لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود مما خلقه في الأرض والسماء وما فيهما، خلقه الله ليعمر به ملكه وملكوته، وجعله خليفة عنه في أرضه، والخليفة في الأرض هو سيد مَن في الأرض ومَن في السماء، وجعل له ملك الأرض مقرًّا للإقامة ومستقرًّا له بعد موته، ثم ينشئه النشأة الثانية، فيمنحه الملك الكبير.
لذلك ابتلاه الله تعالى بأن سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وصرَّفه تصريف الربوبية في المُلْك، فكل ما في المُلْك والمَلَكُوت مسخَّر له بإذنه تعالى.
السيد أحمد علاء أبو العزائم
نائب عام الطريقة العزمية
ترسيخ بعض المبادئ
من الواضح في تلك الرحلة، وما جرى خلالها من أحداث كان الفاعل فيها تارة سيدنا رسول الله o، من ترسيخ بعض المبادئ؛ مثل تحقير الأصنام “كاللات والعزى”، وتأصيل مبدأ الصدق والأمانة في التجارة، وتارة كان هو o المقصود للإعلان عن فضله o وكرامته، مثل ما قاله بحيرا الراهب، وما شهده ميسرة في شأن الغمامة التي كانت تظـلـه
o، ومن الجانب الآخر كانت السيدة خديجة تترقب عودة ذلك التاجر الأمين الذي أوصت به خادمها ميسرة. كان ذلك ضمن سلسلة التأهيل والتمهيد لنشر النور بالإسلام، ونبذ الجهل والظلام.
نقطة تحول
كانت فرصة الخروج بهذه التجارة نقطة تحول كبيرة بالنسبة لسيدنا رسول الله o ليبدأ في مرحلة جديدة، وكذلك بالنسبة للسيدة خديجة رضوان الله عليها، فإنها وبعد أن وضعت كل الثقة في حضرة النبي o، وأعطته ضعف ما تعطي الرجال في تجارتها؛ كان مردود تلك الثقة أضعافًا مضاعفة من الخير الذي جاء به سيدنا رسول الله o من أرباح لم يسبق لها مثيل في تجارتها.
وكانت تلك الفرصة وتلك الثقة تمهيدًا لما هو أكبر من ذلك، وهي أن تنال تلك السيدة الطاهرة الكريمة شرف الزواج بسيدنا رسول الله o، فإنها وإن كانت فقط أعطته ضعف ما تعطي الرجال في تجارتها، فإنها لما تزوجها رسول الله o وهبت نفسها وكل ما تملك لحضرة النبـي o.
إنها تعرف حقًّا قيمة مَن تزوجها، وتعرف أنها ربحت دنياها وآخرتها، ولم يكن ذلك بالنسبة لها أمرًا جديدًا ولا غريبًا، بل إنها قد سمعت يومًا بشأن نبيٍّ سيبعث في تلك البلدة التي تعيش فيها، فقد ذكر
السيوطي في الخصائص الكبرى وابن سعد في الطبقات أنها 1 كانت تجلس مع نساء أهل مكة يوم اجتمعن في عيد لهنَّ في الجاهلية، فتمثل لهن رجل، فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء إنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد، يُبعث برسالة الله، فأيما امرأة استطاعت أن تكون زوجًا له فلتفعل، فحصبته النساء – أي رمينه بالحصباء – وقبحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله ولم تعرض له فيما عرض له النساء، ووقع ذلك في نفسها.
فلما كانت تلك التجارة وتوالت الأحداث، وأخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، ذكرت ذلك لابن عمها ورقة بن نوفل، فقال لها: إن كان هذا حقًّا يا خديجة؛ إن محمدًا نبيّ هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبيّ منتظر هذا زمانه.
فلما عرفت ذلك تطلعت إليه، وطلبته للقاء، قال ابن إسحاق: كانت خديجة وزيرة صدق، وهي أقرب إلى قصي من النبيّ o برجل، وكانت
متموِّلة، فعرضت على النبيّ o أن يخرج في مالها إلى الشام “أي: للتجارة”، فخرج مع مولاها ميسرة.
فلما قدم باعت خديجة ما جاء به، فأضعف، فرغبت فيه، فعرضت نفسها عليه، فتزوجها، وأصدقها عشرين بَكْرَة – أى : 20 ناقة بكرًا – “سير أعلام النبلاء للذهبي”.
الخِطبة والزواج الشريف
وكان التمهيد للقاء من خلال نفيسة بنت منبه التي قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله لها من الكرامة والخيرة، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالًا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها؛ وبذلوا لها الأموال.
أرسلتني وسيلةً – وقيل: دَسِيسًا؛ أي: خُفْيَة – إلى محمد o بعد أن رجع في عيرها من الشام، وعرضت عليه أمر الزواج من السيدة خديجة، ليقضي الله ما سطر في كتابه المكنون، فذكر ذلك لأعمامه o حتى يذهبوا معه ليطلبوها له o.
وذكر الإمام المجدِّد السيد محمد ماضي أبو العزائم في النجاة في سيرة سيدنا رسول الله o ما كان من فرح أعمامه o لما علموا بالأمر، وخصوصًا عمه أبا طالب الذي تولى أمر الحديث عنه l في خطبته.
فقد خرج معه أبو طالب وحمزة والعباس، وقام أبو طالب خطيبًا فيهم، لخص في كلماته القليلة والبليغة شرف ذلك النسب وشأن سيدنا رسول الله فقال: “الحمد لله الذي جعلَنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضِئضِئِ – أصل – مَعَدّ، وعنصر مُضَر، وجعلَنا حضنة بيته، وسُوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجًا وحرما آمنًا، وجعلَنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في المال قُلّ – قلة – فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها الصداق ما آجله وعاجله من مالي وهو بعد هذا، واللهِ له نبأ عظيم وخطب جليل.
فتزوجها رسول الله o بعد أن أصدقها عشرين بَكْرَة.
تفصيل كلمات الخِطبة:
إن تلك الكلمات التي قالها أبو طالب في خطبته لتؤكد على شرف ذلك النسب؛ وفضل سيدنا رسول الله o ومكانته.
وقد فصلت كلمات تلك الخطبة في كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية بما يلي – بتصرف يسير -:
ففي قوله: “جعلنا من ذرية إبراهيم” خصه دون نوح؛ لأنه شرفهم وأسكنهم البيت الحرام، أما نوح وآدم فيشاركهم فيه جميع الناس. “وزرع إسماعيل” والد العرب الذين هم أشرف الناس، لا زرع إسحاق ولا مدين ولا غيرهما من ولد إبراهيم، أي: مزروعه، والمراد: ذريته، غايَرَ تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وأطلق عليها اسم الزرع لمشابهتها له في النضارة والبهجة أو لتسببه في تحصيلها بفعل الزرع من إلقاء الحب وفعل ما يحتاج لتحصيل الإنبات. “وضِئضِئ مَعَدّ” بكسر الضادين، وهو الأصل والمعدِن. “وعُنصر مُضَر” أي: أصل، وخص مَعَدّ ومُضَر لشرفهما وشهرتهما؛ أو لما ورد أنهما ماتا على ملة إبراهيم. “وجعلَنا حضنة بيته” أي: الكعبة.
“وسُوَّاس حرمه” أي: مدبريه القائمين به. “وجعل له بيتًا محجوجًا” أي: مقصودًا بالحج إليه. “وحرمًا آمنًا” لا يصيبنا فيه عدو؛ كما قال تعالى: )أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ( (القصص: ٥٧). “وجعلَنا الحكام على الناس” حُكْم معروف وطوع وانقياد لمكارم أخلاقهم وحسن معاملاتهم؛ لا حُكْم ملك وقهر. “ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا رجح به” زاد في رواية: شرفًا ونبلًا وفضلًا وعقلًا. “فإن كان في المال قُلّ” بضم القاف – وهو الشيء القليل -؛ “فإن المال ظل زائل” تشبيه بليغ، أي: كالظل سريع الزوال، “وأمر حائل” لا بقاء له لتحوله من شخص لآخر ومن صفة إلى أخرى؛ فمال زائل وحائل واحد، زاد في رواية: وعارية مسترجعة. “ومحمد ممن قد عرفتم قرابته” أي: ومحمد الذي قد عرفتم قرابته لهاشم وعبد المطلب والآباء والكرام، فالحسب أعظم من كثرة المال، “وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل” أعطى بسماحة “لها ما آجله وعاجله من مالي”، “كذا” هو ما يأتي عن الدولابي، ففي رواية: إن أبا طالب قال: وقد خطب إليكم راغبًا كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما حكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ذهبًا ونَشًّا. “النَشّ: نصف أوقية”.
وقال المحب الطبري في السمط الثمين في أزواج الأمين: أصدقها المصطفى عشرين بَكْرَة “البَكْرَة: الفتِيَّةُ من الإبل”.
ولا تضاد بين هذا وبين ما يقال: أبو طالب أصدقها؛ لجواز أنه o زاد في صداقها، فكان الكل صداقًا، وذكر الدولابي وغيره: أنه o أصدقها اثنتي عشرة أوقية من ذهب.
“وهو واللهِ بعد هذا” الذي قلته فيه “له نبأ” خبر “عظيم” لا تعلمونه، إشارة إلى ما شاهده من بركته عليه في أكله مع عياله، وما أخبر به بحيرا وغير ذلك، “وخطب جليل” شأن عظيم.
فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليّ يا معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار، ثم سكت، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا عليّ يا معاشر قريش أني قد أنكحت محمدًا بن عبد الله خديجة بنت خويلد.