أخبار عاجلة

هكذا تكلم لقمان (2)

المعيار الحاكم في الهمم هو الصلاح، وليس تلك المناصب الرفيعة التي لا تغني عن أصحابها شيئًا إن افتقرت أرواحهم إلى الإيمان أو الأخلاق أو التوجه بالكلية لعالم الحق والخير..

أ. د. نور الدين أبو لحية

بقية: همم

الحاكم هو الصلاح

ذكر J قصة تبين معايير الهمم، ومدى الأخطاء التي يقع الناس فيها، فقال: (بينا صبيّ يرضع من أمّه، فمرّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمّه: اللهمّ اجعل ابني مثل هذا، فترك الثّدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثمّ أقبل على ثديه فجعل يرتضع.. ومرّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ، سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمّه: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فترك الرّضاع ونظر إليها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة فقلت: اللهمّ اجعل ابني مثله، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، ومرّوا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ، سرقتِ، فقلت: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها، قال: إنّ ذاك الرّجل كان جبّارًا، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، وإنّ هذه يقولون لها: زنيتِ ولم تزن، وسرقتِ ولم تسرق، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها)([1]).

لذلك كان المعيار الحاكم في الهمم هو الصلاح، وليس تلك المناصب الرفيعة التي لا تغني عن أصحابها شيئًا إن افتقرت أرواحهم إلى الإيمان أو الأخلاق أو التوجه بالكلية لعالم الحق والخير.

بل إن رسول الله J ذكر أن أولئك الذين توهم الناس رفعة مناصبهم ليسوا سوى عبيد لها، انتكسوا عن حقيقة إنسانيتهم، والكرامة المرتبطة بها، ليقعوا في ذلة الروح وهوانها، ففي الحديث قال J: (تعس عبد الدّينار، وعبد الدّرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السّاقة كان في السّاقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفّع)([2]).

وذكر رسول الله J نموذجًا عن هؤلاء الذين ارتفعت هممهم إلى إنسانيتهم الرفيعة المكرمة، فقال: (ربّ أشعث مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله لأبرّه)([3]).

فصحح يا بني نظرتك إلى الهمم، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون، أولئك الذين يرون ظواهر الأشياء، ويغفلون عن بواطنها، وينظرون إلى الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ويكتفون بالعاجل عن الآجل.. مع أن العاقل هو الذي يبحث في النهايات، ولا تغره البدايات.. والمنتصر هو من يضحك أخيرًا.. لا ذلك الذي يدفع في هزيمته كل ما كسبه فيما توهمه من انتصارات.

الشيطان

اعلم ـ يا بني ـ أن للشيطان دوره الكبير في غواية بني آدم.. وأنه لولاه لكان شأنهم مختلفًا تمامًا.. لكني مع ذلك لا أستطيع أن أعلق كل ما يحصل من مآس وانحرافات وضلالات عليه.. ذلك أنه البداية، لكنه ليس النهاية.. وهو المحرض، لكنه ليس الفاعل.. وهو الدافع، لكنه لا يدفع بشدة، ولا بقهر، ولا يهيمن على من يدفعهم.. بل يفعل ذلك بلطف.. والمدفوعون هم الذين يختارونه، وكان في إمكانهم ألا يفعلوا.

فلذلك لا أستطيع أن ألقي كل اللوم عليه.. ولو فعلت ذلك لحاجّني، وغلبني، وأول ما يحاجني به أولئك المخلَصين الذين استطاعوا أن يتخلصوا من أسره، وينفلتوا من كيده، مع أن لهم كل ما لإخوانهم من بني آدم من استعداد للسقوط، وقدرة على تلقي الكيد الشيطاني.

لقد ذكر الشيطان نفسه هذا، وأخبر أن من استطاع أن يسيطر على نفسه، فستكون له القدرة على السيطرة على مكامن الوسوسة، وبذلك لن يتمكن من إضلاله، ولا غوايته، قال تعالى يذكر قوله هذا: )قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( (الحجر: 39، 40).

بل إن الله تعالى أقره على ذلك، وقال: )هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ( (الحجر: 41، 42).

وبذلك، فإن الشيطان تابع للإنسان قبل أن يكون الإنسان تابعًا له.. فلولا تلك القابلية الإنسانية، لما كانت الوسوسة الشيطانية.. ولذلك كان الإنسان بادئًا، ومسؤولًا، ولا يستطيع أن يفر عن مسؤوليته بسبب وساوس الشياطين.

وكيف له أن يفر عن مسؤوليته، وهو يعلم أن الله تعالى الذي مكّن الشيطان من الوسوسة له، قد مكن معه من الملائكة من يعمل مقابل عمله.. فالشيطان يوسوس والملك يعظ ويوجه ويحذر.. وهو لا يكف كل حين من إبداء مواعظه.

والمشكلة أن الذي رضي وسوسة الشيطان فتح آذان قلبه له، وصمها عن سماع ملاكه.. ولو سمع لملاكه لفر شيطانه عنه.

إن الأمر يا بني يشبه شخصًا يملك تلفازًا يحوي قنوات كثيرة.. منها قنوات هداية، ومنها قنوات تضليل وانحراف.. وبدل أن يختار قنوات الهداية ليستمع لها، راح يختار قنوات الضلالة.

نعم .. قنوات الضلالة ملومة فيما تنشره من تضليل.. ولها دور في ذلك.. وتحاسب عليه.. لكن المسؤولية لا تقع عليها وحدها.. بل تقع على ذلك المختار الذي اختارها، وكان في إمكانه أن يختار غيرها.

===================================

([1]) البخاري- الفتح 6 (3436)، مسلم (2550) واللفظ له.

([2]) البخاري- الفتح 6 (2887).

([3]) مسلم (2622).

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …