استخدمت بعض الحركات الإسلامية العنف السياسي كوسيلةٍ للتغيير في بلدانها، كما في حال جماعات الإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، وفرع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وحزب التحرير في الأردن…
د. رفعت سيد أحمد
عبر السنوات الماضية وتحديدًا منذ (2011م) حاول الإرهابيون والدواعش اختطاف أمرين في غاية الأهمية:
الأول: ثورات الربيع العربي وأشواق الإصلاح وتحويلها إلى ثورات للإرهاب والفوضى وخدمة إسرائيل.. في هذه السنوات الصعبة والتي اجتازتها مصر بفضل الله وبفضل مئات التضحيات.. ولا تزال أغلب الدول العربية التي أبتليت بها.. تعاني منها وتحاول التغلب عليها..
الأمر الثاني: اختطاف صحيح الإسلام.. ففي تلك السنوات قام الإرهابيون بتشويه الإسلام المحمدي الأصيل من خلال توظيف الفتاوى والسياسات الشاذة ونسبتها إلى الإسلام.
وفي إطار مواجهة تلك الظاهرة – خاصة في شقها المتصل باختطاف الإسلام المحمدي – من جذورها لا بدّ وأن نبدأ بفَهمها، وفي هذا السياق يُحدّثنا التاريخ الإسلامي بأن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقديًّا وفقهيًّا ظلّ في أدبيات الإسلام ضمن الضوابط المُقرّرة، وكان أمرًا مشروعًا، وحقًّا مكفولًا للجميع، ولا يصحّ أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحِرمان للساحة العلمية من الثراء المَعرفي.
لكن الحَذَر كان ولا يزال من وجود آراء خاطئة، وطروحات مُنحرِفة، تخالف المُعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، كما هي حال موجات الإخوان والقاعدة وداعش وأخواتهم وهذا ما ينبغي مجددًا اليوم (2024م) التصدّي له، ليس بالاستعراضات الفكرية بل بالمواجهة العلمية الفقهية الرصينة، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحّة الرأي الإسلامي الحق وأصالته، وتُعالج الإشكالات المُثارة حوله.
لقد أثبتت الموجة الداعشية وثورات ما سُمّي بالربيع العربي أن أحد أبرز أهدافها كان تمزيق صفوف المسلمين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حُرمات بعضهم بعضًا، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، وهو هدف يُعدّ بمعايير الدين الصحيح جريمة أكبر وخطرًا أعظم.
ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبي والأئمّة والصحابة الأخيار ترفض الإرهاب باسم الدين، ولا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها، فالإرهاب الذي اختطف الإسلام أول ما طال، طال البلاد الإسلامية نفسها، في البداية لأسبابٍ مختلفة ولكنها تعود لأصلٍ واحدٍ هو الفَهْم الخاطئ والـتأويل المُتعسّف لآيات القرآن الكريم، والتي تذهب لغير المعاني التي يجب فَهمها على حقيقتها القرآنية، وفي تاريخ ظاهرة الإرهاب تُحدّثنا وقائع التاريخ أن أغلب الدول الإسلامية، شهدت منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، تنامي وبروز ظاهرة ما سُمّي بـ(الإحياء الإسلامي أو الصحوة الإسلامية)، وهي ليست بالظاهرة الحديثة أو الجديدة، بل يمكن تتبّع جذورها وامتداداتها عبر التاريخ الإسلامي بخبراته ومراحله المختلفة.
اتّخذت هذه الظاهرة صوَرًا وأشكالًا مُتعدّدة: ثقافية وفكرية، اقتصادية واجتماعية، سياسية وسلوكية، وقد تضمّنت الكتابات والدراسات التي تناولت تلك الظاهرة مجموعة ضخمة من المُصطلحات لتعريفها، منها على سبيل المثال:
الإسلام السياسي: ويُقصَد به توظيف الإسلام لتحقيق أهداف سياسية.
والإسلام التقدّمي: وهو الذي يتضمّن تطبيق الاشتراكية ولا يتعارض مع التحديث.
والإسلام التقليدي: وهو الذي يتعارض مع العلمانية والتحديث.
وإسلام الصحوة: والإحياء الإسلامي والأصولية الإسلامية وغيرها.
لكن يُلاحظ أن هناك مَن استخدم في تعريف ظاهرة الإحياء هذه مُصطلحات ومفاهيم تربط بين الإسلام وأنماط من العنف والإرهاب مثل: الإسلام الثوري، والإسلام الراديكالي، والإسلام من أعلى، والإسلام المُتشدّد، والإسلام المُسلّح، والعنف الإسلامي، وأخيرًا الإرهاب الإسلامي.
ولقد استخدمت بعض الحركات الإسلامية العنف السياسي كوسيلةٍ للتغيير في بلدانها، كما في حال جماعات الإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، وفرع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وحزب التحرير في الأردن، بينما استخدمت جماعات أخرى القوّة بعد فشل تجربتها في الوصول إلى الحُكم من خلال صناديق الاقتراع كما في حال جبهة الإنقاذ في الجزائر، وجماعة حسن الترابي في السودان.
أما ما جرى خلال الفترة من 2011م إلى اليوم (2024م) فلقد كان عُنفًا أعمى ضد الإسلام ذاته، لقد أضحى هذا العُنف الذي تمارسه تلك الجماعات (من الإخوان والقاعدة إلى داعش والنصرة)، إفرازًا لفلسفة معيّنة وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه، وهو بالأساس لفكر الخوارج الجدد، وهو في تقديرنا أصل البلاء ومصدره الذي يستوجب من كل عُقلاء الأمّة أن يدعوا إلى اجتثاثه؛ لأنه امتداد لفكر وفقه الخوارج قديمًا الذين كانوا يقرأون القرآن فلا يجاوز حناجرهم.
وهو فكر لا يفهم لغة العقل ومن ثم لا يفهم صحيح الإسلام، ذلك الدين الذي يدعو إلى إعمال العقل في كل أمور الحياة مع استبعاد لغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجّة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
تلك هي المبادئ الناظِمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقّانية الدين وبُطلان ما عداه.
ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المُخالِف في الدين والرأي لمُجرّد مُخالفته، ما لم يمارس عدوانًا يستلزم الردّ والردع.
كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المُخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبرّ بهم والإحسان إليهم ما داموا مُسالمين غير مُعتدين.
يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، ذلك هو طريق الأنبياء في فَهمهم للدين، وفيما أخذوه من الله سبحانه وتعالى، التسامُح والعدل والإخاء وعدم إكراه الناس على الدخول في الدين، وتلك مفاهيم وقِيَم تُخاصمها الداعشية المنتشرة – خلاياه المسلحة -اليوم في بلاد المغرب العربي وبلاد الشام.. مستخدمة سلاح الإرهاب باسم الدين وهذا الاستخدام هو أخطر أنواع الإرهاب، هكذا قالت لنا تجربة السنوات الماضية في ذلك الربيع المُزيّف والذي يصدق عليه اليوم أن يسمى (الربيع العبري.. وليس العربي) حفظ الله مصر وأمتنا العربية منه ومن بقايا شروره.