المراد من رُوح القدس: الرُّوح المقدسة؛ كما يقال: حاتم الجود، ورجل صدق، فوصف جبريل بذلك تشريفًا له وبيانًا لعلو مرتبته عند الله تعالى….
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
بيِّنات عيسى A الجلية كانت سببًا في كفر أتباعه ومَن بعدهم
)الْبَيِّنَاتِ( التي أُوتيها عيسى A؛ أي: الحقائق المعجزة الظاهرة للحس من غير أن يُعلم لها سبب: كإحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، وكالإخبار عن الغيب، وكخلق الطير من الطين؛ والنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله.
وتلك الآيات البينات التي أظهرها عيسى A أمام قوم لا يميزون بين الخالق والمخلوق، ولا بين القاهر والمقهور، ولا بين التنزيه والتشبيه، لم تسعها عقولهم، ووسعها حسهم؛ فقال له “بطرس” الذي هو أصدق أتباعه: أنت الرب!.
فمزق عيسى A ثيابه ونتف لحيته وقال: لقد قلت كلمة أغضبت الرب سبحانه وتعالى، ولتنكرني بعد.
فلما دل عليه يهوذا أعداءه من الرومان والكتبة، وبحثوا عن أصحابه، فقال لهم بطرس، – الذي قال له أنت الرب -: أنا لا أعرفه.
فكانت بيناته الجلية سببًا في كفر أتباعه ومن بعدهم.
رسول الله o جاءنا بالعلم والمعرفة وبالفضائل كلها
أما معجزات رسول الله o وبيناته؛ فإنها محصورة في القرآن المجيد، الذي بيَّن أن سيدنا محمدًا o عبد الله ورسوله؛ وأنه رحمة للعالمين؛ لأنه o جاءنا بالعلم والمعرفة وبالفضائل كلها، حتى نالت القوة الإنسانية منه o قُوتَها لكل نوع من: الرُّوح، والعقل، والنفس، والخيال، والوهم، والفكر، والحس، والجسم.
وبذلك كان خاتم الرسل وسيدهم بما جاء به من الخير العام لعامة الخلق.
من معاني رُوح القُدُس؟
وفي تفسيره لقوله تعالى: )وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ( [البقرة: 87] يبين الإمام المجدِّد أن رُوح القُدُس: هو جبريل على الأصح، وجائز أن يكون هو الإنجيل بدليل قوله تعالى: )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا( [الشورى: 52].
وقد ذكر الرازي أنه اخْتُلِفَ في الرُّوح على وجوه:
أحدها: أنه جبريل A، وإنما سمي بذلك لوجوه:
الأول: أن المراد من رُوح القدس: الرُّوح المقدسة؛ كما يقال: حاتم الجود، ورجل صدق، فوصف جبريل بذلك تشريفًا له وبيانًا لعلو مرتبته عند الله تعالى.
الثاني: سمي جبريل A بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالرُّوح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء، والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم.
الثالث: أن الغالب عليه الرُّوحانية – وكذلك سائر الملائكة -؛ غير أن رُوحانيته أتم وأكمل.
الرابع: سمي جبريل A رُوحًا، لأنه: ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات.
وثانيها: المراد برُوح القدس: الإنجيل، كما قال في القرآن: )رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا( [الشورى: 52]، وسمي به لأن الدين يحيا به؛ ومصالح الدنيا تنتظم لأجله.
وثالثها: أنه الاسم الذي كان يُحْيِي به عليه السلام الموتى.
ورابعها: أنه الرُّوح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله تعالى، فنسب رُوح عيسى A إلى نفسه تعظيمًا له وتشريفًا؛ كما يقال: بيت الله، وناقة الله.
وعلى هذا فالمراد به: الرُّوح الذي يحيا به الإنسان.
وفي تفسير الشيخ سيد طنطاوي: أن رُوح القدس هو جبريل A؛ قال تعالى: )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ( [النحل: 102]، والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي: الرُّوح المقدس.
ووصف بالقدس لطهارته وبركته، وسمي رُوحًا لمشابهته الرُّوح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر؛ فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية: تحيا به القلوب، والروح: تحيا به الأجسام.
ويقول الشيخ العقاد في معنى قوله تعالى: )وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ(: يعني: نصرناه ورفعنا شأنه بالرُّوح القدسية التي نفخت فيه وصيرته طاهرًا من الأغيار، والقدس: صفة الحق، والقدوس: اسم الحق، والمقدس: هو العبد الذي واجهه القدوس فطهره من الأكوان والحظوظ والفتن وصيره عبدًا لجنابه، والوادي المقدس: هي الأرض التي كلم الله سيدنا موسى عليها فتطهرت وعمتها البركة وحفظت من المعاصي.
ويقول الإمام أبو العزائم في إحدى قصائده مخاطبًا المصطفى o:
يا أبا الزَّهْرَا وجَـــدَّ الحسنَيْنِ
يا إمامَ الرُّسلِ قُــرَّةَ كُلِّ عَيْنِ
أنت نورُ اللهِ والسِّـــــرُّ الذِي
قد تجلَّى مشرقًا في النشأتَيْنِ
أنتَ رُوحُ القدسِ نورُ هِدَايةٍ
قد أمَــــــدَّ اللهُ منكَ العَالَمَيْنِ
وفي تفسيره “أسرار القرآن” يقول الإمام: أما المعنى الذي يجب أن يبيَّن لأهل مقام الإحسان والإيقان؛ فحظر أن يُسطر على الأوراق، وإنما يتلقاه الفرد عن الفرد، كما قال عليٌّ A: “حتى يودعوها قلوب نظرائهم وأشباههم”.
سر بُغض اليهود للأنبياء والرسل
يقول الله تعالى: )أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ( [البقرة: 87]، هذه الآية – وإن سيقت في مقام الخبر -؛ فإنها تقرير للحقائق التي يشنع الله بها عليهم.
وذلك أن اليهود من بني إسرائيل كانوا يبغضون الأنبياء والرسل؛ لأنهم يكشفون للناس ما فيهم مما يبغضه الله تعالى من سلب أموال الناس، ومن الكبرياء عليهم، ودعوى أنهم ينفعون ويضرون ويغفرون الخطايا ويحلون ويحرمون.
والرسل عليهم الصلاة والسلام يقيمون عليهم الحجة بتكذيبهم فيما يدعون من أنهم ينفعون ويضرون ويغفرون الذنوب، ويبيعون الجنة لمن يشتريها، وغير ذلك من الحقائق التي هي خاصة بالله تعالى، وكل ذلك لجمع المال، وتنفيذ الكلمة، وحب الرياسة.
ولذلك يقول الله تعالى: )فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ( أي: فريقًا من الأنبياء كذبتم بأباطيلكم، وخدعتم سواد الأمة بزخرف أقوالكم، ممن لم تكن لهم عصبة يتأثرون بإقامتهم الحجة.
)وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ( ممن كانت لهم عصبة إذا أقاموا الحجة لله نصروهم، فكادوا لهم قبل أن يتأثر بهم العامة وقتلوهم، كما قتلوا كثيرًا من الأنبياء الذين منهم يحيى وزكريا وغيرهما، وكما أغروا الرومان على قتل عيسى A، فأنجاه الله ورفعه إليه.