أخبار عاجلة

شروح الحكم من جوامع الكلم للإمام أبي العزائم (166)

 الحكمة السادسة والستون بعد المائة

الاستقامة: الخروج عن المـعهود، ومفـارقـة الـرسـوم والـعـادات، والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق.

الأستاذ سميح محمود قنديل

الاستقامة في اللغة مصدرُ فعلِ: “استقام”، ومعناه انتصب واعتدل، والاستقامة يقال في الطريق الذي على خط مستو، فالاستقامة ضد الاعوجاج والالتواء، ويقال: استقام له الأمر، إذا انتظم وسار على نحو معتدل مستقر، ويوصف الشيء بأنه قائم ومُقام، ويقال: هذا أقوم، أي أكثر استقامة، وفي تفسير قوله تعالى: )لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ(: قال الطبري: وأَعدلَ وأصوبَ في القول. وهو من الاستقامة، من قول الله: )وَأَقْوَمُ قِيلًا(.

وأما المعنى الشرعي للاستقامة، فمطابق لمعناها اللغوي، غير أنه مستعمل بكثرة في الصفات المعنوية والخُلقية، وأول استقامة في الشرع، هي استقامة الدين ومنهجه وطريقه، وهذا هو معنى قوله تعالى في سورة الفاتحة: )اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ( (الفاتحة: 6)، قال الطبري: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن (الصراط المستقيم)، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، والإنسان يكون مستقيمًا بقدر ما تتطابق صفاته وتصرفاته مع المنهج المستقيم والصراط المستقيم، قال الراغب: واستقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم.

الاستقامة في القرآن والسنة

وردت في القرآن الكريم آيات وأحاديث كثيرة في شأن الاستقامة، بألفاظ مشتقة منها، فضلًا عن المفيدة لمعناها، نذكر منها على سبيل المثال:

أولًا: من القرآن الكريم: قوله تعالى: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(، وقوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون(، وقوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ  نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة(، وقوله تعالى: )فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ(.

ثانيًا: من السنة النبوية الشريفة: عن سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ – قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فاستقم)، وفي رواية الإمام أحمد: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وعن مالك أنه بلغه أن رسول الله J قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، وعن حذيفة 0 قال: يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا أو شمالًا، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا.

والاستِقامة تتضمَّن عِدَّة أمور منها: إفراد المعبود بالإرادة مِن الأفعال والأقوال والنيَّات، وهو الإخلاص، وقوع الأعمال وحصولها وَفْق الأمر الشرعي لا البدعي، وهو متابعة السُّنَّة، العمل والاجتِهاد في الطاعة بقدْر وُسْعه، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، فاتَّقوا الله ما استطعتُم، الاقتِصاد في العمَل بين الغلوِّ والتفريط، الوقوف مع ما يرسُمه الشرْع ويحدِّده، لا مع دَواعِي النفس وحظوظها، فمَن يُطِق السدادَ في كلِّ أحواله، وهي الاستِقامة التامَّة، فليُقاربْها بحسب طاقته، ولا يَنْزل عن تلك الدرجة، سَدِّدوا وقارِبُوا.

الاستقامة كما يعرفها الإمام

الاستقامة عند الإمام أبى العزائم 0، هى طلب الإقامة فى محاب الله ومراضيه، وأن تعمل ما يرضيه سبحانه، ومن فعل ذلك انطوت النبوة بين جنبيه، فالاستقامة مراد الله تعالى المحبوب لحضرته العلية، والسير بسير العلم المطلوب للعبد، وشتان بين مراد الله تعالى من العبد، ومراد العبد من نفسه، فالعبد يطلب الكرامة، والله سبحانه وتعالى يطلب الاستقامة، ومن قدم مراده على مراد ربه كان جاهلًا عند العلماء بالله، وإن ظن أنه عالم؛ لأن الاستقامة خير من ألف كرامة.

والسعيد حقًّا من سبقت له الحسنى، فوفقه الله للاستقامة وأعانه عليها، والمحجوب حقًّا من ظن أنه يحسن عملًا فطلب الكرامة، فيجب علينا أن نسارع إلى الاستقامة عملا بعلم الله، وإن جهلنا الحكمة، فإنما نحن مكلفون لنطيع الأمر فقهنا الحكمة أو جهلناها، ومن استقام مع الله تعالى، كان الكون بيده وفى طاعته، الاستقامة فى الوقت أن تشهد قيامه، وفى الأقوال أن تترك الغيبة، وفى الأفعال بنفى البدعة، وفى الأعمال بنفى الفترة، وفى الأحوال بنفى الحجبة.

وكما جاء فى هذه الحكمة تكون الاستقامة عنده 0 هى: الخروج عن المعهود بمعنى: أن يكون المسلم معتادًا على فعل أفعال، أو قول أقوال، أو عنده أحوال، ربما لا توافق الشرع الشريف، ولكنه اعتاد عليها فأصحبت لازمة له، فإذا استقام خرج من المعتاد والمألوف والمعهود عنده، ليصبح مستقيمًا على منهج الحق تبارك وتعالى.

والاستقامة مفارقة الرسوم والعادات: بمعنى أن الرسوم هى القواعد المحددة والخطوط المقيدة للإنسان فى سلوكه وعاداته، والتى ربما لا توافق الصحيح من القول والفعل الشرعى، فإذا استقام فارق هذا الذى رسمه ووضعه وحدده فى سلوكياته؛ لأنه عرف طريق الحق والاستقامة.

والاستقامة هى القيام بين يدى الله على حقيقة الصدق: بمعنى أن المسلم يقلد غيره ويعتاد على العبادة، فتصبح عادة لا عبادة، وقد يرائى بها الناس، ويريد منها حب الظهور والسمعة، فإذا استقام تبدلت أحواله، وحرص على الصدق فى الطلب، والإخلاص فى العبادة بكافة أشكالها.

وسائل تحقيق الاستقامة

1- وجوب الإيمان بأنَّ الرسول J قد عرَّف الأمَّة بجميع أمور دينِهم، وما يحتاجُون إليه في الاعتِقاد والعمل.

2- البحث عن المرشد الدال على الله، المستقيم على منهج الحق، والالتزام بحسن السير والسلوك معه.

3- التوسُّط والاعتِدال، وترْك التكلُّف والغلوِّ والتنطُّع، في الاعتِقاد والعمل، وبذلك يتحقَّق أهمُّ قواعد الاستقامة؛ وهو لزوم طاعة الله باطنًا وظاهرًا، علمًا وعملًا.

4- تقوى اللهِ ومُراقَبته في السر والعلن.

5- دعاء الله I بالهداية: )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(.

6- الاستِعانة بالله U، والتوكُّل عليه؛ لحديث عبد الله بن عباس 5: (احفَظِ اللهَ يَحفظْك ….).

7 – الأعمال الصالحة مِن برِّ الوالدين، وصِلة الرَّحِم وغيرها، وكثرة النوافل.

8- التوبة النَّصُوح، قراءة القرآن الكريم وتدبُّره.

9- كثْرة الذِّكْر؛ قال تعالى: )اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(.

10- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى.

11- التفكُّر في مخلوقات الله U، مع تذكُّر الموت والآخرة، ومحاسبة النفس.

12- النظر في سيرة الرسول J، وقراءة كُتُب السلف الصالح، والنظر في حياتهم وأحوالهم.

13- لُزُوم المساجد في الصلوات، وملازمة العلماء ودروس العِلم.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (32)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …