يؤكد الجغرافي المصري الدكتور جمال حمدان في كتابه (إستراتيجية الاستعمار والتحرير) على أنه ” من المستحيل منذ البداية أن يتحقق حلم تكوين دولة لليهود إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية، ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاء تاريخيًّا على طريق واحد هو طريق المصلحة الاستعمارية “…
الأستاذ الدكتور بليغ حمدي
بقية: الصهيونية من التبرؤ إلى الاستيطان إلى ترويج السيرة الذاتية
فكرة تأسيس الدولة:
يؤكد الجغرافي المصري الدكتور جمال حمدان في كتابه (إستراتيجية الاستعمار والتحرير) على أنه ” من المستحيل منذ البداية أن يتحقق حلم تكوين دولة لليهود إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية، ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاء تاريخيًّا على طريق واحد هو طريق المصلحة الاستعمارية “.
ولقد مر تكوين إسرائيل بمرحلتين أساسيتين؛ الأولى هي مرحلة التغلغل ثم الغزو؛ فبعد عدة موجات من التسلسل والتسرب المبعثر حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى فتح الانتداب البريطاني الباب للهجرة ليبدأ تاريخ من التغلغل الحقيقي خلق جسمًا خطيرًا من أقلية يهودية كبيرة على حد توصيف جمال حمدان. أما مرحلة الغزو فتم فيها الاغتصاب الشامل بعد انسحاب الانتداب، حينما تم طرد نحو مليون من العرب الأصليين خارج فلسطين، في الوقت الذي تدفقت فيه أمواج وأفواج الهجرة اليهودية إليها، ومنذ ذلك الحين أعلنت إسرائيل نفسها بأنها إسرائيل الصغرى تحديدًا في عام 1948م تمهيدًا إلى تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
وبمجرد أن انتهى الكيان الصهيوني من توثيق استيطانه الهمجي الذي خالف فيه كل الأعراف الإنسانية بمساعدة أمريكية وتمويلات مشبوهة من قطاعات أوروبية كثيرة بحجة التعاطف التاريخي إزاء ما جرى لليهود من تعذيب واضطهاد وممارسة عنصرية وتحقير في المجتمعات الأوروبية، جاء التفكير إلى كتابة سيرة ذاتية جديدة لكيان صهيوني تتيح لليهود إقامة وطن ولو عن طريق الاغتصاب وتشتيت الأعراق والأنساب الأخرى، ويكفي للقارئ أن يقرأ مقدمة كتاب الباحث المصري محمد السماك المعنون بـ ” الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي ” رغم صغره ليكتشف تاريخ التغلغل الصهيوني في فلسطين والذي يمكن توصيفه بملامح كتابة السيرة الذاتية لوطن لا أصل له، لكن حينما نستعرض التواريخ منذ سنة 1492م حتى عامنا هذا لأدركنا على الفور أن بني صهيون يسيرون وفق مخطط محكم ومنظم ولا يتغير بتغير الأجواء الزمانية والمكانية والإحداثيات السياسية والاجتماعية الواقعة بالمحيط العربي، أو بتغير الأنظمة الحاكمة سواء داخل إسرائيل أو في الدول والبلدان المجاورة. ولعل عام 1839م هو البداية الحقيقية لتكريس واقع وحقيقة جديدة تسمى إسرائيل وبداية تاريخية تمنحهم الوجود المكاني لإقامة دولة وكيان على أرض فلسطين العربية.
فهؤلاء اليهود الذين اعتقدوا أنهم بحق شعب الله المختار، فكروا لوقت طويل كيف يكون لله شعب ولا يكون للرب وطن؟ ومن هنا جاءت المؤامرة الخبيثة لتكريس وجود صهيوني على أرض فلسطين ولو بصورة ورقية ومؤتمرات تنظيرية وكتب ومطبوعات تمهد لكتابة سيرة ذاتية لوطن لا وجود له في الأصل. ففي عام 1839م جاءت مذكرة سكرتير البحرية الإنجليزية إلى وزير الخارجية بالمرستون التي يقترح فيها دعوة أوروبا إلى الاقتداء بقورش لإعادة اليهود إلى فلسطين. وبعدها بعام واحد في سنة 1840م كانت الرسالة من بالمرستون إلى سفير إنجلترا بالقسطنطينية من أجل حث السلطان العثماني الضعيف زمنيًّا وعسكريًّا وسياديًّا على تحويل هجرة يهود أوربا الشرقية إلى فلسطين.
وسرعان ما تحولت الرسائل والمذكرات الشخصية وإن كانت بصفة رسمية إلى مؤتمرات وندوات علانية من أجل تعميق فكرة إقامة وطن يهودي صهيوني على الأراضي الفلسطينية، وتلازم مع هذه المؤتمرات قرارات برلمانية تؤيد الفكرة، ففي سنة 1844م وافق البرلمان البريطاني على تأليف وتشكيل لجنة اسمها ” إعادة أمة اليهود إلى فلسطين “، ثم جاء عام 1845م ليكون بداية للمشروع الصهيوني في فلسطين بشكل رسمي، فلقد ظهر لأول مرة مشروع إدوارد متفورد وهو ” إقامة دولة يهودية متكاملة في فلسطين “.
وبالطبع كان المشروع تحت الحماية الإنجليزية المؤقتة وذلك حتى تتمكن الدولة الناشئة من الوقوف على أقدامها بثبات. وتوالت الكتب والمشروعات الدنيئة التي تسعى وتحث قادة العالم بضرورة إعادة الأمة اليهودية إلى إسرائيل مثل كتاب إرنست لاراهان المستشار الخاص لنابليون الثالث بعنوان ” المسألة الشرقية: إعادة بناء الأمة اليهودية “.
ثم كتاب ” أرض جلعاد ” لعضو البرلمان الإنجليزي لورنس أوليفنت الذي صار بعد ذلك وزيرًا للخارجية، وفي هذا الكتاب اقترح إقامة مستوطنة يهودية على مساحة مليون ونصف المليون فدان إلى الشرق من نهر الأردن، وتحديدًا ليهاجر إليها يهود روسيا ورومانيا.
وبالقطع أمر خطير أن نشير على عجل إلى تفكير الكيان الصهيوني بتوثيق وكتابة أي حدث سياسي أو اجتماعي أو ثقافي تتم فيه إشارة بسيطة إلى كلمة يهود أو يهودية أو إسرائيل، وكذلك توثيق أية كلمات تتعلق بوطن أو دولة أو هجرة أو مستوطنة تحديدًا في الفترة التي سبقت الإعلان عن الوجود الرسمي لإسرائيل في المحافل الدولية أي قبيل عام 1948م، وهذه الفترة التي سبقت الإعلان تفرغت الكيانات الصهيونية العالمية إلى تسجيل كل إشارة أو لمحة دالة عن إسرائيل أو وطن لليهود؛ حتى وإن كانت مجرد خبر صحافي قصير في جريدة غير مقروءة أو مطبوعة محلية.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية