من الآداب الاجتماعية المهمة التي ينبغي على المربين أن يُعيروها اهتمامهم تعويد الولد منذ الصغر على أدب الكلام، وأسلوب الحديث، وأصول الحوار؛ حتى إذا ترعرع الولد، وبلغ سن البلوغ عرف كيف يُحدث الناس، وكيف يستمع منهم، وعلم كيف يحاورهم ويدخل السرور عليهم…
الدكتور جمال أمين
بقية: التزام الآداب الاجتماعية العامة
5- أدب الحديث:
ومن الآداب الاجتماعية المهمة التي ينبغي على المربين أن يُعيروها اهتمامهم تعويد الولد منذ الصغر على أدب الكلام، وأسلوب الحديث، وأصول الحوار؛ حتى إذا ترعرع الولد، وبلغ سن البلوغ عرف كيف يُحدث الناس، وكيف يستمع منهم، وعلم كيف يحاورهم ويدخل السرور عليهم.
(أ) التحدث باللغة العربية الفصحى:
لكون اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولغة نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولغة الرعيل الأول من أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولغة من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فمن الجحود لهذه اللغة أن نعدل عنها، ونتكلم بلغة عامية لا تمت إلى العربية بصلة ولا بنسب، وزينة الإنسان فصاحة لسانه، وجمال الرجل حلاوة منطقه.
روى الحاكم في مستدركه عن علي بن الحسين 0 قال: أقبل العباس 0 إلى رسول الله J وعليه حُلتان، وله ضفيرتان، وهو أبيض، فلما رآه تبسّم، فقال العباس: يا رسول الله ما أضحكك؟ أضحك الله سنّك، فقال: (أعجبني جمال عم النبي) J، فقال العباس: ما الجمال؟ قال: (اللسان)، وعند العسكري: ما الجمال في الرجل؟ قال: (فصاحة لسانه).
روى الشيرازي والديلمي عن أبي هريرة 0 قال: قلنا: يا رسول الله ما رأينا أفصح منك قال: (إن الله تعالى لم يخلقني لحانًا، اختار لي خير الكلام: كتابه القرآن).
(ب) التمهل بالكلام أثناء الحديث:
ومن أدب الحديث التمهل في الكلام؛ حتى يفهم المستمع المراد منه، ويعقل مَن في المجلس مغزى الحديث ويتدبروه، وهذا ما كان يفعله النبي J تعليمًا لأمته؛ روى الشيخان عن عائشة 1: وما كان رسول الله J يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدث حديثًا لو عدّه العادُّ لأحصاه. وزاد الإسماعيلي في روايته: إنما كان حديث رسول الله J فهمًا تفهمه القلوب.
وروى أبو داود عن عائشة 1 قالت: كان كلامه J فصلًا يفهمه كل من سمعه.
(ج) النهي عن التكلف في الفصاحة:
ومن أدب الحديث الابتعاد عن التنطع في الكلام، والتكلف في فصاحة اللسان؛ لما روى أبو داود والترمذي بالسند الجيد عن ابن عمر 5 أن رسول الله J قال: (إن الله U يُبغض البليغ من الرجال: الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقر بلسانها)([i]).
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي J كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم سلم عليهم. وكان J يتكلم بكلام فصل لا هزر ولا نزْر([ii])، ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به، أي: التكلف.
(د) المخاطبة على قدر الفهم:
ومن أدب الحديث أن يتحدث المتكلم بأسلوب يناسب ثقافة القوم، ويتفق مع عقولهم وأفهامهم وأعمارهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نُحدث الناس على قدر عقولهم)([iii]).
وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود 0 قال: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
وللديلمي عن ابن عباس 5 رفعه: (لا تحدثوا أمتي من أحاديثي إلا ما تحمله عقولهم، فيكون فتنة عليهم).
(ھ) التحدث بما لا يُخل ولا يُمل:
ومن أدب الحديث إعطاء الحديث حقه حيث لا يصل إلى الاختصار المخلّ، ولا إلى التطوال الممل، ليكون الحديث أوقع في نفوس السامعين، وأشوق إلى قلوبهم. روى مسلم عن جابر بن سمرة 0 قال: كنت أصلي مع النبي J، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا (أي وسطًا). وروى الإمام أحمد وأبو داود كم حديث حكيم بن حزام 0 قال: شهدت مع رسول الله J الجمعة، فقام متوكئًا على عصا – أو قوس – فحمد الله وأثنى عليه، فكانت كلمات خفيفات طيبات مباركات.
وفي الصحيحين: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكّرتنا كل يوم، فقال: إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخوّلكم (أتعهدكم) بالموعظة، كما كان رسول الله J يتخوّلنا مخافة السآمة علينا.
ولا بأس بالاستشهاد بشواهد الشعر، وطرائف الحكمة، لقول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: [إن القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة].
(و) الإصغاء التام إلى المتحدث:
ومن أدب الحديث الإصغاء التام إلى المتحدث، ليعي السامع ما يقول، ويستوعب ما يحدث، فكان الصحابة حينما يحدثهم النبي J بحديث كأن على رؤوسهم الطير من فرط المهابة، وشدة الاهتمام.
وفي مقابل هذا كان النبي J يصغي كل الإصغاء من يحدثه أو يسأله، بل يقبل عليه بكليته ويلاطفه، روى ِأبو داود عن أنس 0 قال: ما رأيت رجلًا التقم أُذُن النبي J – يعني يكلمه سرًّا – فينحّي رأسه عنه (أي يرفعه عنه)؛ حتى يكون الرجل هو الذي يّنحي رأسه، وما رأيت رسول الله J أخذ بيد رجل فترك يده؛ حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده.
(ز) إقبال المتحدث على الجلساء جميعًا:
ومن أدب الحديث أن يقبل المتحدث بنظراته وتوجيهاته على الجلساء جميعًا، حيث يشعر كل فرد منهم أنه يريده ويخصه.
روى الطبراني بإسناد حسن عن عمرو ابن العاص قال: كان رسول الله J يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم، يتألفه بذلك. وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ؛ حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله أنا خير أم أبو بكر؟، فقال: (أبو بكر)، قلت: يا رسول الله أنا خير أم عمر؟ قال: (عمر)، قلت: يا رسول الله أنا خير أم عثمان؟ قال: (عثمان)، فلما سألت رسول الله J صدّ عني، فوددت أني لم أكن سألته.
(ح) مباسطة الجلساء أثناء التحدث وبعده:
ومن أدب الحديث مباسطة المتحدث جلساءه أثناء الحديث وبعده، حتى لا يشعروا بالسأم، ولا ينتابهم الملل أثناء الحديث.
روى الإمام أحمد عن أم الدرداء 1 قالت: كان أبو الدرداء إذا حدّث حديثًا تبسّم، فقلت: لا، يقول الناس: إنك أحمق – أي: بسبب تبسمك في كلامك – فقال أبو الدرداء: ما رأيت أو سمعت رسول الله J يحدّث حديثًا إلا تبسّم، فكان أبو الدرداء إذا حدث حديثًا تبسم اتباعًا لرسول الله J في ذلك.
وروى مسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة 0: أكنت تجالس رسول الله J؟ فقال جابر: نعم كثيرًا. كان رسول الله J لا يقوم من مصلَّاه الذي فيه يصلي الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون – والرسول جالس – فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويبتسم J.
وهذه أهم القواعد التي وضعها الإسلام في آداب الحديث، فما على المربين إلى أن يأخذوها بها، ويعلموها أبناءهم ليعتادوها في حياتهم الاجتماعية وفي تعاملهم مع الناس.
=========================
([i]) قال في النهاية: هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا. اهـ.
([ii]) الهزر والنزر: الكثير والقليل.
([iii]) رواه الديلمي بسند ضعيف وله شواهد كثيرة مما رفع الحديث إلى مرتبة الحسن لغيره، راجع كتاب (كشف الخفاء) للعجلوني لفظ: أمرنا.