الله تعالى يقول: إن أسلاف بني إسرائيل المعاصرين لموسى A سمعوا كلام الله كفاحًا مع كليمه عليه الصلاة والسلام، ولما أن رجعوا إلى قومهم حرفوه بالتغيير والتبديل بعد أن بلغه موسى عليه السلام لقومه، ولم يسلموا تسليمًا لكلام الله تعالى..
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
قدَّر اللهُ حرمان بني إسرائيل من السعادة
في تفسيره لقول الله تعالى: )أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (البقرة: 75) يبين الإمام أبو العزائم أن الله تعالى بعد أن ذكر أحداث بني إسرائيل مع كليمه عليه الصلاة والسلام، مما يدل على صبر الله تعالى وحلمه وواسع رحمته، بعد أن فعلوا ما فعلوا من الإنكار والشك وعبادة العجل، وغير ذلك؛ بيَّن I لحبيبه ومصطفاه J البيان الحق في شأن معاصريه عليه الصلاة والسلام، الذين كأنهم هم من كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام بحقيقتهم ومعناهم.
لأن ما بينه الله تعالى على لسان نبيه J من أكبر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكيف لا؟!، وهو غامض أسرار التوراة، وصحيح ما ورد فيها مما لا يعلمه إلا حبر راسخ في العلم، ورسول الله J نشأ بين جاهلية عمياء وضلالة صماء، لا علم لهم بتاريخ أنفسهم.
وثبت أنه J مضى شبابه في شغل لعمه أبي طالب، ولم يخرج من مكة إلا مع عمه أبي طالب، وفي تجارة للسيدة خديجة 1 مع عناء السفر.
وتلك المعجزة كانت تكفي أن تجعل بني إسرائيل الذين هم أهل كتاب يلبون دعوته J، ولكن الله قدر حرمانهم من السعادة في الدنيا والآخرة.
بنو إسرائيل لا يزالون خَلَفًا بعد سَلَف على الإنكار
فقوله: )أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ( الهمزة هنا للإنكار لشدة وضوح الحجة التي تأخذ بمجامع القلوب؛ لأن الواقع أن اليهود كان يجب عليهم أن يصدقوا رسول الله J فيما قامت عليه الحجة، إذ إن الحقيقة واجهت اليهود بجلي البيان، وحكم عليهم الأمر الواقع؛ فأبوا وقوعه، وكم من أمم خالفوا رسلهم عليهم الصلاة والسلام بعد وضوح الحجة، وتركوا وقوع الأمر الذي أيده الواقع.
وهنا يخاطب الله تعالى رسوله والمؤمنين من أصحابه مبينًا لهم أن بني إسرائيل المعاصرين لكم الذين هم خَلَف من آذوا أنبياء الله ورسله وكذبوهم لا يزالون خَلَفًا بعد سَلَف على الإنكار، فلا طمع في إيمانهم بالله تعالى ورسوله J كما آمنتم بدليل قوله تعالى: )وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(.
والمعنى أن الله تعالى يقول: إن أسلاف بني إسرائيل المعاصرين لموسى A سمعوا كلام الله كفاحًا مع كليمه عليه الصلاة والسلام، ولما أن رجعوا إلى قومهم حرفوه بالتغيير والتبديل بعد أن بلغه موسى عليه السلام لقومه، ولم يسلموا تسليمًا لكلام الله تعالى.
فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم أنتم يا أصحاب محمد J بعد أن حرفوا ما سمعوه من الله تعالى بالبيان الفصيح الذي يعقله الجاهل؟، فلا طمع في إيمانهم لكم أنتم بكلامكم إياهم.
وهذا المعنى هو المناسب؛ لأن الله تعالى يقول: )وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ( ولم يقل: يسمعون كتاب الله.
وإن شرح بعض العلماء تلك الآية بأنهم سمعوا التوراة من علمائهم فحرفوها، أو أن علماءهم الذين غيروا معالم التوراة طمعًا في نيل ما يضر يوم القيامة، أو بأنهم سمعوا كلام الله من رسوله محمد J قبل الحادثة وحرفوه، وكل ذلك جائز.
لأن صريح اللفظ يدل على أن الكلام فيمن اختارهم موسى A ليسألوا الله التوبة على من عبدوا العجل، فطلبوا سماع كلام الله تعالى، فسأل موسى A ربه، فأسمعهم I، فحصل منهم ما ذكرت لك بعد رجوعهم.
إذا انحط الخاصة؛ فالعامة أفظع وأشنع
وعن أبي بكر الرازي: تدل الآية على أن العَالِم المعانِد فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن قوله تعالى: )أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ( يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به.
وعند ابن عاشور: أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم؛ فكيف ظنكم بصفات دهمائهم؟.
لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها، فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغًا شنيعًا؛ فاعلم أن العامة أفظع وأشنع، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن؛ لأنهم – وإن كان فيهم علماء – إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
وعند الزمخشري في قوله تعالى: )مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ(: من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون مفترون.
اليهود أصيبوا بعلة لا دواء لها
وفي تفسير الشيخ العقاد لقوله تعالى: )أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ(: يبين أنه استفهام إنكاري، بمعنى النفي؛ يعني: لا تطمعوا يا معشر المؤمنين في إيمان اليهود؛ مهما بينتم لهم الحجج؛ ولاطفتموهم في الكلام؛ وواسيتموهم بدوام المودة في الأخلاق والأموال؛ فإنهم أصيبوا بعلة لا دواء لها.
وكيف يؤمنون لكم )وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ( يعني يتلقونه من الكليم ويكتمونه ويحفظونه.
)ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ( يعني يغيرون فيه ما يخالف أغراضهم ويعارض حظهم؛ وذلك مثل نعت المصطفى J فإنه موصوف في التوراة، فغيروه وأخفوا جميع صفاته بصفات تغايرها.
وهذا دليل على جرأة اليهود على الله، وعلى أن التوراة تبدلت وتحرفت فلا يجوز لنا أن نؤمن بصحتها.
قوله: )وَهُمْ يَعْلَمُونَ( يعني يفهمون ويتأكدون أنهم كاذبون ضالون يتجرؤون على كتاب الله ويغيرونه زورًا وبهتانًا.
اليهود سجل عليهم القضاء باللعنة والبعد عن الحق وأهله
وفي سياق تفسير الإمام أبي العزائم يبين أنه الله تعالى يخبرنا عن شرور اليهود من أول وجودهم إلى آخره، وقد كتبت عليهم الذلة والمسكنة وفرقهم أيدي سبأ، أعاذنا الله منهم ومن شرورهم، وجَدَّد مجد الإسلام وجمع اللهُ المسلمين وأهلك أعداء الحق؛ أو هداهم للإسلام إنه على كل شيء قدير.
وما قولك فيمن سمع كلام الله بَيِّنا ويعلمه مفصَّلا ثم يُحَرِّفه؛ إلا أن هؤلاء سجل عليهم القضاء باللعنة والبعد عن الحق وأهله.
ولكن الواجب على العلماء أن يهدوا الناس هداية البيان، وعلى الله هداية الإحسان.
ندعوهم للإيمان لإقامة الحجة عليهم
وعن ابن عاشور: إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان؛ لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم؛ وفي الآخرة أيضًا.
ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسًا نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانهم حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم، أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم..