أخبار عاجلة

قيام الساعة ليس هو يوم القيامة!!

الساعة تقوم على أحياء فتميتهم ويدفنون تحت ثرى الأرض وتعني زوال الدنيا وفناءها، بينما تكون القيامة على أموات فتحييهم، وتتشقق الأرض عن أجسادهم فيخرجون منها…

الدكتور عبدالحليم العزمي

الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية

قيام الساعة ليس هو يوم القيامة!!

قد يخطئ البعض عند الاعتقاد بأن “الساعة” هي “يوم القيامة”، فالساعة ليست هي يوم القيامة بل هي زمن لتلك الأحداث الجسام والأهوال التي تسبق يوم القيامة بمراحل وكما وصفها لنا ربنا U: )يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( (الحج: 2)، وما بين الساعة ويوم القيامة فترة لا يعلمها إلا عالم الغيب والشهادة تنتهي عندها الحياة التي نعرفها، ويتوقف بها الزمن الذي نعرفه.

فالساعة هي آخر وقت في عمر الدنيا وأمر قيامها يأتي بغتة، وما بينها وبين يوم القيامة أحداث كونية خارقه عصية على فهمنا وفهم عقولنا. منها: أن تُطوى السماء كطي السجل للكتب كما جاء في قوله U: )يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ( (الأنبياء: 104)، ومنها: أن تبدل الأرض والسماوات بغيرها مصداقًا لقوله سبحانه: )يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ( (إبراهيم: 47).

أما ” يوم القيامة ” فهو أول يوم من أيام الآخرة، وهو يوم استقرار على أرض جديدة، وهو زمنيًّا ليس كأيامنا، والساعة تقوم على أحياء فتُميتهم ويُدفنون تحت ثرى الأرض، وتعني زوال الدنيا وفناءها، بينما تكون القيامة على أموات فتحييهم، وتتشقق الأرض عن أجسادهم فيخرجون منها وينبتون كما ينبت البقل، فهو يوم يقوم فيه الناس من مرقدهم لرب العالمين، وبالقيامة هنالك مكونات وعناصر ليست من مكونات وعناصر ما تقوم عليه الساعة، مثل: الحساب، والجنَّة، والنَّار، والميزان، والكتب وما إلى ذلك.

سميت الساعة بتسميات عديدة في القرآن الكريم فهي “الساعة”، و”القارعة”، و”الصاخة” (صَيْحة شديدة تُصِمّ الأُذُن لشدَّتها) كما جاء بقوله I: )فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ( (عبس: 33)، و”الواقعة” كما وردَ في قوله تعالى: )إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ( (الواقعة: 1)، وسميت بـ”الآزفة” (كلُّ شيء اقْتَرَبَ، فقد أَزِفَ أَزَفًا أَي دَنا وأَفِدَ) كما جاء في قوله U: )أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ( (النجم:57-58).

وسميت كذلك “بيوم التناد”، أي إنّه يوم إطلاق النداءات وهذا ما يحصل عادةً عند الكوارث الكبرى الفجائية، قال تعالى: )وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ( (غافر:32-33).

أما يوم القيامة فلقد ورد أيضًا بتسميات عديدة ومنها ” يوم الخروج “، كما جاء في قوله تعالى: )يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ( (ق: 42). وجاء كذلك بلفظة “يوم الفصل”: )إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ( (الدخان: 40). وجاء بلفظة “يوم الدين” حيثُ قال الله تعالى: )وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ( (الانفطار: 14-15).

وجاءت كذلك بلفظة “يوم الحساب” و”يوم الجمع” و”يوم الخلود” أي إنّه اليوم الذي يخلد فيه الناس في النار أو في الجنة، كما جاء في قوله تعالى: )ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ( (ق: 34). وهي أيضًا “يوم التلاقي” و”يوم الوعيد”، كما قال تعالى: )وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ( (ق: 20).

وسمي كذلك بـ” يوم التغابن”، أي إنّه يوم شعور أهل النار بالخسران لما فاتهم، يقول الله عز وجل: )يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ( (التغابن: 9).

ولقد جمع الله سبحانه وتعالى أحداث الساعة والقيامة في القرآن الكريم في سورتين، فقد جمعها في سورة التكوير، وجمعها أيضًا في سورة الانفطار، لبيان تلاصق العهدين وصيرورة الأمر كله لله سبحانه.

أولاً: الساعة

ذكرت لفظة الساعة في القرآن الكريم ثماني وأربعين مرة، ثمانٍ منها لقياس الزمن الدنيوي في مثل قوله تعالى: )وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ( (الأعراف: 34). وقوله تعالى: )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ..( (التوبة: 117). وأربعون أخرى في المعنى القريب من معنى (القيامة) في مثل قوله تعالى: )بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ( (القمر: 46). وقوله تعالى: )وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ..( (الجاثية: 32).

والملحوظة الأولى: أن المرات الثماني التي وردت فيها الكلمة لتدل على زمن دنيوي قد وردت جميعًا غير معرفة بأل التعريف (ساعة)، لتدل على وقت يختلف من مرة لأخرى. بينما المرات الأربعون التي حملت المعنى الآخر القريب من معنى (القيامة) قد وردت جميعها معرفة بأل التعريف (الساعة) لتدل على زمن واحد مشترك في جميع المرات الأربعين التي وردت فيها.

والملحوظة الثانية الجديرة بالاعتبار: أن المعنى الثاني القريب من معنى (القيامة) قد ترافق معه ذكر معنى المباغتة (البغتة) في ستة مواضع في مثل قوله تعالى: )فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً..( (محمد: 18)، وقوله تعالى: )قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا..( (الأنعام: 31).

والملحوظة الثالثة: أن المرات الأربعين قد ورد في خمس منها معنى سرعة حدوثها (كلمح البصر، قريب، قريبًا، أقرب) في مثل قوله تعالى: )وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (النحل: 77). وقوله تعالى: )يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا( (الأحزاب: 63).

والملحوظة الرابعة: أن ذكر الساعة قد ورد أربع مرات كبديل لعذاب الدنيا، في مثل قوله تعالى: )قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (الأنعام: 40). وقوله تعالى: )أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ( (يوسف: 107). وقوله تعالى: ).. حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ..( (مريم: 75).

والملحوظة الخامسة: أن ذكر الساعة قد ورد أربع مرات مترافقًا مع التأكيد على أنها (لا ريب فيها)، في مثل قوله تعالى: )وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا..( (الكهف: 21). وقوله تعالى: )وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ( (الحج: 7).

والملحوظة السادسة والأخيرة: أن ذكر الساعة قد ورد سبع مرات مترافقًا مع تعبير العلم بها (علم الساعة)، في مثل قوله تعالى: )وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ( (الزخرف: 61). وقوله تعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي..( (الأعراف: 187). وقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..( (لقمان: 34).

وبالعودة إلى الملاحظات الست السابقة التي استخرجناها من الآيات الكريمة التي تتحدث عن الساعة نجدها كما يلي:

1- الساعة اسمها مشتق من وحدة قياس زمنية.

2- الساعة تأتي الكفار في أي عصر بغتة.

3- الساعة مترافقة مع السرعة فهي كلمح البصر أو أقرب.

4- الساعة بالنسبة الى الكفار بديلة لعذاب الدنيا، فإما العذاب وإما الساعة.

5- الساعة لا ريب فيها.

6- الساعة لها علم خاص بها لا يعلم تفصيلاته إلا الله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ( (لقمان: 34).

وبتأمل البنود الستة السابقة نجد أن كون (الساعة) مشتقة من وحدة قياس الزمن فإشارة علمية قرآنية إلى نسبية الزمن؛ لأن الآيات تحدثت عن أن الساعة تأتي الكافرين بغتة، وحين تأتي فهي سريعة كلمح البصر أو هي أقرب، ثم إنها بديلة لعذاب الدنيا يتوعد الله تعالى بها الكافرين في أي عصر، ويقول: إما أن يأتيهم العذاب في الدنيا قبل الساعة، وإما أن تأتيهم الساعة أولًا ثم يأتيهم عذاب الآخرة بعد الساعة، مما يشير الى أن الساعة تأتي في أي عصر وفي أي وقت، وهي حتمية الحدوث، وأما تفصيل حدوثها وطريقة حدوثها فعلم ذلك عند الله تعالى )إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..( (لقمان: 34)، ولكننا نلاحظ أن الساعة ذكرت مرتين في حادثتين متشابهتين، الأولى في شأن سيدنا عيسى A: )وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ( (الزخرف: 61)، ونحن نعلم أن سيدنا عيسى لم يمت حتى الآن ولكن لا بد من يوم يموت فيه كما قال الله تعالى على لسانه: )والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا( (مريم: 33). إذًا فوجوده في السماء مرفوعًا حيًّا وليس ميتًا ثم رجوعه إلى الأرض مرة أخرى فيه علم للساعة.

والثانية في شأن أصحاب الكهف الذين ناموا 309 سنين قمرية ثم بعثهم الله تعالى من نومهم كما تقول الآية الكريمة: )وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا..( (الكهف: 21). ووجه الشبه في الحادثتين هو غياب أناس (عيسى وأصحاب الكهف) عن الدنيا لسنوات عديدة وهم أحياء ثم رجوعهم إلى الدنيا مرة أخرى وهم موقنون بالساعة وقد أصبح عندهم علم بها.

أشراط الساعة

وللساعة أشراط أي علامات حيث يقول تعالى: )فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ( (محمد: 18)؛ فدل ذلك على أن للساعة أشراط: منها ما جاء، ومنها ما سيأتي. وتدل الآية أيضًا على أن الساعة تقوم فجأة، ولا يتلمظ متلمظ فيتصور بأن الأشراط تخالف الفُجاءة، فذلك من غير المقبول في السوية الفكرية، فالأشراط تقع في أجيال تنسى بعضها ما حدث للجيل الذي سبقه، والنسيان من طباع بني آدم، لذلك فالساعة تكون بغتة، حيث يقول تعالى: )فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( (الأنعام: 44)؛ ويقول جل جلاله: )هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ( (الزخرف: 66)؛ فالنسيان وعدم الشعور هو ما يغلب علينا في أمر الساعة، والبغتة في قيام الساعة تعني وجود شعور وإدراك بما يعني قيامها على أحياء، لكن القيامة تكون على الأموات فلا يهم فيها الفجاءة، ولا بغتة تبغت الموتى، فأعمال الساعة لن يشهدها من سبق لهم الموت قبلها.

وأشراط الساعة ذكرها الله في كتابه ونبَّهت عليها السُّنن العملية والقولية لرسول الله، فبعثته J من أشراط الساعة التي جاءت دون أن ندري، أو لعل بعضنا أخذته الدراية ثم نسينا وذريتنا تلك العلامة الفارقة، حيث يقول تعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا( (النازعات: 42- 46).

ولعل الفقهاء قسَّموا أشراط الساعة إلى كبرى وصغرى، لكن ما يهمني دراسته هي تلك الواردة بكتاب الله فلا ينازع فيها منازع، فقد قال تعالى: )حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ( (الأنبياء: 96- 97) فدلت تلكم الآيتين عن أن فتح يأجوج ومأجوج من بين الأشراط لقوله تعالى بعدها: )وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ( فالوعد الحق هو فتح ردم يأجوج ومأجوج وخروج ذراريهم إلى كل الدنيا فسادًا وقتلًا وتخريبًا كما جاء بالسنة النبوية المطهرة، إيذانًا بزوال الدنيا ثم حساب يوم القيامة.

ويقول تعالى: )وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ( (النمل: 82)؛ فخروج الدابة التي تكلم الناس على غير المعهود، أمر من أشراط الساعة، ولن تخرج تلك الدابة من رحم أمها لكن تخرج من رحم الأرض.

وقوله تعالى: )إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ( (التكوير: 1)؛ فلا تزال شمسنا غير مستديرة حتى الآن؛ وذلك لاستمرار خروج حممها البركانية المستمر من كل جهة منها بما يمنع استدارتها لأية لحظة حتى الآن، لكن إن هدأت تلك الحمم فستبرز استدارة الشمس وذلك من العلامات، وهي غير واقعة جمع الشمس والقمر )وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ( (القيامة: 9)؛ وتكور الشمس بداية لانكدارها كنجم متلألئ الآن بالسماء.

ويقول تعالى: )وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ( (التكوير: 2)؛ أي أنها ستنطفئ، يعقب ذلك عصر بارد مظلم على الكرة الأرضية ولا يعلم إلا الله الزمن الذي يستغرقه ذلك العصر.

ويقول جل في علاه: )وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ( (التكوير: 6)؛ وهو ما يعني خروج الحمم البركانية من باطن البحر إلى السطح؛ ويكون أيضًا بفصل ذرات وجزيئات الماء إلى أيدروجين مشتعل وأوكسجين يساعد على الاشتعال، فيشتعل 71% من الكرة الأرضية؛ لأن 71% نسبة ماء البحار و29% نسبة اليابسة.

ويقول جل جلاله: )وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ( (الانفطار: 2)؛ أي ستخرج الكواكب من منظومتها الدورانية حول نفسها وحول بعضها لاختلال أنظمة الجذب فتكثر ارتطاماتها ببعضها، وبالتالي تدميرها.

ويقول تعالى: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا( (طه: 105)؛ ونسف الجبال يعني أن تميد الأرض كما كانت قبل خلق الله للجبال ووضعها في أماكنها كأوتاد للأرض.

ومن الجدير بالبيان أن كل ما سبق ذكره من أحداث الساعة والذي سيستغرق زمنًا يعد بالأحقاب، فإن ما يهمني ذكره هو آية بعثة سيدنا ومولانا محمد J للناس، فهي من أشراط الساعة الصغرى، كذلك خروج يأجوج ومأجوج، فالآيتين مجرد اقتراب، أما الأشراط الكبرى فإن قيام أحدها لا ينفع معه إيمان، حيث يقول تعالى: )هَلْ يَنظُرُونَ إِلًّا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ( (الأنعام: 158)؛ لذلك فإن قيام بعض تلك العلامات الكبرى لا ينفع بعدها إيمان من عاصروا بزوغ تلك العلامة، وتلك العلامات والآيات تحدث فجأة، لذلك فإني أجد أن بعثة رسول الله للناس جميعًا هو من بين الإنذارات الأخيرة من السماء لأهل الأرض، لكن لا يمنع أن يتوالد هؤلاء الذين لم يؤمنوا قبل قيام الأشراط الكبرى للساعة، فما مصير ذراريهم؟.

فحين يقول الله تعالى: )قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاء مَا يَزِرُونَ( (الأنعام: 31)؛ إنما يعني أن من بغتته الساعة لن يستطيع التوبة، فلقد التصق به عمله السيئ أو كفره إلى يوم القيامة.

ومن بديع البيان القرءاني أن الله تعالى قال: )مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً( (الإسراء: 15)؛ وحيث إنه سيكون بالأرض بعض ممن مسَّتهم رحمات الهداية فهؤلاء يكونوا رسل الله لتلك الذراري من أبناء من حق عليهم العذاب، وقد يموت هؤلاء الأبناء دون أن يلتقوا بمن يذكرهم بالله؛ لذلك فإن الله سيبتليهم بالاختبار يوم القيامة فما يُدخل اللهُ أحدًا النار؛ إلا بعد أن تقوم عليه الحجة والبيان.

ثانيًا: القيامة

اشتقت كلمة (القيامة) من قام يقوم قيامًا وقـُوامةً فهو قائم، والقائم ضد القاعد، وقام على الشيء أي رعاه وصانه وحافظ على صلاحه، فهو قيّم، وربما سمي الرجال (قومًا)؛ لأنهم مناط رعاية أسرهم وأبنائهم ومجتمعاتهم والحفاظ على صلاحها وتقويم اعوجاجها، أو لأنهم بلغوا من السن مرحلة جعلتهم يتجاوزون طيش الشباب واعوجاجه ولعبه ولهوه ويعمدون إلى الاستقامة في سلوكهم، والاستقامة والقيامة ضد العِوج.

قال تعالى: )الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ..( (الكهف:1- 2).

ولما كانت الدنيا في معظمها لعبًا ولهوًا وتفاخرًا وتنافسًا وظلمًا وانحرافًا واعوجاجًا، فسوف يأتي يومُ (القيامة) لتقويم وتصحيح كل ذلك في محكمة عظيمة، القاضي فيها هو الله تعالى: ).. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..( (الجاثية: 17). يقضي سبحانه بين كل ظالم ومظلوم ويفصل في كل خلاف بين المختلفين ).. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..( (الحج: 17)، )اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( (الحج: 69). ويؤتى بالشهود من كل أمة فيشهدون )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا( (النساء: 41)، حتى أن السمع والأبصار والجلود لتشهد على أصحابها بما كانوا يعملون )وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ..( (فصلت: 22). )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( (يس: 65).

ثم يجزي الله تعالى المؤمنين بجنات الخلد، ويعاقب الكافرين والظالمين بالنار، ويحل العدل وتستقيم الأمور بعد طول اعوجاج في الدنيا.

وإذًا فالقيامة تعني تقويم الاعوجاج من خلال الصورة التي ذكرناها. ولكن يظل سؤال: هل ينتهي يوم القيامة بدخول المؤمنين الجنة والكافرين النار؟ لا، فيوم القيامة يوم لا نهائي؛ لأن الحياة الآخرة لا تخضع للزمن كالدنيا، فهناك ينتهي الزمن فلا يتأثر أحد به، فالناس لا تشيخ وليس هناك موت.

وقد ذكرت لنا الآيات القرآنية الكريمة تعبير (يوم القيامة) سبعين مرة، بعضها يشير إلى نهاية زمن الدنيا وذلك في جميع الآيات التي فيها تعبير (إلى يوم القيامة) في مثل )..وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ..( (آل عمران: 55).

ولكن ليس في بعضها ما يشير إلى نهاية لذلك اليوم، بل إن بعضها يذكر أن المشركين يعذبون في النار في ذلك اليوم ويخلدون فيها، في مثل )يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا( (الفرقان: 69). ومثل ).. وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ( (الحج: 9). وحيث إن المشركين مخلدون في النار يوم القيامة؛ فهذا يعني أن يوم القيامة نفسه يوم خلودِ لا نهاية له.

كيفية البعث

يقول الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم في كتابه تفصيل النشأة الثانية: [قال الله تعالى: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا( (الكهف: 99)، وقال سبحانه: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ( (المؤمنون: 99- 101)، وقال جل وعلا: )وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ( (النمل: 87)، وقال Y: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ( (يس: 51)، وقال سبحانه: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِى بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( (الزمر: 68-69)، وقال تقدست ذاته: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ( (ق: 20-22)، وقال سبحانه: )أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّـسَوِّى بَنَانَهُ( (القيامة: 3-4)، وقال جلت قدرته: )يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا( (النبأ: 18-24).

وهنا نكتب الآية التى بينت كيفية النشأة الأولى واتصل بها بيان النشأة الأخرى قال I: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ..( (المؤمنون: 12-16).

هذه هى الآيات الشريفة التى وردت فى الصُّورِ وما يتعلق به، وهى خبر من الله تعالى لأهل الإيمان الذين يعقلون عن الله تعالى آياته، ويفقهون كلامه بما جعله سبحانه لهم من النور: )وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ….( (النور: 40).

وهى أيضًا حجة قاصمة لظهور أهل العناد الذين أضلهم الله وأعمى أبصارهم، وقفل قلوبهم فحرموا التسليم والذوق، وفى كل آية من تلك الآيات أسرار غامضة وإشارات عالية ألاح الله أنوارها لأهل البصائر من المؤمنين، وأشهد حقائقها أهل القلوب من المحسنين، وهى عيان لأهل اليقين قال سبحانه: )كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ( (التكاثر: 5-6).

النفخ ثلاث مرات

ومجمل ما بينته تلك الآيات الشريفة: أن الصور محيط بالسموات والأرض، وأن النفخ فيه ثلاث مرات:

نفخة الفزع: وهى قبل يوم القيامة بها فزع العالم أجمع إلا من شاء الله ممن سبقت لهم منه سبحانه الحسنى، وهذا الصور- الذى تنفخ فيه هذه النفخة، ونفخة الصعق، ونفخة القيامة– هو القرن الذى جعل الله فيه لكل روح من أرواح الإنس والجن مكانًا.

والصُّورُ محيط بالسموات والأرض- كما قررنا – فأسفله سجن أرواح الكافرين والمنافقين، ووسطه مكان أرواح عامة المسلمين، وأعلاه روضة أرواح الأبرار والمقربين.

ونفخة القيامة هى الثالثة، وقبل أن تصل الأرواح إلى هذا الصور تتمنى الرجوع عند الموت بدليل قوله تعالى: )رَبِّ ارْجِعُونِ( (المؤمنون: 99)، فيحول بينه وبين ما يشتهي، ولا يقول هذه الكلمة إلا من سبق عليهم القضاء بسوء الخاتمة، أعاذنا الله وإخوتنا المؤمنين، وأما أهل الإيمان فإنهم عند الموت تتوالى عليهم البشرى من الله تعالى، قال سبحانه: )لَهُمُ البُشْرَى فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ( (يونس: 64).

وتقرر أن النفخة الثالثة تجعل كل إنسان مشغولًا بنفسه فزعًا من شدة الهول، أذهب الفزع كل عاطفة لوالد أو ولد قال سبحانه: )فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ( (المؤمنون: 101)، وألجمت الحيرة الألسنة فلا يتساءلون، وأهل الإيمان بالله فى روح وريحان وأنس فى نعيم الجنان، قال تعالى: )تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ( (فصلت: 30).

أما النفخة الأولى: فهى فى صور الخلق، وهى نفخة الفزع إذا ظهرت أشراط الساعة: من طلوع الشمس من مغربها، ومن الخسف والمسخ والصواعق والزوابع، ويقوى هذا الفزع؛ حتى يموت من فى السموات ومن فى الأرض إلا الشهداء فإنهم لا يحصل لهم هذا الفزع بل يمر عليهم نسيم عليل بليل، فيموتون مشتاقون إلى رضاء ربهم سبحانه، وهم الذين استثناهم الله بقوله: )إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ( (النمل: 87)، وقوله: )وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ( (النمل: 87)، أى: انتقلوا من الدنيا أذلاء مرغمين مقهورين؛ لأن تلك النفخة هى الأولى، وهى نفخة الفزع التى بعدها نفخة الصعق، وبعدهما نفخة القيامة.

وصور النفخة الأولى هو هياكل الناس؛ لأن كل واحد صور محيط بحقائق لا تحصى، فالهيكل الإنسانى مجمع لكل أنواع الحقائق: ففيه نفخة القدس، وفيه مادة أسفل السافلين، وفيه ما بين ذلك من كل الأنواع، فالإنسان كون صغير والكون كله إنسان كبير.

وقوله سبحانه: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ( (يس: 51)، الأجداث بالثاء جمع جدث – وقد تبدل الثاء فاء فى لغة فيقال الأجداف وهى القبور- وهذه هي النفخة الثالثة بعد نفخة الصعقة، وبعد ما بينت لك من رجِّ الأرض رجًّا، ودكِّها دكًّا، ونسف الجبال نسفًا، حتى تكون هباءً منبثًّا، وبعد إنزال الأمطار من السماء- التي هي كمني الرجال- أربعين سنة، وبتلك الأهوال العظام تتكون الهياكل الإنسانية من ذرات الأرض.

فإذا نفخت تلك النفخة فى الصور خرجت الأرواح كالجراد المنتشر، فاتصلت كل روح بجسمها الذى كان بيتًا لها، وقام الناس ينسلون، أى: يسارعون.

– فالمقربون يسارعون على رفارف الأنوار إلى حظيرة الرضوان.

– والأبرار يسارعون على النُّجُب إلى الفردوس وغيرها.

– وعامة المؤمنين ممن خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا يحاسبون حسابًا يسيرًا.

– والمتساهلون بالدين من أهل الإسلام يقفون للحساب، والأمر هناك مفوض لله العلى العظيم.

– وأهل الكفر بالله يزج بهم فى النار بغير حساب، وكلهم يسارعون.

وقوله سبحانه: )وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ( (الزمر: 68)، هذه هى النفخة الثانية: وهى التى تفقد فيها الأرواح الحياة الروحانية؛ حتى لا يبقى ملك مقرب إلا ويفقد تلك الحياة – وهى الصعقة – إلا من اصطفاهم الله فأقامهم فى مقام محبته لهم، وبعد تلك النفخة يقول ربنا Y: )لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ( (غافر: 16)، ثلاث مرات فلا يجيبه أحد لفناء من كانوا يدعون ملك الأشياء، ويغترون بما لديهم، وينازعون الربوبية فى الملك فيجيب نفسه بنفسه سبحانه قائلًا: )لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ( (غافر: 16).

أما قوله تعالى: )ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى( (الزمر: 68)، فبعد تلك الصعقة وتنفيذ ما قدره Y من إعادة الإنسان بما أراده فى النشأة الثانية تنفخ النفخة الثالثة، وبها إعادة الحياة الروحانية للأرواح فتقوم حيَّة ناظرة]([1]).

أقسام الناس يوم القيامة:

يضيف الإمام أبو العزائم في كتابه تفصيل النشأة الثانية: [والناس فى هذا الوقت أربعة أقسام:

1- قسم يخرجون من القبور لهم أجنحة يطيرون بها إلى مسرات الحياة الثانية. ومنهم من يركب النُّجب النورانية. ومنهم من تؤمهم الملائكة إلى الفردوس، وهؤلاء لا يمرون على الصراط، ولا يرون الميزان، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، قال I: )إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ( (الأنبياء: 101-102)، وهؤلاء المقربون والأبرار وأهل اليمين وردوا النار فى الدنيا وساروا على الصراط فيها، والنار التى وردوها هى مجاهدة أنفسهم فى ذات الله، والصراط الذى اجتازوه هو السير على شريعة النبى J بكمال اتباعه، والحساب الذى أنجاهم الله منه هو مراقبه الله تعالى فى كل عمل، قال الله تعالى فى الحديث القدسى: (لا وعزتى وجلالى لا أجمع لعبدى أمنين، ولا أجمع له أبدًا خوفين، فإن هو خافنى فى الدنيا أمننى يوم أجمع فيه عبادى عندى فى حظيرة القدس، فيدوم له أمنه، وإن هو أمننى فى الدنيا خافنى يوم أجمع فيه عبادى لميقات يوم معلوم، فيدوم له خوفه)([2]).

2- القسم الثانى: لا يقام لهم ميزان ولا ينصب لهم صراط، وهم الذين قال الله عنهم: )فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا( (الكهف: 105)؛ لأنهم كفروا بالله، أو ماتوا على النفاق.

3– القسم الثالث: وهم الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا كما قاله سبحانه: )فَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا( (الانشقاق: 7-9)، قال تعالى: )وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( (التوبة: 102)، وهم الذين مدحهم الله بقوله: )وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (آل عمران: 135)، وهم عامة أهل اليمين.

والحقيقة أن العصمة لم تثبت إلا لرسول الله J([3])، والله تعالى أخبرنا أنه يحب التوَّابين ويحب المتطهرين.

أسأله أن يمنحنا دوام التوبة، ويهب لنا قوة يطهرنا بها من كل خاطر أو وارد يحجبنا عنه I.

والتوبة: هى الرجوع من المعاصى إلى الطاعات، والتطهير: هو مجاهدة النفس لتزكو من فطرها ونزوعها إلى الغفلة والنسيان، لتدوم لها المراقبة.

4- والقسم الرابع: هم الذين يحاسبون حسابًا شديدًا، قال تعالى: )وَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرا( (الانشقاق: 10-15)، فـأخذ الكتاب من وراء ظهره إنما هو بشماله؛ لأن يده اليمنى مغلولة فى عنقه، وشماله ملتوية وراء ظهره فيأخذ كتابه بشماله بدليل قوله تعالى: )وَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخَاطِئُونَ( (الحاقة: 26 – 37)، وأما قوله تعالى: )فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا( (الانشقاق: 11)، أى: ينادى بالويل والثبور لما حل به من الهلاك ومن اليأس من النجاة، وقوله: )وَيَصْلَى سَعِيرًا( أى: يهوى فى السعير، وفى رواية بضم الياء، أى: تقذفه الملائكة فى السعير، وقوله تعالى: )إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى….( (الانشقاق: 13-15)، هذا خبر من الله تعالى عما كان عليه المتساهلون بالدين من نسيان يوم القيامة والإقدام على نيل حظوظهم وشهواتهم، والمسارعة إلى جمع المال من حل وحرام، وحب الانتقام من عباد الله تعالى، ومن ظلم الخلق، والسرور باقتراف تلك الخطايا وعلمه أنه لا يبعث، إذ معنى قوله تعالى: )إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ( أى: ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى.

ونسيان يوم القيامة موجب لأليم العذاب يوم القيامة؛ بدليل قوله: )وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا( (الجاثية: 34)، فكيف بمن ظن أنه لن يرجع إلى الله تعالى؟ هذا الظن موجب للخلود فى نار جهنم؛ لأنه إنكار لشيء معلوم من الدين بالضرورة وذلك كفر. أعاذنا الله منه. أما قوله تعالى: )بلى( فتكذيب للظالم وردع له وزجر، وإثبات لرجوعه إلى الله، وانقلابه إلى يوم الحساب.

فتقرر أن الناس يوم القيامة منهم:

– المقربون: وهم الذين أنجاهم الله، وينجى بشفاعتهم يوم القيامة من شاء.

– وخاصة الأبرار من أهل اليمين: وهم الذين أنجاهم الله تعالى.

– وعامة أهل اليمين: وهم الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا.

– وأهل الكفر بالله: وهم الذين يسحبون على وجوههم فى النار من غير حساب.

– وعامة أهل الإيمان: وهم الذين يحاسبون ويطهرون فى جهنم ويخرجهم الله تعالى بفضله ورحمته بعد نفاذ القضاء فيهم، فمنهم من يخرج بشفاعة الشافعين؛ لأن الذين أقامهم الله شفعاء ينفعون عندما تنفع الشفاعة، ويشفعون فيمن تنفعهم الشفاعة بإلهام يجعله الله فى قلوبهم] ([4]).

كلمة أخيرة

مما سبق نستطيع أن نميز الفرق بين لفظتي (الساعة) و(القيامة) بتعريف كل منهما كما يلي:

الساعة: هي نهاية اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان حيث يمضى كل واحد هائمًا على وجهه كالفراش المبثوث، والتي يجد نفسه بعدها أمام الله تعالى هو وجميع الخلائق.

القيامة: هي ذلك اليوم الذي يبدأ من انتهاء الساعة ويقضي الله تعالى فيه بين الناس ويجزيهم على أعمالهم، حيث يتجهون إلى ساحة المحشر بانتظام كالجراد المنتشر، وهو يوم ممتد إلى ما لا نهاية.

نسأل الله تعالى أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الربَّاني؛ الذي به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.

=============================================

([1]) تفصيل النشأة الثانية للإمام أبي العزائم، ص60-66.

([2]) جامع الأحاديث للإمام السيوطي (35/204، رقم 38081)، وأخرجه أبو نعيم (1/270)، وفى كنز العمال للمتقي الهندي (3/145، رقم 5899).

([3]) أى العصمة الكاملة بأقسامها الثلاثة: عصمة الوحي، وعصمة التبليغ، والعصمة من الذنوب والسيئات.

([4]) تفصيل النشأة الثانية للإمام أبي العزائم، ص71-75.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …