أخبار عاجلة

أبو الحسن الشاذلي.. الصوفي المجاهد إمام السائرين إلى الله (12)

كان الشاذلي يأخذ عن رسول الله J ويستمد منه وكان يقول: (والله لو حجب عني رسول الله طرفة عين؛ ما عددت نفسي من المسلمين). وقال نفس العبارة خليفته أبو العباس المرسي بعد ذلك حين ورث حاله..

الأستاذ صلاح البيلي

المهاجر إلى الله

يقول أحمد بن عطاء الله عن جانب آخر من جوانب شخصية أبي الحسن: (له السياحات الكثيرة، والمنازلات الجليلة)، كان عابدًا متبتلًا، ومن أجل ذلك ساح في الأرض كثيرًا، ليخلو مع الله، وتصفو نفسه، ووصف ذلك في حزبه الكبير عندما قال: (إني أسألك أن تغيبني بقربك مني؛ حتى لا أرى ولا أحس بقرب شيء ولا ببعده عني، إنك على كل شيء قدير)، وهو القائل أيضًا في دعائه: (اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل؛ حتى عزوا، وحكمت عليهم بالفقد؛ حتى وجدوا، فكل عز يمنع دونك؛ فنسألك بدله ذلًّا تصحبه لطائف رحمتك، وكل وجد يحجب عنك؛ فنسألك عوضه فقدًا تصحبه أنوار محبتك).

انتقل الشيخ أبو الحسن إلى تونس وهو صبي صغير، وتوجه إلى بلاد المشرق، ودخل العراق، وحج حجات كثيرة، ويقول عن بداية أمره: كنت أنا وصاحب لي قد آوينا إلى مغارة نطلب الوصول إلى الله، فكنا نقول: غدًا يفتح لنا، بعد غد يفتح لنا، فدخل علينا رجل له هيبة، فقلنا له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الملك، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: كيف حال من يقول: غدًا يفتح لي، بعد غد يفتح لي، فلا ولاية ولا فلاح يا نفس ما لا تعبدين الله الله. قال: فتفطنا من أين دخل علينا، فتبنا إلى الله، واستغفرنا، ففتح لنا.

ويقول أبو الحسن عن سياحاته: كنت في سياحاتي في مبدأ أمري، حصل لي تردد: هل ألزم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار؟ أم أرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار؟ فوصف لي وليٌّ هناك، وكان برأس جبل، فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلا ليلًا، فقلت في نفسي: لا أدخل عليه في هذا الوقت، فسمعته يقول من داخل المغارة: (اللهم إن قومًا سألوك أن تسخر لهم خلقك، فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وأني أسألك اعوجاج الخلق عليَّ؛ حتى لا يكون ملجأي إلا إليك)، فالتفت إلى نفسي وقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ، فلما أصبحت دخلت عليه فأرعبت من هيبته، فقلت له: يا سيدي كيف حالك؟ فقال: أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار، فقلت: يا سيدي، أما شكواي من حر التدبير والاختيار، فقد ذقته وأنا الآن فيه، وأما شكواك من برد الرضا والتسليم فلماذا؟ فقال: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله، قلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول.. كذا وكذا، فتبسم وقال: يا بني عوض ما تقول سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي، أترى إذا كان لك أيفوتك شيء، فما هذه الجبانة؟

وقال أبو الحسن الشاذلي أيضًا: اجتمعت برجل في سياحتي فقال: ليس شيء في الأقوال أعون على الأفعال من لا حول ولا قوة إلا بالله والاعتصام بالله، ففروا إلى الله واعتصموا بالله، ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ثم قل:

باسم الله فررت إلى الله، واعتصمت بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن يغفر الذنوب إلا الله، رب إني أعوذ بك من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين، باسم الله قول باللسان صدر عن القلب، ففروا إلى الله وصف للملك والأمر، ثم تقول للشيطان: هذا علم الله فيك، وبالله آمنت، وعليه توكلت، أعوذ بالله منك، ولولا ما أمرني ما استعذت منك، ومن أنت حتى اعتصم بالله منك.

وروى الشاذلي أيضًا: قلت يومًا وأنا في مغارة في سياحتي: إلهي متى أكون لك عبدًا شكورًا؟ فإذا قائل يقول لي: إذا لم تر منعمًا عليه غيرك، فقلت: إلهي كيف لا أرى منعمًا عليه غيري وقد أنعمت على الأنبياء، وعلى العلماء، وعلى الملوك، فإذا قائل يقول لي: لولا الأنبياء ما اهتديت، ولولا العلماء ما اقتديت، ولولا الملوك ما آمنت، فالكل نعمة مني عليك.

والشاذلي هو القائل: لن يصل العبد إلى الله وبقي معه شهوة من شهواته، ولا مشيئة من مشيئاته.

وقال أيضًا: إن أردت أن تكون مرتبطًا بالحق فتبرأ من نفسك، واخرج من حولك وقوتك.

وقال أيضًا: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى، لما حققهم به من شهود القيومية وإحاطة الديمومية.

زيارته للنبي

لما قدم أبو الحسن الشاذلي المدينة زائرًا لرسول الله وقف على باب الحرم من أول النهار لمنتصفه عريان الرأس حافي القدمين يستأذن على رسول الله، ولما سئل عن ذلك، قال: حتى يؤذن لي، فإن الله عز وجل يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ( (الأحزاب: 53)، فسمع النداء من داخل الروضة: (يا علي، ادخل)، فوقف تجاه الروضة الشريفة وقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك يا رسول الله أفضل وأزكى وأسنى صلاة صلاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه، وأشهد يا رسول الله أنك بلغت ما أرسلت به، ونصحت أمتك وعبدت ربك حتى آتاك اليقين، وكنت كما نعتك الله في كتابه: )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ( (التوبة: 128)، فصلوات الله وملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه من أهل سماواته وأرضه عليك يا رسول الله.

ثم ألقى السلام على وزيري رسول الله J أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وأثنى عليهما، ثم وقف يشهد الله سبحانه وتعالى بالتوبة والإنابة، ويرجو رحمته وعفوه، ونص الكلام طويل خشينا من إثباته كله خوف الإطالة.

خلاصة القول

إن الشاذلي كان جميل الظاهر والباطن، حسن  الثياب، فارسًا يركب الخيل ويقتنيها، وكان عصاميًّا يأكل من عمل يده وله بساتين وزروع وثيران للحرث والدرس، وكان مجاهدًا مع الجيش في معركة المنصورة ضد الملك الفرنسي لويس التاسع وحملته الصليبية، وكان عابدًا عرف القرب من الله فقال عنه: (إنه الغيبة بالقرب عن القرب لعظم القرب)، وكان عالمًا فقيهًا محدثًا، وكان يسعى  لمصالح العباد عند السلاطين والولاة، أي أنه كان مؤمنًا حقًّا إيجابيًّا متفاعلًا مع عصره ومجتمعه، وليس عابدًا منعزلًا في مغارة، وقدم بشخصيته وسيرته خير نموذج للصوفي العالم العابد المجاهد المكافح، كان من السهل أن يجلس الشاذلي لتأليف الكتب والمجلدات، ولكنه وجد أن رسالته أسمى من ذلك وهي تأليف الرجال، وتأسيس الأبطال وأكابر العلماء الذين حملوا الراية من بعده.

يقول الشيخ أحمد بن عطاء الله عنه: (ونشأ على يد الشيخ 0، جماعة كثيرة، منهم من أقام بالمغرب كأبي الحسن الصقلي، وكان من أكابر الصديقين، وعبد الله الحبيبي وكان من أكابر الأولياء، ومنهم من تبعه وهاجر معه إلى مصر، منهم شيخنا وقدوتنا إلى الله أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري المرسي 0، ومنهم الحاج محمد القرطبي، وأبو الحسن البجائي المدفون بظاهر أشمون الرمان، وأبو عبد الله البجائي، والوجهاني والجزار، ومنهم من صحبه بديار مصر، منهم الشيخ عبد الله بن منصور المعروف بمكين الدين الأسمر، والشيخ عبد الحكيم، وشرف الدين البوني، والشيخ عبد الله اللقاني، والشيخ عثمان البوريجي، والشيخ أمين الدين جبريل، ولكل هؤلاء علوم وأسرار وأصحاب أخذوا عنهم).

وأزيد على ما ذكره ابن عطاء الله بأن الصوفي المجاهد من أمثال الشاذلي إنما يربي المريد بنظرة أو بموقف أو بجملة أو بلقاء عابر مرة واحدة في العمر، وعلى ذلك فإن تلاميذ ومريدي الشاذلي يملأون الأرض في كل زمان ومكان، ومن ذكرهم ابن عطاء الله إنما هم أكابر مريديه الذين أصبحوا شيوخًا للطريق وعلامات للهدى من بعده.

وحتى نتعرف على مكانة الشاذلي بين معاصريه يكفي أن نسترجع كيف شهد له العز بن عبد السلام سلطان علماء مصر، وبائع المماليك، شهد له بالتفرد، وبأن حديثه قريب العهد من الله، وكذلك شهادة قاضي قضاة مصر تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري، والشيخ صفي الدين بن أبي المنصور الشاذلي، وشهد له الشيخ عبد الله ابن النعمان بالقطبانية، والشيخ قطب الدين القسطلاني، والشيخ أحمد بن عطاء الله في كتابه (لطائف المنن)، والشيخ سراج الدين ابن الملقن في كتابه (طبقات الأولياء)، والشيخ جلال الدين السيوطي في كتابه (حسن المحاضرة)، وعبد الوهاب الشعراني في (الطبقات الكبرى)، وعبد الرؤوف المناوي في كتابه (الكواكب الدرية)، وغيرهم العشرات في كل عصر وبلد.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …