذا جملك الله بالوجد إليه، وحلاك بالتوكل عليه، فقد وافتك هدايته، وطلبتك عنايته، وإذا تَجمَّلت لك الكائنات، فاحذر من جمال هو زخرف الحياة الدنيا، فهو يقطع عن الله، وإذا جملتَ له سريرتك، جمَّلَ بمعانى صفاتِه علانيتك، ومن حجبه جمال الجميل عن الجميل هلك، وطالب الجِنان محجوب عن الرحمن.
الجمال المطلق
ويتحدث الإمام 0 عن الجمال المطلق فيقول: العيون الناظرة لا يخلو حالها، إما أن تكون ناظرة به – أى بالله – أو بها، فإن نظرت به شهدته فيما نظرت، فلا ترى إلا كمالًا، ولا تشهد إلا جمالًا، مهما كان شأن المرئي، وعندها يكون التحقق بنفس المظاهر المضافة إلى الصفات والأسماء، فإذا شهد صورًا جميلة شهد المنعم، وإذا نظر كرمًا وعلمًا شهد المعطى الوهاب، وإذا نظر عناء وشدة شهد المنتقم الجبار، فهو لا ينظر إلا الأحدية المحيطة بكل العوالم، وبهذا المعنى صار الناظر له به يشهده، فإذا شهده وشهد به، وشهد منه وشهد فيه، وشهد له مع التنزيه، شهد الجمال المطلق، وعاين الحُسْن الصرف، وصار حق اليقين سمعه وبصر ويده.
يقول مولانا الإمام أبو العزائم 0:
أإلـــى الـجــمَـال تـألـهــى وحنينى
وجـمـالَــه العَـالــى رأتْه عـيـونـى
حاشا ومجْلى الذات غاية مقصدى
ولـقـد أعــدتُ لـبـدئِـه بــيـقــيــنـى
لم يَحجبن روحـى الـجـمـالُ وحقه
حـتـى فـنـيــت بـظــاهـرٍ ومُـعـين
كـيـف الـسُّلو وظـاهــرى إحـسانه
وبـبـاطـنـى مـن غـيـبـه الـمـكنون
أنـا لـوحُـه وبـظــاهــرى آيــاتـــه
أنـا كـنـزُه وبـبـاطـنـى تـمـكـيـنـى
ويقول 0 متسائلًا ومبشرًا:
أأكـشـفُ عـن جـمـالكم السَّتائر
لتشهدَ حسْن وجهكمُو البصَائر
وأرفـعُ عـنـكـمـو حُجبًا وأبْدى
جـمَـالَ الـحـق تـشهدُه السَّرائر
أنـاولـكـم شـرابًا مـن حـبـيــبٍ
لتــرْآه البـصِيـرةُ والـبـصَـائـر
أجـمِّلـكـم بـحـسْن الوصْفِ لما
تـروا وجْـه الـعـلـىِّ بـلا سَتائر
وهناك فرق بين الأبرار الذين هم: عشَّاق نِعم المنعم وجماله، وبين المقربون الذين هم عشاق المنعم الجميل، وقد خلق الله نفوس الكفار من طينة الخبال، وخلق نفوس المؤمنين من عزة الجمال، يقول الإمام 0:
أنا الجَمالُ الذى عنْه الوَرى عَجَزُوا
والروْضُ أدْهشَ من قد شمَّ نسَماتى
أنا الكمالُ وبى كلُّ الوجودِ بـَــــــــدا
مُزيَّنا فتدبَّر سِرَّ كلمَاتــِـــــــــــــــى
أنا الصِّفاتُ أنا الأسمَاءُ مظهرُهَـــــا
وجَوهرُ الكنزِ فى سَلبى لإثباتِـــــى
ويقسم ابن الدباغ 0 الجمال إلى ثلاثة أقسام هي: عالم حس الصورة، أي الجمال الجزئي، وعالم صورة الحسن، أي الجمال المجرد، وعالم الجمال المطلق، أي الجمال القدسي أو الإلهي، ويلاحظ في ذلك التقسيم: الجمالات المادية في عالم الظواهر والأشياء، والجمالات الصورية في عالم المعاني المجردة، ويقسم الجمال أيضًا ولكن باعتبار آخر، إلى قسمين وهما الجمال المطلق والجمال المقيد، أما المطلق فهو واحد غير متعدد أو متنوع، ينفرد به الحق تعالى، أي يعم الوجود بأسره، والجمال الجزئي وهو جمال يخص بعض الذوات دون بعض، وينقسم كل من الجمال الكلي والجمال الجزئي إلى ظاهر وباطن، أما الباطن فهو المجرد عن الأجسام، ويظهر على عالم النفس من أنوار الجمال المطلق، في حين أن الجمال الظاهر هو ما يتعلق بالأجسام، ويدرك بطريق الحواس، وهذا ينقسم بدوره إلى ما يتعين له محل وما لا يتعين له محل.
وفي الفلسفة الصوفية، يُعتبر الجمال جزءًا من الطريق إلى الحقيقة، وهو عبارة عن تجربة لا تُصوَّر أو تُفسَّر بالكلمات، بل هي تجربة عميقة وروحانية تحدث في القلب والروح، والجمال الحقيقي هو جمال الروح والمحبة والتواصل مع الله، فالجمال ليس مجرد مظهر خارجي، بل هو حالة داخلية من السعادة والإشراق والسلام الداخلي.
وفى الحكمة التى معنا يكشف لنا الإمام أبو العزائم 0 أن الجَمالَ أربعةُ أقسَام: جمالٌ صِرفٌ: وهو الجَنة، وجَلالٌ صرفٌ: وهو النَّار، وجمالٌ جَلالي: وهو الذى يكون ظاهرُه جمَالًا وباطنُه جَلالًا كالشهَوات، وجلالٌ جمَالى: وهو الذى يكون ظاهرُه جَلالًا وباطِنُه جمَالًا كالنار فى الدُّنيا.
أحوال بين الجمال والجلال
يقول الإمام القشيري 0: اعلم أنه U يكاشف القلوب مرة بوصف جلاله، ومرة بوصف جماله، فإذا كاشفها بوصف جلاله، صارت أحوالها دهشًا في دهش، وإذا كاشفها بوصف جماله صارت أحوالها عطشًا في عطش، فمن كاشفه بجلاله أفناه، ومن كاشفه بجماله أحياه، فكشف الجلال يوجب صحوًا وغيبة، وكشف الجمال يوجب صحوًا وقربة، فالعارفون كاشفهم بجلاله فغابوا، والمحبون كاشفهم بجماله فطابوا، فمن غاب فهو مُهيَّم، ومن طاب فهو مُتيَّم.
ومعلوم أن الجلال عكس الجمال، فالجمال عطاء ونعمة وزينة وقرب، أما الجلال فهو ابتلاء وقهر ومنع وحساب.
فالقسم الأول: هو الجمال الصِّرف وهو الجنة ونعيمها، وما أعده الله فيها لعباده المحبوبين لحضرته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بمعنى أنه ليس فيها جلال من أي نوع مطلقًا.
والقسم الثاني: هو الجلال الصرف وهو النار فليس فيها أي نوع من الجمال، وأهل النار محرومون من شهود تجليات الجميل سبحانه عليهم.
أما القسم الثالث: فهو الجمال الجلالي، وهو الذى يكون ظاهره جمالًا، مثل أنواع الملذات والشهوات المحرمة في الدنيا، ولكن العبد يحاسب عليها يوم القيامة فيعامل بالجلال والعقاب.
والقسم الرابع: وهو جلال جمالي، وهو الذى يكون ظاهره جلالًا وألمًا وابتلاءً وعقابًا في الدنيا، ولكن هذا الجلال فيه جمال باطن، كالنار في الدنيا، وكذلك الجزاء والعطاء في الآخرة، ورفعة الدرجات وتكفير السيئات، ومثل ذلك ما يتعرض له الرسل والأنبياء والدعاة إلى الله، من جلال الخلق وسوء معاملاتهم، فيصبرون، فيجزيهم الله في الآخرة الجزاء الجمالي الأوفى، وقد ابتلى الملائكة بالقهر الإحساني الجميل، حينما أمروا بالسجود لآدم A، فأطاعوا أمر مولاهم، ففازوا بالقبول، والأمثلة على ذلك كثيرة.