أخبار عاجلة

شروح الحكم من جوامع الكلم للإمام أبي العزائم (158)

الحكمة الثامنة والخمسون بعد المائة

السَّماع: مـن أكمَل أنوَاع تزكِية النفُوس.

الأستاذ سميح محمود قنديل

يؤكد الإمام أبو العزائم 0 فى هذه الحكمة، أن السماع الممدوح شرعًا: مثل سماع مواجيد أهل الصدق، ممن وقع بهم العلم على عين اليقين، وهجمت عليهم صولة الحق، فأفنتهم عنهم فيترنمون بألحان شجية، فذلك يعد من أكمل أنواع التزكية للنفوس، وإذا صفا جوهر العقل، وقبل العلوم النافعة بطريق السماع، واتصل بعالمه الأعلى، بحسب الحقائق العلمية التى نقشت عليه، انفتق رتق القلب، فصغت أذن القلب إلى نغمات الكائنات، وفقهت تسبيح المخلوقات.

أهل السماع هم أهل البشرى، وهم أهل الذكر الأكبر وهم أولياؤه، ومن لم يسمع القرآن من العارف بالله لم يفهمه؛ لأن من كان قربه بالأذن كان بُعده بالأذن، ومن كان قريبا بالقلب لم يبعد، ولذلك ينصحون المريد قائلين: كن أول سامع وآخر متكلم، المتكلم يزرع والسامع يحصد، ليس من سمع من المتمكن كمن سمع من المتلون، كمن سمع من الحافظ، أو الرواية عن غيره من غير تعقل، ولو أن مطلق السماع ينتج نتيجة الجذبة الكبرى، التي تمحق البيْن من البيْن، حتى تقع العيْن على العيْن، لما رأيت على وجه الأرض من سمع العلم، إلا وهو مأخوذ أخذةً تجعله بها متمكنًا في الحضرتين.

السماع عند السالكين والواصلين والمتمكنين

ويبين الإمام 0 في كتابه: “مقامات الصوفية” في الحديث عن السماع عند السالكين، أن الحق غيب، والدلائل العقلية خفية، والروح آلهة والسماع طهور، وإنما تحتسيه الأرواح وإن ظهرت الأشباح، والنـور يخفى على من لا بصر له، وقد يخطف الأبصار، والحكمة مقتضية، ومن منع الحكمة أهلها ظلمهم، ومن أباحها لغير أهلها ظلمها، ولا نترك الحق لكثرة المنكرين، ولا نبيحه لغير أهله، رغبة فيما تميل إليه النفس من الضنين، فإن قويت الصولة، اشتدت الجولة، فمعذور من غلبه الوجد، وإن حصلت به المضرة للغير، قال الله تعالى: )يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ( (البقرة: 26).

فمن لم ينتفع بالربانيين فى كل مجلس من تلك المجالس، فهو فى حظ مبعد وهوى حاجب، وضلال مهلك – نعوذ بالله – والسالك الذى يجد شأنًا من شئون الرجل، ولا يميل إلى بقية شئونه، فهو سالك إلى نار جهنم، قال الله تعالى: )وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا( (آل عمران: 7)، وقال مُشنِّعًا على المغرورين بأنفسهم: )أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( (البقرة: 85).

أما السماع عند الواصلين فهو تصفية السر عما سوى الحق، لاستجلاء أنوار الجمال، وبهاء الجلال، وضياء الكمال، وانبلاج أنوار المواجهات فى المنازلات، والمسارعة إلى مقابلات الصفا والوفا، والمسموع نغمات التسبيح بالتلويح، من روح قرآن الحقائق سماعًا من الموصوف، عند الاتحاد فى المعروف، أو قبسًا من مشكاة الأنوار، عند الفناء بالأسرار، فى تنزل القرآن، أو من الختم الوارث، استحضارًا وبيانًا، ثم كشفًا وعيانًا، وهو القول المثبت قال الله تعالى: )يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ( (إبراهيم: 27).

وأعلى مقامات السماع، أن يسمع الفرد الكامل صورة الرحمن، من الرحمن حيث لا قيود ولا أعلام، ولا حيطة ولا إمكان، وللقدرة عجائب تسجد على فنائها العقول، وتصعق على وهادِها قبل جبالها النفوس، قال الله تعالى: )فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا( (الأعراف: 143)، هذا رذاذ من الحكمة، وطل من المعرفة، إن صادف أرضًا خصبة من أرض القلوب، تفجرت منها ينابيع الحكمة، وأزهرت وربَت وأنبتت من كل زوج، وإن صادفت أرضًا ملحة، أو ذات قيعان، فأفسدت الحكمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وهناك سماع مذموم شرعًا، وهو ما كان فيه لهو، ولغو ويدعو إلى فسق وفجور، أما الحكمة الروحانية، التي تكشف للقلب أسرار مدلولها، حتى كأن السامع يتراءى ربه سبحانه وتعالى، إذا كان المجتمعون على السماع فيها تجملوا بالعلوم الشرعية، وتحققوا باليقين الحق، وقاموا لله بما أوجب، وبما رغب فيه، فهي معراج القرب إلى الله Y، ومنكرها: إما أن يجهلها وله العذر؛ لأن من جهل شيئًا عاداه، وإما أن يعلم فضلها ولكنه يخشى على المجتمعين أن تزل بهم القدم، فله العذر أيضًا فى إنكاره، يقول الإمام أبو العزائم 0 عن السماع نظمًا:

سَمَاعُ ﴿أَلَسْتُ﴾ جَنَّنَ ٱلــــرُّوحَ وَٱلْعَقْلَا

وَمِنْ مُنْذِهَا وَٱلْفَرْدُ يَلْتَمِـسُ ٱلْوَصْــــلَا

سَمَاعٌ بِهِ عَهْدِي ٱلْقَــــدِيـمُ وَلَوْعَتِــــي

وَمِنْ قَبْلِهَا قَدْ كُنْتُ نُورًا وَلَا فَــصْــلَا

أَحِــــنُّ إِلَــــىٰ هَٰذَا ٱلسَّمَـــــاعِ لَــعَلَّنِي

أَعُودُ إِلَىٰ بَدْئِي فَــيُسْــمِعُــنِي ٱلْقَـــوْلَا

حَنِينِي إِلَىٰ هَٰذَا ٱلسَّمَـــــاعِ وَلَوْعَتِـــي

إِلَىٰ أَنْ أَرَى ٱلْوَجْهَ ٱلْجَمِيلَ وَلَا ظِــلَا

وَلَوْلَا حَنِيـــنِي لِلسَّـــمَــاعِ لَمَـــا رَأَىٰ

سِوَايَ مِنَ ٱلأحْوَالِ مَا جَنَّــنَ ٱلأهْــلَا

لأِنَّـــهُمُــو أَهْـــلُ ٱلْقَبُـــولِ تَــجَمَّـــلُوا

بِمَـا سَــمِــعُوا لَــمَّا أَنَــالَهُــمُو ٱلطَّوْلَا

تَعَالَوْا بِنَا نَشْتَــــاقُ فَٱلشَّـــوْقُ جَــاذِبٌ

إِلَىٰ حَضْرَةِ ٱلإِطْلَاقِ إِذْ كَانَتِ ٱلسُّؤْلَا

السماع وأنواع تزكية النفوس

والسماع المشروع مطلوب، لما له من أثر طيب ملموس في تزكية النفوس، ولكن الإمام يعلمنا أنه يجب على العبد أن يسعى لتزكية نفسه قبل السماع، ولذلك يقول في حكمة جليلة من جوامع الكلم: “زك نفسك قبل السماع لتشرق عليك أنوار المعرفة، فإن النفس كالبدن إن لم يكن قويًّا كلما غذيته ازداد مرضًا”، فالنفس كالجسم إن كان مريضًا زاده الغذاء مرضًا، ولا يستفيد من الغذاء حتى يبرأ من الداء، والنفس تسمع من هنا وهناك، فإن كانت مريضة بسوء الخُلق، أو بالغفلة أو بالطمع أو حب الدنيا، أو الغرور والتعالي، أو الظلم لخلق الله، أو السهو واللغو، وغير ذلك ازدادت بهذا السماع مرضًا على مرضها، وبُعدًا على بُعدها.

فالسماع والتزكية متلازمان، وعلى الإنسان أن يلقى السمع وهو شهيد، ولديه من التسليم ما ينفعه، وهو يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقول: سمعنا وعصينا، فيعمل بما سمع وعلم، فيورثه الله علم ما لم يكن يعلم، وعندها تتزكى نفسه ويطهر قلبه، ويرتقى عقله بهذا السماع، وينال من الله الفلاح والنجاح.

وتزكية النفوس لها أنواع:

النوع الأول: وبه تكمل تزكية النفس المشاهِدة عن علم التوحيد، وهى تزكية المقربين، فإن من ذاق حلاوة التوحيد فى الأسماء والصفات والذات، كان من الأفراد الكاملين، وكان فى أعلى مراتب المهذبين.

النوع الثانى: وهو أرقى مراتب التهذيب، لسماع القرآن الشريف بألحان العرب من حَسن الصوت، وسماع الحكمة المطهرة للأخلاق، وسماع الخطب والمواعظ من معتقدٍ فيه كامل، ومن قراءة سير الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلفائهم وورثتهم والعلماء بالله.

النوع الثالث: قمْع النفس بزواجر ترك المألوف، وحبسها فى سجن الزهد عن كل شهواتها وحظوظها، والصبر على ذلك والميل إلى الوعر والخشونة؛ حتى تذل وتدوم على ذلك حتى تعتاد وتألف.

وهذه الأنواع الثلاثة ينبغى أن يكون استعمالها على يد طبيب ماهر ـ وهو الولى المرشد الكامل؛ لأن لكل منها مضار نفسانية، ربما أوقعت السالك فى مهاوى القطيعة بهدم الأسوار، أو بالتشبيه فى مقام التنزيه، أو التنزيه فى مقام التشبيه، أو الغرور بالعمل والمجاهدات المهلكات، كما يستعمل المريض الدواء بدون إشارة الحكيم وبدون علمه، فيكون مهلكًا له.

النوع الرابع: تزكية النفس على تزكيتها ليدوم أنسها بربها، ولا يكون إلا لأهل الشوق المزعج والغرام المحرق، ولهم فيه أساليب تدِق على أهل المقامات.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …