عرضت الحلقة مشهدًا للقاء الإمام علي ومعاوية في وسط المعركة، وإصرار معاوية على دم سيدنا عثمان، وإصرار الإمام علي على البيعة، وهو من وحي خيال المؤلف…
الدكتور عبدالحليم العزمي
الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية
مسلسل «الفتنة» ومخطط إشعال الحرب المذهبية بتزييف التاريخ (6)
تحدثنا في الأعداد الماضية أن مسلسل “معاوية” الذي عُرض في شهر رمضان الماضي، لم يكن مسلسلًا عابرًا صادفت الظروف عرضه في العام الهجري 1446هـ، بل هو عمل مرتب لإشعال المنطقة طائفيًّا؛ حتى يتمكن العدو من رجالها.
وشرعنا في تقديم نقد فني متكامل للمسلسل، وقلنا: إنه إذا كان النقد الأدبي سيخرج من تلاميذ مدرسة عميد الأدب الإسلامي، فلا بد أن يكون نقدًا شاملًا ومدققًا وموثقًا، يراعي الجوانب الفنية من إخراج وكادرات تصوير وكاستينج (اختيارات ممثلين) وديكور، وكذلك الجوانب التاريخية من أحداث ووقائع، وكذلك جوانب السياق العام، وأغراض جهات الإنتاج وصناع المحتوى.
فبدأنا بالحديث عن السياق العام للعمل، ثم تحدثنا عمن وراء العمل؟ وما وراءه، وبدأنا في نقد العمل الفني من خلال عرض الكاستينج، ثم الحديث عن أخطاء السرد والإخراج الفني والديكور، ثم شرعنا في تفصيل الأخطاء التاريخية والرد عليها ردودًا علمية موثقة.
بقية سادسًا: الأخطاء التاريخية وتزييف الأحداث
الحلقة الرابعة عشرة:
بدأت الحلقة بمشهد يعتبر مخالف للتاريخ تمامًا ألا وهو: أن معاوية سمح لجيش الإمام علي بأن يأخذوا من الماء الذي كان يسيطر عليه، وقد فصلناه في نهاية الحلقة الماضية، وأوضحنا أنه ليس صحيحًا، فجميع المصادر التاريخية تؤكد منع معاوية جيش الإمام علي من السقاية، ولكن المسلسل أظهر شيئًا آخر.
تم تصوير معركة صفين كأول معركة حقيقية بالمسلسل، ولقد تم تصويرها بشكل جيد رغم ضعف المؤثرات البصرية، ولكن تم تعويض ذلك بمشاهد القتال التي تعتبر الأفضل في المسلسل من الناحية الفنية، ولكن تم اختصارها بشكل كبير جدًّا، فالمعركة استمرت قرابة ثلاثة أشهر، لكن أيام القتال الفعلية كانت نحو أسبوعين تقريبًا.
كانت المواجهة الرئيسة في صفين قرب الرقة – على نهر الفرات في سوريا اليوم – في شهر صفر 37 هـ، وتوقفت بعد مبادرة التحكيم برفع المصاحف، ولكن المسلسل اختصرها بمشهد واحد فقط.
أضف إلى ذلك كان فيها بعض الاختلافات عما ذكر في المصادر التاريخية، فالمسلسل أظهر أن جيش معاوية يحملون القرآن على الرماح ولكن دون توضيح الأمر، ولم يشر إلى حيلتهم لوقف القتال والتحكيم بكتاب الله باقتراح من عمرو بن العاص.
ذَكَرَ صَاحِبُ مَوْسُوعَةِ الإمَامِ عَلِىٍّ نقلًا عن تَارِيخِ اليَعْقُوبِىِّ، وأنْسَابِ الأشْرَافِ للبَلَاذُرِىِّ، والعِقْدِ الفَرِيدِ لابنِ عبدِ رَبِّهِ، والفُتُوحِ لابنِ أَعْثَمَ([1]):
أنَّ أصْحَابَ الإمَامِ عَلِىٍّ A زَحَفُوا وظَهَرُوا على أصْحَابِ مُعَاوِيَةَ ظُهُورًا شَدِيدًا، حتى لَصِقُوا بهِ، فدَعَا مُعَاوِيَةُ بفَرَسِهِ ليَنْجُوَ علَيْهِ. فقال لهُ عَمْرُو بنُ العَاصِ: إلى أيْنَ؟. قالَ: قد نَزَلَ ما تَرَى، فمَا عِنْدَكَ؟.
قال: لَمْ يَبْقَ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ؛ أنْ تَرْفَعَ المَصَاحِفَ، فتَدْعُوَهُمْ إلى مَا فِيهَا، فتَسْتَكِفَّهُمْ، وتُكَسِّرَ مِنْ حَدِّهِمْ، وتَفُتَّ فى أَعْضَادِهِمْ.
قال مُعَاوِيَةُ: فشَأْنَكَ، فرَفَعُوا المَصَاحِفَ، ودَعَوْهُمْ إلى التَّحَكُّمِ بمَا فِيهَا، وقالوا: نَدْعُوكُمْ إلى كِتَابِ اللهِ.
فقال الإمَامُ عَلِىٌّ: إنَّهَا مَكِيدَةٌ، ولَيْسُوا بأصْحَابِ قُرْآنٍ.
فاعْتَرَضَ الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ الكِنْدِىُّ – وقد كانَ مُعَاوِيَةُ اسْتَمَالَهُ، وكَتَبَ إلَيْهِ ودَعَاهُ إلى نَفْسِهِ – فقَالَ: قد دَعَا القَوْمُ إلى الحَقِّ.
فقال الإمَامُ عَلِىٌّ: إنَّهُمْ كَادُوكُمْ، وأرَادُوا صَرْفَكُمْ عَنْهُمْ.
فقالَ الأشْعَثُ: واللهِ، لَئِنْ لَمْ تُجِبْهُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكَ، ومَالَتِ اليَمَانِيَّةُ مَعَ الأشْعَثُ، فقَالَ الأشْعَثُ: واللهِ، لتُجِيبَنَّهُمْ إلى ما دَعَوْا إليهِ، أو لنَدْفَعَنَّكَ إلَيْهِمْ برُمَّتِكَ.
وذَكَرَ المَسْعُودِىُّ فى مُرُوجِ الذَّهَبِ([2])– فى ذِكْرِ ما جَرَى يَوْمَ الهَرِيرِ -: وكان الأشْتَرُ فى هذا اليَوْمِ – وهو يَوْمُ الجُمُعَةِ – علَى مَيْمَنَةِ عَلِىٍّ، وقد أشْرَفَ علَى الفَتْحِ، ونَادَتْ مَشْيَخَةُ أهْلِ الشَّامِ: يا مَعْشَرَ العَرَبِ، اللهَ اللهَ فى الحُرُمَاتِ والنِّسَاءِ والبَنَاتِ.
وقالَ مُعَاوِيُة: هَلُمَّ مُخَبَّآتِكَ يا بنَ العَاصِ، فقد هَلَكْنَا، وتَذَكَّرْ وِلَايَةَ مِصْرَ، فقالَ عَمْرٌو: أيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ مَعَهُ مُصْحَفٌ فليَرْفَعْهُ علَى رُمْحِهِ.
فكَثُرَ فى الجَيْشِ رَفْعُ المَصَاحِفِ، وارْتَفَعَتِ الضَّجَّةُ. ونَادَوْا: كِتَابُ اللهِ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ؛ مَنْ لِثُغُورِ الشَّامِ بَعْدَ أهْلِ الشَّامِ؟ ومَنْ لِثُغُورِ العِرَاقِ بعدَ أهلِ العِرَاقِ؟ ومَنْ لِجَهَادِ الرُّومِ؟ ومَنْ للتُّرْكِ؟ ومَنْ للكُفَّارِ؟. ورُفِعَ فى عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ نحوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ مُصْحَفٍ.
فلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ ذلكَ قالُوا: نُجِيبُ إلى كِتَابِ اللهِ ونُنِيبُ إِلَيْهِ، وأَحَبَّ القَوْمُ المُوَادَعَةَ، وقِيلَ لِعَلِىٍّ: قد أعْطَاكَ مُعَاوِيَةُ الحَقَّ، ودَعَاكَ إلى كِتَابِ اللهِ فاقْبَلْ مِنْهُ، وكانَ أَشَدَّهُمْ فى ذلكَ اليَوْمِ الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ.
وعرضت الحلقة مشهدًا للقاء الإمام علي ومعاوية في وسط المعركة، وإصرار معاوية على دم سيدنا عثمان، وإصرار الإمام علي على البيعة، وهو من وحي خيال المؤلف.
بعد رفع المصاحف وطلب تحكيم كتاب الله قبل الإمام علي بالتحكيم تحت ضغط جماعة الأشعث بن قيس، واختير أبو موسى الأشعري ممثلًا عن الإمام علي رغم عدم رغبته، وعمرو بن العاص ممثلًا عن معاوية.
بعد قبول التحكيم حدث انقسام كبير في جيش الإمام علي وخرجت جماعة الخوارج من جيش الإمام علي رافضة التحكيم ، قائلين: «لا حكم إلا لله»، مما أدى إلى معركة النهروان لاحقًا التي سنراها في الحلقات المقبلة.
استشهاد عمار بن ياسر:
لكن لا بد هنا من وقفة حول مشهد استشهاد سيدنا عمار بن ياسر 0، فقد مال المسلسل في هذه الحلقة لسردية معاوية المشوهة في تبرير استشهاده، وهو ما يتوافق مع حالة التزييف التاريخي والإعلامي التي قام بها بنو أمية.
كانَ وُجُودُ عَمَّارٍ فى صِفِّينَ بَاعِثًا على زَهْوِ البَعْضِ، ومُوَلِّدًا الذُّعْرَ فى نُفُوسِ البَعْضِ الآخَرِ، ومُثِيرًا للتَّأَمُّلِ عندَ آخَرِينَ؛ ذلكَ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ J كان قد قالَ لهُ – ما أَخْرَجَهُ البُخَارِىُّ، ومُسْلِمٌ فى صَحِيحَيْهِمِا -: (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) ([3]). وقال – ما ذَكَرَهُ نَصْرُ بنُ مُزَاحِمٍ فى وَقْعَةِ صِفِّينَ -: (يَلْتَقِى أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَعَمَّارٌ فِى أَهْلِ الْحَقِّ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ)، وقَالَ: (لَيْسَ يَنْبَغِى لِعَمَّارٍ أَنْ يُفَارِقَ الْحَقَّ، وَلَنْ تَأْكُلَ النَّارُ مِنْهُ شَيْئًا) ([4]). وقال – مَا ذَكَرَهُ ابنُ كَثِيرٍ فى البِدَايَةِ والنِّهَايَةِ، والطَّبَرَانِىُّ فى المُعْجَمِ الكَبِيرِ، والبَيْهَقِىُّ فى دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ-: (إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ) ([5]).
وذَكَرَ الخَطِيبُ البَغْدَادِىُّ فى تَارِيخِ بَغْدَادَ، وابنُ عَسَاكِرَ فى تَارِيخِ دِمَشْقَ عن أبى أيُّوبٍ قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ J يقُولُ لعَمَّارٍ: (يَا عَمَّارُ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَكَ، يَا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، إِنْ رَأَيْتَ عَلِيًّا قَدَ سَلَكَ وَادِيًا وَسَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا غَيْرَهُ فَاسْلُكْ مَعَ عَلِىٍّ، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِى رِدًى، وَلَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ هُدًى) ([6]).
ذَكَرَ الطَّبَرِىُّ فى تَارِيخِهِ، وابنُ أبى الحَدِيدِ فى شَرْحِ نَهْجِ البَلَاغَةِ عن حَبَّةَ ابنِ جُوَيْنٍ العُرَنِىِّ قال: انْطَلَقْتُ أنَا وأبو مَسْعُودٍ إلى حُذَيْفَةَ بالمَدَائِنِ، فدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فقال: مَرْحَبًا بِكُمَا، ما خَلَّفْتُمَا مِنْ قَبَائِلِ العَرَبِ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْكُمَا. فأَسْنَدْتُهُ إلى أبى مَسْعُودٍ، فقُلْنَا: يا أبَا عبدِ اللهِ، حَدِّثْنَا؛ فإنَّا نَخَافُ الفِتَنَ.
فقال: عَلَيْكُمَا بالفِئَةِ الَّتِى فيها ابنُ سُمَيَّةَ، إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ J يقُولُ: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، النَّاكِبَةُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّ آَخِرَ رِزْقِهِ ضَيَاحٌ([7]) من لبن).
قال حَبَّةُ: فشَهِدْتُهُ يَوْمَ صِفِّينَ وهو يقُولُ: ائْتُونِى بآَخِرِ رِزْقٍ لى مِنَ الدُّنْيَا. فأُتِىَ بضَيَاحٍ من لَبَنٍ فى قَدَحٍ أَرْوَحَ([8])، له حَلْقَةٌ حَمْرَاءٌ، فمَا أَخْطَأَ حُذَيْفَةُ مِقْيَاسَ شَعْرَةٍ، فقالَ:
اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبـه
واللهِ، لو ضَرَبُونَا حتَّى يَبْلُغُوا بنَا سَعَفَاتِ([9]) هَجَرَ لعَلِمْنَا أنَّا علَى الحَقِّ، وأنَّهُمْ علَى البَاطِلِ، وجعلَ يقُولُ: المَوْتُ تَحْتَ الأَسَلِ، أى: الرِّمَاح، والجَنَّةُ تَحْتَ البَارِقَةِ، أى: بَارِقَةِ السِّيُوفِ.
ثُمَّ حَمَلَ وحَمَلَ عَلَيْهِ ابنُ حُوَىٍّ السَّكْسَكِىُّ وأبو العَادِيَةِ، فأمَّا أبو العَادِيَةِ فطَعَنَهُ، وأمَّا ابْنُ حُوَىٍّ فاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وقد كَانَ ذو الكَلَاعِ يَسْمَعُ عَمْرَو بنَ العَاصِ يقُول: إنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ يَقُولُ لِعَمَّارٍ: (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَآَخِرُ شُرْبِكَ ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ) فقالَ ذُو الكَلَاعِ لعَمْرٍو: وَيْحَكَ ما هذا؟ قال عمرو: إنَّهُ سَيَرْجِعُ إلَيْنَا ويُفَارِقُ أبا تُرَابٍ. فقُتِلَ ذُو الكَلَاعِ قبل عَمَّارٍ معَ مُعَاوِيَةَ، وأُصِيبَ عَمَّارٌ بَعْدَهُ معَ عَلِىٍّ. فقال عَمْرٌو لمُعَاوِيَةَ: ما أَدْرِى بقَتْلِ أَيِّهِمَا أنَا أَشَدُّ فَرَحًا؛ بقَتْلِ عَمَّارٍ، أو بقَتْلِ ذِى الكَلَاعِ، واللهِ لو بَقِىَ ذُو الكَلَاعِ بعد قَتْلِ عَمَّارٍ لمَالَ بِعَامَّةِ أهلِ الشَّامِ إلى عَلِىٍّ، ولأَفْسَدَ عَلَيْنَا أَمْرَنَا([10]).
قال ابنُ كَثِيرٍ فى البِدَايَةِ والنِّهَايَةِ، وابنُ أبى الحَدِيدِ: وكانَ لَا يَزَالُ يَجِىءُ رَجُلٌ فيَقُولُ لمُعَاوِيَةَ وعَمْرٍو: أنا قَتَلْتُ عَمَّارًا، فيَقُولُ لهُ عَمْرٌو: فما سَمِعْتَهُ يقُولُ؟ فيَخْلِطُ، حتَّى أَقْبَلَ ابنُ حُوَىٍّ، فقالَ: أنَا سَمِعْتُهُ يقُولُ:
اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبـه
فقَالَ لَهُ عَمْرٌو: صَدَقْتَ أنتَ، إنَّكَ لصَاحِبُهُ، ثُمَّ قالَ لهُ: رُوَيْدًا، أما واللهِ ما ظَفِرَتْ يَدَاكَ، ولقد أَسْخَطْتَ رَبَّكَ([11]).
لمَّا تَجَنْدَلَ هذا الشَّيْخُ الجَلِيلُ الفَتِيُّ القَلْبِ، ذُو القَدِّ المَمْشُوقِ، وتضَمَّخَ بدَمِهِ، وشَرِبَ كَأْسَ المَنُونِ؛ كَبُرَ ذلكَ على كِلَا الجَيْشَيْنِ. ورَأَى مُثِيرُو الفِتْنَةِ ومُسَعِّرُو الحَرْبِ ما أَخْبَرَ بهِ رسولُ اللهِ J بأُمِّ أَعْيُنِهِمْ، وإذْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَصْمَةُ (الفِئَةُ البَاغِيَةُ) فلا بُدَّ أنْ يَحْتَالُوا بتَنْمِيقِ فِتْنَةٍ أُخْرَى وخَدِيعَةٍ ثَانِيَةٍ؛ ليَحُولُوا دُونَ تَضَعْضُعِ جُنْدِهِمْ.
ذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ فى البِدَايَةِ والنِّهَايَةِ، والطَّبَرِىُّ فى تَارِيخِهِ، وابنُ الأَثِيرِ فى الكَامِلِ عن أبى عبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ قال: قال عبدُ اللهِ لأَبِيهِ – أى: عَمْرِو بنِ العَاصِ -: يا أَبَه قَتَلْتُمْ هذا الرَّجُلَ فى يَوْمِكُمْ هذا، وقد قالَ رسولُ اللهِ J ما قالَ. قال: ومَا قالَ؟. قال: أَلَمْ يَكُنِ المُسْلِمُونَ والنَّاسُ يَنْقُلُونَ فى بِنَاءِ مَسْجِدِ النَّبِىِّ J لَبِنَةً لَبِنَةً، وعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فغُشِىَ عَلَيْهِ، فأتَاهُ رسولُ اللهِ J فجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عن وَجْهِهِ ويقولُ: (وَيْحَكَ يَا بْنَ سُمَيَّةَ، النَّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَأَنْتَ تَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ رَغْبَةً فِى الأَجْرِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ).
فدَفَعَ عَمْرٌو صَدْرَ فرَسِهِ ثُمَّ جَذَبَ مُعَاوِيَةَ إليه فقالَ: يا مُعَاوِيَةُ أمَا تَسْمَعُ ما يقولُ عبدُ اللهِ. قال: وما يقولُ؟ فأخْبَرَهُ.
فقالَ مُعَاوِيَةُ لعَمْرٍو: ألاَ تُنْئِى عَنَّا مَجْنُونَكَ هذَا؟ ثُمَّ أقْبَلَ مُعَاوِيَةُ على عبدِ اللهِ فقالَ لهُ: فلِمَ تُقَاتِلُ مَعَنَا؟ فقالَ لهُ: إنَّ رسولَ اللهِ J أَمَرَنِى بطَاعَةِ والِدِى ما كانَ حَيًّا، وأنا معَكُمْ ولسْتُ أُقَاتِلُ.
فقالَ مُعَاوِيَةُ: أنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ.. فخَرَجَ النَّاسُ من فَسَاطِيطِهِمْ وأَخْبِيَتِهِمْ يقُولُونَ: إنَّمَا قَتَلَ عمَّارًا من جَاءَ بهِ. فلا أَدْرِى مَنْ كَانَ أَعْجَبَ؟ أهُوَ أم هُمْ([12]).
وجَاءَ فى كتَابِ شَرْحِ نَهْجِ البَلاَغَةِ لابنِ أبى الحَدِيدِ: قالَ مُعَاوِيَةُ لمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ – واضْطَرَبَ أهلُ الشَّامِ لرِوَايَةِ (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) -: إنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ إلى الحَرْبِ وعَرَّضَهُ للقَتْلِ.
فقالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ A: فَرَسُولُ اللهِ J إِذَنْ قَاتِلُ حَمْزَةً([13]).
وذَكَرَ ابنُ أَعْثَمَ فى الفُتُوحِ: أنَّ عبدَ اللهِ ابنَ عَمْرٍو قالَ: وكذَلِكَ حَمْزَةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ يوْمَ أُحُدٍ إنَّمَا قَتَلَهُ النَّبِىُّ J ولَمْ يَقْتُلْهُ وَحْشِىٌّ؟!!([14]).
الحلقة الخامسة عشرة:
بدأت الحلقة بمشهد لعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري يبدو عليهما التعب والحزن بسبب ما حدث ومن كمية الدماء التي سفكت، ثم اتفق الحكمان على أن يخلعا الإمام عليًّا ومعاوية من الحكم ويتم اختيار خليفة جديد عن طريق الشورى، وكان مقررًا أن يُعلن أبو موسى هذا القرار أولًا، ثم يُؤيده عمرو بن العاص، ولكن عند الإعلان الرسمي في مكان يُدعى دومة الجندل وقف أبو موسى وقال:”إني قد رأيت أن أُعْزِلَ عليًّا ومعاوية، وتُترك الأمة تُختار لها خليفة”.
لكن عمرو بن العاص – خلافًا للاتفاق – قال بعد أبي موسى: “إن هذا (أبا موسى) قد عزل صاحبه، وأنا أُقِرُّ صاحبي معاوية.
بهذا نقض عمرو الاتفاق، مُحافظًا على شرعية معاوية.
ثم شاهدنا في الحلقة كيف بدأ تجمع الخوارج وبيعتهم لابن وهب على قيادتهم، ثم راحوا يهاجمون المسلمين.
ثم ظهر مشهد مجيء أحد ولاة الإمام علي إلى معاوية ومبايعته سرًّا، وهو من خيال المؤلف أيضًا، إذ لا يوجد في المصادر التاريخية الموثوقة ما يؤكد أن أحد ولاة الإمام علي المباشرين قد بايع معاوية سرًّا خلال فترة خلافته.
ومع ذلك، تذكر بعض الروايات أن الأشعث بن قيس الكندي كان يتعامل مع معاوية سرًّا، لكنه لم يكن واليًا مُعيّنًا من قِبَل الإمام علي، بل كان من قادة جيشه الذين انشقّ قسم منهم لاحقًا كالخوارج، أي أن المشهد غير صحيح .
ثم شاهدنا سيدنا مالكًا الأشتر النخعي 0 قد سقط عن حصانه ومات، ولكن لم يوضح لنا المسلسل سبب ذلك، فتاريخيًّا استشهد الأشتر سنة 38 هـ في ظروف مثيرة للجدل، حيث تشير أغلب المصادر التاريخية إلى أنه سُمِّم أثناء توجهه إلى مصر ليتولى ولايتها بناءً على تعيين الإمام علي، حيث أنه بعد معركة صفين عيَّن الإمام علي مالكًا الأشتر واليًا على مصر لتحسين إدارتها، فخشي معاوية بن أبي سفيان من وصول مالك الأشتر إلى مصر، نظرًا لشدة مهارته العسكرية والإدارية، مما قد يُعزِّز موقف الإمام علي ضد الأمويين.
تذكر مصادر مثل تاريخ الطبري والكامل في التاريخ لابن الأثير: أن معاوية أوعز إلى أحد عملائه بتسميم مالك الأشتر خلال رحلته إلى مصر.
ثم رأينا كيف استرجع عمرو بن العاص السيطرة على مصر بعد القتل الوحشي لسيدنا محمد بن أبي بكر 0، ولكن ما رأيناه فيه اختلاف عن الحقيقة، حيث تشير أغلب المصادر التاريخية إلى أن قوات معاوية قتلته خلال اجتياح مصر مقتلة وحشية ذبحًا وحرقًا.
عاد المسلسل إلى تجاهل المعارك والاكتفاء بنقلها لنا عن طريق الحوارات بين الشخصيات، فدار حديث بين معاوية ومعاونه بأن الإمام عليًّا انتصر على الخوارج في معركة النهروان، رغم أن معركة النهروان هي واحدة من أبرز المعارك الداخلية في التاريخ الإسلامي المبكر، دارت بين جيش الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفرقة الخوارج الذين خرجوا عن طاعته بعد رفضهم نتائج تحكيم صفين وقتلوا المسلمين ورفضوا مراجعات الإمام علي لهم، أو المراجعات عن طريق عبدالله بن عباس 0.
ثم رأينا كيف اتفق الخوارج على قتل أهم ثلاث شخصيات في ذلك الوقت وهم: الإمام علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وكما نعلم أنهم فشلوا في ذلك؛ إلا ابن ملجم فلقد نجح بقتل سيدنا علي A.
تنفيذ المشهد لم يكن موفقًا، وكان تنقل الكاميرا من هنا لهناك غير واضح.
وخلال كل هذه الأحداث، أصر صناع المسلسل على تغييب غريب لشخصية الإمام الحسين بن علي A، فيما بدا بأنه إصرار متعمد منهم.. وإلى اللقاء المقبل لنستكمل تفنيد أخطاء باقي الحلقات.
أسأل الله أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الربانى، الذى به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر
====================
.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.
([1]) ينظر: موسوعةُ الإمام علىٍّ للري شهرى 3/504 – 505 ح2570 – 2571 نقلًا عن تَارِيخِ اليَعْقُوبِىِّ 2/188، وأنْسَابِ الأشْرَافِ للبَلَاذُرِىِّ 3/98، والعِقْدِ الفَرِيدِ لابنِ عبدِ رَبِّهِ 3/340، والفُتُوحِ لابنِ أَعْثَمَ 3/180.
([2]) ينظر: مروج الذهب للمسعودي 2/400.
([3]) ينظر: صحيح البخارى 1/172 ح436 و3/1035 ح2657، وصحيح مسلم 4/2235 ح70 وص2236 ح72.
([4]) ينظر: وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص335.
([5]) ينظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/354، والمعجم الكبير للطبرانى 10/96 ح10071، ودلائل النبوة للبيهقى 6/422.
([6]) ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 13/187 ح7165، وتاريخ دمشق لابن عساكر 42/472.
([7]) اللبن الرقيق الكثير الماء.
([9]) النَّخل، أو وَرَق الأغصان.
([10]) ينظر: تاريخ الأمم والملوك للطبرى 3/98، وشرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 10/23 خ124.
([11]) ينظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/350، وشرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 10/23 خ124.
([12]) ينظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/351 – 353، وتاريخ الأمم والملوك للطبرى 3/99، والكامل فى التاريخ لابن الأثير 2/382.
([13]) ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 24/223 في الحِكْمَةِ 835.