سماحة مولانا الإمام المجدد حجة الإسلام والمسلمين في هذا الزمان السيد محمد ماضي أبو العزائم – قدَّس الله سرَّكم، ونفعنا الله بكم، وجعلكم وليًّا مرشدًا لطلاب العلم النافع- نرجو من سماحتكم بيان المعاني والأسرار في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 62]....
فأجاب سماحته قائلاً:
يَا بُنَىَّ: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ..( إلخ الآية. بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أخبار أعداء أنفسهم، وما أعده لهم من سوء العاقبة، تنزل جل جلاله بما هو أهل له من الحنان والعطف والرحمة والإحسان ففتح أبواب الخير لعباده، ليجعلهم على الحق بفضل منه، فقال مؤكدًا الخبر بإن )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا( مبتدئًا بأهل الإيمان ليشرح صدور من سبقت لهم منه الحسنى بخبره هذا عن تلك الأنواع كلها. ومعنى )آمَنُوا( هنا: أي صدقوا الله ورسوله مع الدوام والاستمرار على التمسك بعقيدة الإسلام والعمل بشرائعه. وإن فسر بعضهم قوله تعالى: )آمَنُوا( أي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل بعثة رسول الله o، ولكن سياق القرآن يقضي بكشف الستار عن عميم الرحمة والترغيب في الإسلام، أما من آمنوا بالسابقين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إيمانًا لم يَشُبه زيغ ولا ضلال مما وقع فيه اليهود والنصارى، فذلك معلوم من الدين بالضرورة أن لهم الأجر والثواب، أما أهل الفترة من أهل الجاهلية وغيرهم، فإنهم ناجون إلى بعثة رسول الله o، أما بعد بعثته عليه الصلاة والسلام وعلمهم به، فإنهم يكونون كفارًا مخلدين في النار إن لم يسلموا.
)وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ( أما الذين هادوا، فإن كانت الكلمة عربية، فهاد يهود: يعنى تاب يتوب، بدليل قوله تعالى: )إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ(، وإن كانت غير عربية، فمعناها تهودوا، يعنى دخلوا في اليهودية، والحكم إنما هو لمن أدركوا عصر رسول الله o بدليل قوله تعالى: )مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ(، والنصارى جمع نصراني، والأنثى منه نصرانية، أو نسبة إلى المدينة (نَاصِرَة) التي نزل بها المسيح، فكانوا يسمونه ناصريًّا، وهم الذين ظنوا أنهم آمنوا بالمسيح، ولكنهم اختلفوا فيه: فمنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو الله، ومنهم من قال: حل فيه الله، ومنهم من رأى قداسة مريم وهم أهل التثليث. )وَالصَّابِئِينَ(: الصابئ لغة: هو الذى يميل عن دينه، سواء أكان من باطل إلى باطل، أو من حق إلى باطل، أو يبتدع في الدين بدعة تخالف الإجماع، وهم أهل الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة في كل ملة، جمعهم الله مع ما هم عليه من الكفر بالله ليقيم الحجة سبحانه عليهم أن من آمن منهم بالله، أي صدق رسله D فيما جاءوا به من عند الله تعالى: )وَعَمِلَ صَالِحًا( أي أنه حفظ أنفاسه وجوارحه من مخالفة السنة،
وقام بما أوجبته الشريعة عليه من أركان الإسلام وسننه التي جمعها رسول الله o بقوله: [الإيمان بضع وسبعون شعبة] فإيمان المؤمنين ثباتهم على التصديق بما جاء به رسول الله o، وقيامهم بالعمل بما أمر به مع الاستطاعة، وتركهم ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام مطلقًا. فإن المسلم يجب عليه أن يفعل ما أمر به مع الاستطاعة، ويجب عليه أن يترك ما نهى عنه مطلقًا، إذ لا عذر لمسلم يدعوه إلى الوقوع في معصية الله تعالى؛ لأن الله تعالى ما نهانا عن شيء فيه نفع لنا أبدًا بل نهانا عن كل ضار بالدين والجسم والأهل والمجتمع الإسلامي. وقد أغنانا الله بما وسع لنا فيه من ضرورياتنا وكمالياتنا.
والشريعة هي الطريق الواسع الذي لا يضيق على سالك فيه. وإيمان غير المؤمنين هو اعتناق الإسلام بقلب وقالب )فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ( الجملة بعد الفاء جواب الشرط، والشرط وفعله وجوابه خبر؛ لأن السابقة والأجر معلوم أنه الجزاء الحسن على العمل الحسن، كما أن العقوبة هي الجزاء العدل على العمل السيء. وفى العقوبة غاية العدل من الله تعالى. وفى الأجر نهاية الرحمة والفضل.
وهنا إشارة عجيبة: لأن الأجر لا يكون إلا لعامل بحوله وقوته، مكافأة له على ما ضحى به من العمل. والحق جل جلاله هو الفاعل المختار المنزه عن الشريك والمعين. ومن فهم قوله تعالى: )وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا( يذق حلاوة ما أقول: إن الله تعالى تفضل علينا بالإيجاد، وأحسن إلينا بالإمداد قال سبحانه وتعالى: )وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون(، وتنزه جل جلاله عن أن ينتفع بمخلوق خلقه، أو يحتاج إلى عمل عامل من خلقه، فكيف يقول: )لَّهُمْ أَجْرُهُمْ( إلا أني على قدر فهمي في هذه الآية الشريفة أقول: إن الله تفضل بالإيجاد والإمداد فوفقنا لمحابه ومراضيه، وهدانا صراطه المستقيم، وأكرمنا بأن جعلنا خير أمة أخرجت للناس، ثم تفضل فضلًا أعظم فأكرمنا بنسبة عمل الطاعات لنا، وبأن تلك الطاعات له منا بنا. ثم جعل سبحانه ما أعده لنا من الملك الكبير جزاء أعمالنا التي وفقنا لها ليكون إكرامه أجمل وإحسانه أشمل، ولنتذوق حلاوة وسعة رحمته وجمال إحسانه وخير حنانه، فنتخلق بخلق من أخلاقه في معاملة إخوتنا المسلمين الذين جذبتهم العناية إلى القيام لرب العالمين. وهذا مشهد من مشاهد التوحيد العلية. كشف الله لنا تلك المقامات كلها، وحفظنا من العمى في تلك الدار الدنيا، حتى نشهد كل المشاهد ونحفظ من قوله تعالى: )وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى(.
وهنا جذبت جواذب الألطاف الإلهية، من قدر الله لهم في الأزل أن يلحقوا السابقين الأولين بفضل الله وبرحمته. قال تعالى: )قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(. عطف سبحانه وتعالى الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله جل جلاله، وفى ذلك من عجائب الحكمة الإلهية ما لو انكشف لذوى الألباب لكان المجتمع الإنساني العام كالجسد الواحد كل فرد منه ككل عضو في الجسد يعمل لخيره؛ لأن الإيمان باليوم الآخر مع المراقبة يشهد الإنسان شهودًا تصويريًّا بهجة النعيم المقيم في سبيل عمل قليل يستطاع، فينجذب الإنسان بعوامل الرغبة الشديدة والشوق المزعج إلى الفوز بهذا الملك الكبير، وفى دار البقاء جوار الأنبياء والصديقين والشهداء، ويجعله يحارب هواه وحظه وشهوته، محاربة من يشعر بآلام النار عند هجوم سلطان الحظ والهوى والشهوة. ومتى راقب المسلم تلك الحقائق التي توعد بها القرآن أهل الكفر بالله، رسم على جوهر نفسه رسوم تلك الحقائق من الآلام والعذاب والبلاء الشديد الذي يقع فيه المخالف للشريعة، في صغير الأمر وكبيره، فيفر من الوقوع في المعاصي كما يفر من الوقوع في هوة نار ملتهبة، وما ارتكب العصاة الكبائر ووقعوا في الكبائر والآثام إلا لنسيانهم ذلك اليوم. قال تعالى: )الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا(، وقال تعالى: )بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(. ولما كانت تلك الملاحظات تكبح جماح النفوس عن غيها وتقيم الحجة على إيمان المرء بالغيب الذي سمع به من الصادق ولم يره صار برعايتها ناهجًا الصراط المستقيم مصححًا حاله عملًا، ولذلك فإن الله تعالى عطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بذاته العلية، رحمة منه بخلقه وإحسانًا إليهم.
والإشارة بقوله تعالى: )عِندَ رَبِّهِمْ( تدل أهل المعرفة بالله أن هذا الأجر فوق الجنة مكانة؛ لأن الأجر عند ربنا جل جلاله واسع جدًّا: فقد تكون الجنة، وقد يكون مقعد صدق، وقد يكون الرضوان الأكبر، وقد تكون مواجهة وجه الله تعالى، والأنس على بساط مؤانسته. وقد وقد وقد… كما قال تعالى: )فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(، وبرهان صحة الرعاية والتمثيل قوله تعالى: )كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(، )وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(.
معلوم أن الإنسان بما ركب فيه من عناصر تقتضي تغيراته، حتى إذا تم اعتبار المثنوية تحقق بأنه لا يصفو نفسًا من الأنفاس إلا وهو تحت تأثير تلك التغيرات: فتراه موفقًا للخير مقبلًا على الله بكليته، وأخرى ملتفتًا عن الحق سلس القياد للشهوة حريصًا على الدنيا والسعي لها، ومرة تراه زاهدًا ورعًا خاشع القلب خانع الجوارح لله تعالى، وأخرى تراه في حيرة ودهشة مما يرد عليه من غرائب الآيات وأسرارها، وآنًا يكون كافرًا جاحدًا منكرًا. وكل تلك التأثيرات والانفعالات النفسية خصوصًا إذا كبرت سنة وضعفت قوته وتحقق الورود على البرزخ، ويخاف الرجل من سوء ذنوبه ومن الحساب يوم لقاء ربه، ويحزن على أولاده وأهله بعد مفارقته إياهم، فلمزيد الفضل من الله تعالى طمأن قلوب من آمنوا به وبآياته، وعملوا الأعمال الصالحة التي بينتها لك في أول الآية في قوله تعالى: )وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(، أي أنه تعالى بدل سيئاتهم حسنات، فأمنوا على أنفسهم من الحساب يوم لقائه، وأظهر لهم سبحانه إمَّا بإلهام أو وارد أو بشرى من ولي عارف، بأن الله يكون وليًّا ووكيلًا على أولاده. تلك الآية بعد خبر الله تعالى بقوله: )فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ( تدل على أن هذه البشرى من الله تعالى لمن أقامهم الله مقام المخاطبين بكلامه؛ لأن الله لو منحهم هذا الأجر الذي هو عنده لما خطر على قلوبهم دواعي خوف أو مقتضيات حزن.
وقد يكون خوف كمل أولياء الله تعالى أشد من خوف العصاة؛ لأن أولياء الله تعالى يخافون أن يوقفهم موقف عدل، أو يحجبهم عن شهود جماله العلى، أو يبعدهم عن الأنس على بساط مؤانسته قدام وجهه. أما العصاة فخوفهم من النار التي تفرق الأجسام. أما النار التي توقد في القلوب فمنها خوف العارفين والمقربين وهي المشار إليها بقوله تعالى: )نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(. )وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( أي لا يحصل لهم حزن، والحزن قبض القلب من توقع ضرر أو غلبة عدو أو دين، أو من خوف ضياع خير أو مفارقته، والإنسان بعد أن ألف الحياة الدنيا، واعتقد أنه سبب لنفع أهل أو أولاد أو أقارب، إذا ظن أو تحقق مفارقته لهم يحزن فيكون مع كرب الموت كرب تلك الحالة، فيخفف الله عنه شدة الحزن بالبشائر عند الموت بأن الله تعالى يكون وليه ووصيه على من يفارقهم، وفى حالة الصحة يرد على قلبه الثقة بالله تعالى وانتظار النعيم المقيم يوم القيامة فيزول حزنه. وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان به بخفي ألطافه في كل دور من أدوار حياتهم مهما اعتورتهم الأهوال والشدائد؛ حتى لا يخلو فيها إنسان مهما كانت حالته من القوة والشدة والغنى، لقوله تعالى: )وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( فسبحان من له الخلق والأمر، وهو بكل شيء عليم.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية