اليهود يرون خطيئتهم بعبادة العجل تجعل الله تعالى لا يطيق حرارة غضبه عليهم إلا بأن يحبسهم في النار أربعين يومًا، وهذا التأويل – مع بعده عن الحقيقة واستحالته من حيث الحكم على الله تعالى -؛ فإن العقل يحكم على قائليه بالجهالة العظمى بأنفسهم وبربهم..
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
اليهود كذبوا على الله وتهجموا على الغيب
في تفسير الإمام أبي العزائم لقول الله تعالى: )وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( (البقرة: 80)، بيّن أن الواو في قوله تعالى: )وَقَالُواْ(؛ ضمير الجمع يعود على من شنع الله عليهم في الآيات السابقة، وتلك الآية تبين الظلم الثالث لأنفسهم المبين من أول قوله تعالى: )أَفَتَطْمَعُونَ( (البقرة: 75).
وخبر الله تعالى عنهم بقوله: )لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً( حجة على جهلهم بأنفسهم؛ لأن الشريعة دلت على أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار ما لم يتب؛ فيقبل الله توبته أو يعفو عنه.
والعقل السليم يحكم على الخاطئين بالعذاب الدائم؛ إلا إذا عفا الله عنهم.
وقولهم: )لَن تَمَسَّنَا النَّارُ( بلفظ: (لَن) التي تفيد النفي مؤبدًا حكم باطل لا دليل عليه نقلًا ولا عقلًا.
ويبيِّن الشيخ العقاد في تفسيره لهذه الآية أن اليهود كذبوا على الله وتهجموا على الغيب، وأعلنوا ذلك وأسمعوه للناس وهو محض افتراء وتضليل، وذلك أنهم قالوا: إن الله تعالى لا يدخلنا النار إلا مدة أربعين يومًا – وهي الزمن الذي عبد فيه آباؤهم العجل -.
فردَّ عليهم الحق بقوله: قل لهم يا محمد: )أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا(، يعني: أين حجتكم على ذلك؟، هل أعطاكم الله عهدًا بذلك؟.
والعهد هو الخبر الصادق من الحق Y بأن يمنحهم أن يدفع عنهم، والله تعالى لا يخلف وعده ولا ينقض عهده.
)أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ( يعني كلامكم هذا صادر عن جهل؛ لأن الله تعالى لم يخبركم بذلك على لسان نبيه، ولم يطلعكم على لوحه المحفوظ أو في أم الكتاب من أسرار القدر.
بهتان اليهود دون باطل النصارى
ويبين الإمام أن هذا الحكم منهم أخذوه بالقياس؛ لأنهم عبدوا العجل أربعين يومًا، فحكموا أن الله يعذبهم أربعين يومًا في النار.
ومنهم من حكم أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، ثم حكم على الله أنه يعذبهم عن كل ألف سنة يومًا.
وهذا الضلال جرَّ بذيله من أحبار اليهود إلى رهبان النصارى، وإن كان بهتان اليهود دون باطل النصارى.
فاليهود يرون خطيئتهم بعبادة العجل تجعل الله تعالى لا يطيق حرارة غضبه عليهم إلا بأن يحبسهم في النار أربعين يومًا، وهذا التأويل – مع بعده عن الحقيقة واستحالته من حيث الحكم على الله تعالى -؛ فإن العقل يحكم على قائليه بالجهالة العظمى بأنفسهم وبربهم.
ولكن المسألة الشبيهة بها التي تكاد تكون مأخوذة منها لتشابه النفوس؛ فإنها قول النصارى: إن الله عجز عن أن يغفر لآدم خطيئته لضعفه عن العفو عنها، فأراد أن يفدي العالم بقتل ولده البار الذي ولدته مريم!!!.
وإنَّا وإن كنا نرفع العقل الإسلامي السليم من الهوى والعلة عن أن يسلم بقول اليهود؛ فإنا نرى أنه من المستحيل على العقل السليم أن يسلم بأن الله عجز عن قبول توبة آدم، وظلم الخلق بأن جعل خطيئة آدم تحيط بكل بنيه، ثم ندم واحتال على خلاص العالم من الخطيئة، فولد ولدًا ولدته له فتاة إسرائيلية، وقدَّر عليه الخزي والذل والصغار والصلب، وقدَّر على أمه فقده والهمّ الطويل عليه – كما يقولون في كتبهم -.
أعوذ بالله ممن أعماهم الطمع والهوى، فكتبوا بأيديهم ما أملاه عليهم الطمع والجشع، ثم قالوا هذا من عند الله )لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ( (البقرة: 79).
معنى العهد بالنسبة لله تعالى
اليهود حكموا على أنفسهم بأن النار تمسهم؛ أي: تتصل بأجسامهم أيامًا معدودة؛ أربعين يومًا بعدد عبادة العجل، ولو لم يكن في هذا من الضلال إلا حكمهم على الله تعالى بما لم يأت به أثر من علم ولا حجة من عقل لكفاهم شرًّا.
ثم خاطب الله حبيبه محمدًا o أن ينكر عليهم قولهم هذا بالحجة بقوله سبحانه: )قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا( (البقرة: 80).
ومعنى العهد بالنسبة لله مطلق وعد منه، فإن الوعد منه سبحانه فوق العهد منا المؤيد بالمواثيق والأيمان والنذور، والله سبحانه يكذبهم؛ لأنه لم يعدهم أنه يدخلهم النار ثم يخرجهم منها بعد كفرهم وكذبهم عليه سبحانه وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام.
وخلودهم في النار هو العدل الذي يليق بعظمة الرب العليِّ المتعال.
وإن كان العقل يسلم أن الله تعالى قد يخلف وعيده؛ لأن ذلك من الكرم الذي يليق به، ولا يخلف وعده Y.
حكم من الله على اليهود أنهم أهل فرية وبهتان
وفي قوله تعالى: )أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ( (البقرة: 80) (أَمْ) هنا تكون للمعادلة، والمعنى أن الله تعالى يقول لليهود قولهم إن النار لن تمسكم إلا أيام معدودة؛ إما أن يكون صدقًا بوعد وعدكموه الله، فإن كان كذلك فلن يخلف الله وعده، أم يكون بغير وعد من الله تعالى فتكونون قلتم على الله ما لا تعلمون، فتكون الآية معادلة للآية بعد (أَمْ).
والحقيقة أن (أَمْ) وما بعدها حكم عليهم من الله تعالى بأنهم أهل فرية وبهتان، يكذبون على الله تعالى بما ليس لهم به سلطان.
وفي تفسير الألوسي أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية: هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟.
الغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين الحفظ وعدم الإصرار
ومن إشارة لابن عجيبة: اعلم أن كثيرًا من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار.
وهذا غلط وغرور، وقد قال – عليه الصلاة والسلام – للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له: (أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود).
نعم، هذا المقالة إن صدرت من وليٍّ متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه ائتمر بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله ببركة أوليائه؛ أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل؛ ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين: الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث: (إذَا أحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ يضرّه ذَنْب)، يعني: يُلهَم التوبة سريعًا، كما قيل لأهل بدر: (افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتُ لَكُم) …
إلى أن يقول: ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء؛ لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر. وبالله التوفيق.