يُجمع كل المعنيين بعلوم الفقه أن أول كتاب حديث وصل إلينا كاملًا ومرتبًا على أبواب العلم هو موطأ الإمام مالك 6، وقد وضع الله له القبول في نفوس الناس، وقد فضله الإمام الشافعي على كل ما صُنِّف في الحديث إلى وقته، حيث قال: (ما على أديم الأرض بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك)….
د. محمد الإدريسي الحسني
بقية: رجاله وعصره وآثارهم
المدونة الكبرى في الفقه المالكي:
تميز القرن الهجري الثاني بأنه عصر الفقه الإسلامي الحر الغير مرتبط بالسلطة، فالقرن الأول كان عصر الخلفاء الراشدين، وكان الخليفة هو الإمام وهو قاضي القضاة، وهو المفسر الأول للشرع، فكان يحكم بين الناس بما أنزل الله ولا يحكمهم، وكان كذلك يتميز بكونه عصر الصحابة بامتياز، تعددت فيه الاجتهادات، وبرزت ملامح المدارس وكلها تنهل من معين صاحب الشرع وحامل الرسالة J، فكانت مدرسة التيسير يقودها عبد الله بن العباس، وكانت مدرسة الانضباط والشدة يقوها عبد الله بن عمر، وكانت الآراء المنفردة لصاحبيها أبي ذر الغفاري وعبدالله بن مسعود، وكان الإمام علي 0 المرجع الأساس وقاضي القضاة لكل الخلفاء والصحابة، وبعد أن انفصلت السلطة عن التشريع بسطوة الملك العضوض، تحول الخليفة من حكم الى حاكم، يأمر برأيه وينهى، يمنع ويمنح كما يشاء، فظهرت المدارس الفقهية، وبرز الفقهاء، في حواضر الثقافة والمعرفة بداية من المدينة المنورة الى الكوفة والبصرة وغيرها، لضبط أمور الشرع وتحريرها من سلطة الحاكم، الذي لم يعد حكمًا، وتميز كذلك ببداية عصر التدوين، والانفتاح على ثقافات المجتمعات الأخرى التي دخلت في الإسلام وباتت جزءًا من دولته.
انقسمت المدارس الفقهية الى قسمين، الفقه السياسي مثل: الإباضية والزيدية والاثني عشرية والإسماعيلية، وهي مناهج فقهية تسعى الى السلطة، فكانت أشبه بالأحزاب في وقتنا المعاصر، ولا زالت كذلك، والمدارس الفقهية المعرفية وتميز من بينها مدرستان هما:
– مدرسة الرأي الحنفية في الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية الثانية فترة خلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وإمامها هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80 – 150 هـ) وكان فقيهًا وعالمًا، وهو أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: (من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة)، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عددًا من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفًا بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية، كان يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.
– مدرسة الأثر المالكية في عاصمة الإسلام الأولى المدينة المنورة. وإمامها أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني (93 – 179هـ) وهو فقيه ومحدِّث، وثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، اشتُهر بعلمه الغزير وقوة حفظه للحديث النبوي وتثبُّته فيه، وكان معروفًا بالصبر والذكاء والهيبة والوقار والأخلاق الحسنة، وقد أثنى عليه كثيرٌ من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه بعد التابعين». ويُعدُّ كتابه “الموطأ” من أوائل كتب الحديث النبوي وأشهرها وأصحِّها في وقتها، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صوابًا من موطأ مالك». وقد اعتمد الإمام مالك في فتواه على عدة مصادر تشريعية هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب.
لقد كان أبا حنيفة ومالك نجمين متألقين في سماء الفقه لكل منهما تلاميذه، وكان الحوار بينهما مستمرًّا على أسس من التقدير والاحترام فها هو محمد بن الحسن الشيباني أهم تلاميذ أبي حنيفة يدون الموطأ ويشرحه لتلاميذه، ويستدل به على صحة اجتهادهم في كثير من المسائل، وها هو محمد بن إدريس الشافعي أهم تلاميذ مالك يذهب إلى ديوان المدرسة الحنفية يناظرهم بالفقه المالكي، يأخذ منهم ويرد عليهم، وكان كل طرف يعترف بالفضل والتبحر في العلم لصاحبه، وفي خضم هذه النهضة المعرفية جاء من القيروان أبا عبد الله أسد بن الفرات بن سنان النيسابوري مولى بني سليم، ولد بنجران سنة 142هـ، طالبًا للعلم فجلس يطلبه عند الإمام مالك عام 172 هـ، تتلمذ على يد الإمام مالك ثم ارتحل الي العراق يحمل رأي الإمام مالك في مسائل ناقشها مع أبي يوسف والشيباني ليعلم رأي مذهب أبي حنيفة فيها، وعاد منهم بمسائل أراد عرضها على الإمام مالك، فوجده قد انتقل الى الرفيق الأعلى مرحومًا بإذن الله، فارتحل إلي مصر، لمقابلة أئمة الفقه من أصحاب الإمام مالك، فأخذ عن ابن القاسم، وهو عبد الرحمن ابن القاسم العتقي (191هـ) عرض عليه المسائل الحنفية، ولا زال يسأل ابن القاسم وهو يجيبه حتى دوّن ستين بابًا وسماها الأسدية، وتسمى كذلك بالمدونة الصغرى، ثم ارتحل أسد ابن الفرات إلى القيروان وكان سحنون ومحمد بن رشيد يكتبان عنه الأسدية، التي سافر بها سحنون وهو عبد السلام بن سعيد التنوخي (240هـ) إلى ابن القاسم أهم تلاميذ الإمام مالك،
قرأها عليه وأجابه عن مسائلها فرجع عن بعضها، وأضاف وعدل، فنسقها سحنون في سلسلة من أسئلة وأجوبة عن مسائل الفقه بلغت 6200 مسألة، ومرتبة على أبواب الفقه، وضمنها رواية الإمام مالك عن الصحابة والتابعين، لذلك تعتبر أصح كتب الفروع في الفقه المالكي رواية، وأصبحت المدونة أصل الفقه المالكي، وهي مقدمة على غيرها، وتأتي في الدرجة الثانية بعد الموطأ، وأكثر علماء المالكية يتلقون ما جاء في المدونة بالقبول، وهي أصدق رواية، وأعلى درجة من حيث سماعها وروايتها، وعليها الاعتماد في الفتوى عند علماء المالكية وكتب أبي الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الجد (520هـ) لها المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته المدونة من أحكام.