أخبار عاجلة

شروح الحكم من جوامع الكلم للإمام أبي العزائم (168)

 الحكمة الثامنة والستون بعد المائة

كل مُسلم مُطالبٌ بالسفر إلى الحَق جل جلاله، وهذا السفر يسَمى سُلوكًا أو طريقًا، والمسَافر إلى الله تعالى يُفارق فِطرَهُ المُهمَلة، ومقتضياتِ بشريته.

الأستاذ سميح محمود قنديل

السفر عند الصوفية هو سياحة روحية وجهاد للنفس؛ لأن في الاغتراب إحساس بتغيير عوائد النفس، وابتعاد عن البلد والولد، وفي السفر لقاء بالصالحين، ونصرة المظلومين، وطلب العلم وصلة الرحم، ويرى الصوفية أن السفر طلب للحلال وتجنب للحرام، ويشترط في المريد الصادق في السفر أن يكون مراعيًا لهمِّه، حافظًا لقلبه من التشتت والطمع في الخلق.

ويَقُولُ مُحَمَّدَ بْنَ مَنْصُورٍ الطُّوسِيَّ 0: “يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عِلْمٍ يَسُوسُهُ، وَذِكْرٌ يُؤْنِسُهُ، وَوَرَعٍ يَحْجِزُهُ، وَيَقِينٍ يَحْمِلُهُ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يُبَالِ كَانَ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوْ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ”، ويرى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي 0 أن السفر توجه القلب إلى الحق تعالى بالذكر، كما يرى أن المسافر هو الذي يسافر بفكره في المعقولات، فيعبر الدنيا بما يسميه العدوة القصوى.

ويحكي لنا الشيخ أبو طالب المكي 0، عن رجل قال لبشر بن الحارث 0: “إني أريد سفرًا ولكني منعني أنه ليس عندي شيء، فقال: لا يمنعك العدم من سفرك واخرج لقصدك، فإن لم يعطك ما لغيرك لم يمنعك ما لك”، قال الإمام القشيري 0: “سئل بعض مشايخ الطرق فقيل له: هل سافرت؟ فقال: سفر الأرض أم سفر السماء؟ سفر الأرض: لا. وسفر السماء: بلى”، وجاء رجل إلى عارف بالله فقال: “قطعت إليك شقة طويلة، فقال له العارف: كان يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عن نفسك”، وقال سيدي الشيخ أبو العباس المرسي 0: “ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة وغيرها من البلدان، إنما الشأن من تطوى عنه أوصاف نفسه”.

إن السفر من عند الله هو القدوم لمهمة عظيمة، ومسئولية جليلة، وهي استخلاف العبد في أرضه، وذلك بعمارتها وعبادته، والامتثال لأوامره والانتهاء لنواهيه، فضلًا عن معاينة بديع صنعه، والتفكر في عالم ملكه وملكوته، والسفر إليه سبحانه أوله شوق وأوسطه سير ومجاهدة، فوصول ومكاشفة، أمّا السفر فيه فهو الفناء في عشقه، وقد قيل: قلوب أهل الحق طائرة إليه، بأجنحة المعرفة، ومستبشرة إليه بموالاة المحبّة.

السفر عند الإمام أبى العزائم

وعن السفر يقول الإمام أبو العزائم 0: “كل مسلم على يقين أنه مسافر إلى الدار الآخرة، وأهل الإيمان منهم مسافرون إلى مقر رحمة الله ودار النعيم الأبدي، وأهل الإحسان مسافرون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأهل الإيقان مسافرون فرارًا من الكونين إلى المكوِّن Y.

ولما كان المسافر إلى مكان بعيد، لا يخلو حاله إما أن يكون عالمًا بالطريق متمرنًا عليه، فإن، كان عالمًا به، احتاج إلى رفيق يعينه على مهام شئونه، حتى يكون على يقين من أنه إذا نسي ذكَّره، وإذا ذكر أعانه، وفي الحكمة: الرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وإن كان جاهلًا بالطريق احتاج إلى دليل موثوق به مشهور بين الناس بتوصيل السفر، ولو أن المسلم حصل علوم الأولين والآخرين ولم يظفر بدليل فى مقام جهالته بالطريق، أو برفيق فى مقام علمه به، لا يصل إلى قصده”.

والسفر عند الإمام أبي العزائم 0 ليس من مكان إلى مكان، أو من الكون إلى المكوِّن، أو من الدنيا إلى الآخرة، وإنما السفر عنده من نفسه إلى الله، تحققًا بقوله سبحانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ (الذاريات: 50)، فنراه يقول وهو مسافر لأداء فريضة الحج: اللهم آنسنا بوجهك الجميل في حلنا وترحالنا، واجعل سفرنا منا إليك بك سبحانك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ويقول نظمًا قبل سفره إلى الحج مبينًا حقيقة السفر:

مِنى أُسافرُ لا من كوْنىَ الدَّانِـــــى

أفردتُ ربى لا حُورٍ وولـــــــــدان

وجهتُ وجْهى إلى الله العَلى ولي

شوقٌ عَظيم إلى فضْل ورضْـوان

قلبى يرى في مقَام خليل حضْرتِه

أنوارَ مقتدِر بَر وديــَّــــــــــــــــان

روحِى تشاهدُ ربَّ البيتِ جلَّ عَلا

يُعطى جمَال العَطا بجميلِ إحسَان

أنواع السفر وأحوال المسافرين

يقول الشيخ أحمد سعد العقاد ـ أحد تلاميذ الإمام 0 – فى كتابه: “أشرف الغنائم في شرح صلوات الإمام أبى العزائم”:

“السالك مسافر من الآثار إلى الآيات، ومن الآيات إلى التجليات، ومن التجليات إلى مجلى الذات، ثم الرجوع إلى الأكوان ليفيض عليها أسرار الكمالات، ولا يتمكن الإنسان من السير إلى تلك المراحل، إلا إذا اقتفى أثر رسول الله J، وتوالت عليه النظرات المحمدية، وانتشلته يد المصطفى J من قواطع الطريق، ويعينه على ذلك كثرة التعلق برسول الله والصلاة عليه واقتفاء أثره، ويترجم لغرائب الأحوال.

والسفر هو التوجه إلى الله تعالى، وهو سفر إلى الله، وسفر بالله، وسفر فى الله، وسفر عن الله.

المرحلة الأولى – السفر إلى الله: وهو جهاد النفس، وحربها لتحمل المشاق والصعوبات فى سبيل الله، وكثرة الأذكار، وقطع عقبات النفس، وهذه المرحلة من أصعب مراحل السفر على المريد؛ لأن السالك فيها ملاحظ لنفسه، مفتخر بجهاده، واقف عند مظاهر حسه، وهى رتبة التكليف، التى يقوم بها العبد لمشاق الكلفة، وعناء الجهاد.

المرحلة الثانية – السفر بالله: وهى عبارة عن شعور العبد بمدد الله، ودخوله فى دائرة لا حول ولا قوة إلا بالله، فتشرق عليه أنوار لطائف القلب، وتنفتح له أنوار القرب والقبول، ويشهد بعيون القلب آيات الله، ويتمتع بجمال الله، ويتمتع بقوله تعالى: )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ(، وهذه هى مرحلة التعريف، فيتعرف له الحق فى كل مظهر، ويعرف آيات الحق فى كل أثر، وهى مرحلة برزخية جامعة بين أسرار الملكوت وأسرار المُلك.

المرحلة الثالثة – السفر فى الله: وهى عبارة عن إشراق أنوار الأسماء والصفات، وإحاطة تلك المعانى بالعبد من كل الجهات، فتختفى الآثار وتظهر الأنوار، ويأتمن الحق العبد على الأسرار، وهى مرتبة الوصول إلى الروح وأسرارها، وهذا هو مقام التشريف، الذى يتلذذ العبد منه بمشاق العبادة، ويتشرف بمثوله بين يدى مولاه فى كل أنفاسه، ولا يزال العبد فى هذه المرحلة يتمتع بأسرار الواحدية، ويكاشفه الحق بمقام الدنو والتدلى وقاب قوسين أو أدنى، فتنتفى الغيرية وتنمحى الإثنينية، ويتفانى العبد فى حبيبه بالكلية، فيتم للعبد الكمال.

المرحلة الرابعة – السفر عن الله فى الله بالله: وهو رجوع العبد إلى الأكوان ليدلهم على الرحمن، وهو مقام البقاء بالله، وإفاضة الكمال على خلق الله والوراثة الكبرى للأنبياء، جعلنا الله ممن تحقق بهذا المقام، إنه على كل شيء قدير.

وفى كل مرحلة يظفر العبد بأسرار يترجم عنها بالعبارات الباهرة، ويتفانى فى الحضرة المحمدية، لأنه القائد الرفيق الرءوف الرحيم، الذى لولاه ما وصل العبد إلى تلك الغنائم.

وإن لرسول الله J صوَرًا ورثوه فى علومه وأخلاقه، ولاحت عليهم الفتوح، وهم نفحة إلهية فى كل زمان، فابحث عنهم واقتد بهديهم، تظفر بكل ما تريد، وهذه الصلوات لأستاذنا برهان على أنه وصل إلى الحقائق وتجمَّل فى السير، وعاد إلينا ظافرًا بالكنوز التى بها سعادتنا، والله يتولانا جميعًا”.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …