الحكمة الخامسة والسبعون بعد المائة
ليستِ المعيةُ معيَّةَّ الأشبَاحِ، إنما المَعيةُ: معيةُ القلوبِ والأروَاحِ.
الأستاذ سميح محمود قنديل
أولًا: المعنى اللغوي: المعية نسبة إلى لفظ: (مع)، وهو لفظ يقتضي الاجتماع في المكان، أو الزمان، أو الشرف أو الرتبة، كما يقتضي النصرة، ومعناه الصحبة والمصاحبة، وضم الشيء إلى الشيء واجتماع شيئين.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي: تستعمل: (مع) للمصاحبة بين أمرين، لا يقع بينهما مصاحبةٌ واشتراكٌ إلا في حكمٍ يجمع بينهما، ولذلك لا تكون الواو التي بمعنى: (مع) إلا بعد فعلٍ لفظًا أو تقديرًا لتصح المعية، وكمال معنى المعية الاجتماع في الأمر، الذي به الاشتراك دون زمانه.
وصفة المعية من الصفات الثابتة لله في الكتاب والسنة، بأن الله معنا حقيقة كما يليق بجلاله: )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( (الشورى: 11)، مع إثبات علو الله سبحانه، واستوائه علي العرش استواء يليق بجلاله، وعلى هذا فإن: (مع) لا تقتضي في اللغة اختلاطًا ولا امتزاجًا ولا اتصالًا، كما زعمه البعض، بل هي لمطلق المصاحبة والمقارنة، ألا ترى أن القمر يكون مع المسافر وغيره وهو عال بعيد، لا يخالط الناس ولا يمازجهم.
المعِية فى كتاب اللهِ U
جاءت معية الله في القرآن على ثلاث وجوه:
الأول: العلم والإحاطة: ومنه قوله تعالى: )يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ(، يعني: عالم بهم ومحيط بفعلهم.
الثاني: النصر والحفظ والرعاية: ومنه قوله تعالى: )لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا(، يعني: ينصرنا ويحفظنا ويرعانا.
الثالث: الاقتران: ومنه قوله تعالى: )فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ(.
والمعية لها دلالتان: معية بالذات ومعية بالصفات، ومعية الله تعالى لعباده المقصودة معية بالصفات لإجماع المسلمين سلفًا وخلفًا، على أن معية الذات غير مرادة، وإنما المراد معيته تعالى بصفاته اللائقة بمعنى المعية، كالعلم والحفظ والنصرة ونحوها.
وهناك أنواع لمعية الله لعباده، فالراصد لآيات القرآن الكريم في المعية يجد أنها تدور حول قطبين أساسين أو محورين رئيسين: معية عامة لعموم الخلق، ومعية خاصة يتميز بها بعض عباد الله تعالى بشروط محددة، مقرونة بصفات مبينة، ويمكننا أن نتتبع هذين النوعين على النحو الآتي:
المعية العامة: تكون لعموم الخلق، وهي بالرزق والعلم والتدبير مما يليق به تعالى ويصلح للخلق عامة، وقد وردت آيات كريمة تؤكد هذا المعنى، ومنها قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(، وقال تعالى: )وهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُم(.
المعية الخاصة: وإذا كنا قد عرفنا المعية العامة التي تعني العلم والإحاطة، والرزق والتدبير والرعاية، فإن هناك معية أخرى خاصة يمنحها الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين استجمعوا صفات يحبها الله ويدعوهم إليها، وهي عندئذ تعني النصر، والمعونة، والتأييد، والرعاية، والرحمة، والعناية، أو رفع الدرجات أو تكفير السيئات، أو الإكرام في الحياة، ونحو ذلك مما يستحقه المؤمنون الصالحون، ويتنوع ورود هذا اللون من المعية في القرآن الكريم، ويضاف إلى هؤلاء المكرمين المُنعَم عليهم بهذه المعية الخاصة أصناف أخرى، منها:
1- معيته تعالى للأنبياء D: ومنه قوله تعالى: لموسى وهارون C:
)قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(، والآيات فى معية الله تعالى للرسل والأنبياء والأصفياء كثيرة لا تحصى.
2- معيته تعالى للملائكة: والمعية هنا معية الإعانة والنصر والتثبيت والتأييد، كما قال تعالى: )إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا( أي: معينكم وناصركم، (فثبتوا) يعني: بشروا المؤمنين بالنصرة، فكان المَلَك يمشي أمام الصف فيقول: أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل، والله تعالى ناصركم.
3- معيته تعالى لعباده المؤمنين: وقد وردت آيات القرآن الكريم تبين معية الله تعالى الخاصة لعباده المؤمنين، الذين لهم صفات تؤهلهم لهذه المعية، مثل الصبر والإحسان والتقوى، ونحو ذلك من صفات تعينهم على أن يكونوا أهلًا لمعية الملك سبحانه، فهو سبحانه مع الصابرين والمحسنين والمتقين وغيرهم بمعية خاصة.
المعِية المُحرَّمة
وتكون فى حق المشركين، الذين يدعون أن مع الله إلهًا آخر ويشهدون بذلك، كما ورد فى قوله تعالى: )أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّآ أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ( والمعنى: يقول تعالى لنبيه محمد J: قل لهؤلاء المشركين الجاحدين نبوتك، العادلين بالله، ربًّا غيره، أتشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام؟، بل أجحد ذلك وأنكره، فإنما هو معبود واحد، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة.
وتكون المعية محرمة في حق الظالمين والمعاندين، وتقع دائمًا بعد نهي عنها، وأمر بمفارقة أصحابها وعدم شهود مجالسهم، ومنه قوله تعالى: )وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِۦ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ(، وهؤلاء المراد بهم المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء، كما منعه الله تعالى من شهودهم ومخالطتهم عقوبة لهم بالحرمان، وإبعادًا لهم عن أسباب التوفيق.
والمعية يترتب عليها آثار كثيرة لمن أكرمهم الله بها منها ما يأتي:
أولًا: المراقبة: فالمراقبة من أهم آثار المعية، سواء كانت المراقبة من قِبل العبد لربه، أم من الله تعالى لعبده، وإن كان الأغلب فيها مراقبة العبد لربه، والمقصود من المراقبة: استدامة علم العبد باطلاع الرب عليه في جميع أحواله.
ثانيًا: النصر والتأييد: ومن آثار المعية، نصر الله تعالى لعبده الذي يكون في معيته، وتأييده له، وقد نصت آيات القرآن الكريم على هذا الأثر من آثار المعية النصر والتأييد.
ثالثًا: التوفيق والمحبة: والدلالة على سبل الرشاد، وطرق الهداية، وتلك لها مقدماتها التي تفضي إلى نتائجها، وأسبابها التي تعين على الوصول إليها، وقد قال تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(.
رابعًا: الحفظ والرعاية: ومن ثمرات المعية كذلك، حفظ الله ورعايته لمن كان في معيته.
وفى الحكمة يبين الإمام 0 أن المعية الحقيقية التى فيها المراقبة والنصر والتأييد، والتوفيق والمحبة، والحفظ والرعاية، لا تكون بالأشباح وهى الأجسام؛ لأن الأجسام تجتمع فى مناسبات كثيرة، فيها الخير والشر والحق والباطل، قال تعالى: )تَحۡسَبُهُمۡ جَمِیعا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡم لَّا یَعۡقِلُونَ(، ولكن المعية الحقيقة – بالمعانى السابقة – لا تكون إلا بالقلوب والأرواح، فإذا ائتلفت القلوب، كانت فى معية المحبوب، أما الأرواح فهى جنود مجندة، ما تعارف منها كان فى المعية بمعناها المطلق، وما تناكر منها بعد عن المعية الحقية واختلف.