الحكمة السابعة والسبعون بعد المائة
صَلَّى عليكَ بِهُويَّتِه، ليجْذبكَ إلـى الـغـيْـب المَصُون، وصَلَّى على حَبِيبِه ومُصْطفَاه بأحَديَّة ذاتِــه، لـتـعْلـم قــدْرَك في جَانبِه صلى الله عليه وآله وسلم.
الأستاذ سميح محمود قنديل
الصلاة معروفة لغة واصطلاحا ولها عدة أنواع:
أ- صلاة الله علي المؤمنين.
ب- صلاة الله والملائكة على حضرة النبى.
ج- صلاة النبى o علينا.
د- صلاة العباد على النبى.
ھ- صلاة الله المفروضة على المسلمين بمعنى الصلة والدعاء، وكلها لها فى القرآن آيات بينات.
وفى هذه الحكمة يقول الإمام 0: “صَلَّى عليك بهُويتِه”، الخطاب هنا للعبد المؤمن الذى صلى عليه الله U مع من صلى، فى قوله سبحانه: )هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا( [الأحزاب: 43]، والصلاة من الله على العبد منحة ربانية، وسابقة حسنى أولية، فيصله سبحانه به، ويتعهده بالهداية والعناية، ليخرجه بها من ظلمات حسه ونفسه، ووهمه وكونه، وجهله وظلمه، وبعده وكفره، إلى نور التوحيد الخالص، واليقين الحق، والإيمان والرحمة، والطاعة والعبودية، والسكينة والنور والأخلاق، والملائكة أيضًا تصلى عليه، أى تدعو له وتحفظه من شياطين الإنس والجن.
والصلاة علينا كانت بالهُوية، يعنى بالضمير المشير إلى الذات العلية: (هوَ) ليجذبنا ربنا بها إلى الغيب المصون، والسر المكنون، فما معنى الهوية ودلالتها فى الآية القرآنية؟.
أشار سيدي عبد الكريم الجيلي 0 إلى الهُوية الإلهية أنها من بحر قوله تعالي: )هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ( بدأ بالاسم: (هو) وختم بالاسم: (هو) فما من اسم إلهي إلا وهو عين الهوية، حيث إن كل اسم إلهي عبارة عن دائرة تظهر بحكم الهوية في أربع مراتب، وهي: الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، فكل اسم من أسمائه تعالي حكمه دوري في تلك الأربعة مراتب لسرِّ الاسمين: المبدئ والمعيد، والأول بحكم الهوية هو عين الآخر، والظاهر بحكم الهوية هو عين الباطن، والأولية والآخرية والظاهرية والباطنية، لهم سريان الأحكام في سائر الشئون الدنيوية والبرزخية والأخروية، فإذا تحققت بذلك انكشف لك أولك وآخرك، وظاهرك وباطنك، وتجلي لك كتابك وصراطك وميزانك، وميزت جنتك من نارك، وعاينت قيامتك: )كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(، فأنت عين الشأن، قال تعالى: )كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ(، فهويته عينك، والشئون الأسماء، قال تعالى: )إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(؛ لأن الحكم لهم من جهة حقائقهم، فقد حكمت عليهم حقائقهم به بما كانوا عليه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وفى كتابه: “السر الأعظم” يقول الدكتور مصطفى محمود 6:
ومقام الهُوية الإلهي هو مقام الجمع بين الضدين: الأول والآخر والظاهر والباطن من عين واحدة، بلا تقابل وبلا جهة، والعارف لا يصل إلى الجمعية مع الله إلا ببلوغه هذه الدرجة من الجمع بين الضدين، فى ثبوت عينه وفنائه حال المشاهدة، وانتفاء الجهات بالنسبة له، وهو بهذا يعلم مكانه من حيث هو صورة رامزة للحق: )ومَا رمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنَّ اللهَ رَمَى(.
وهذا هو مقام الهُوية الإلهية، وهو أعلى مقام وأخفى مقام، وليس لأحد فيه قَدَم، وبهذه الدرجة نفسها مقام الأحدية، فالأحد هو الآخر مقام عزيز منيع الحمى، ولم يزل في العمى، لا يصح له تجل أبدًا فإن حقيقته تمنع ذلك، يقول ابن عربي: إنه الوجه الذى له السبحات المحرقة فكيف هو؟، فلا تطمعوا يا إخواننا في رفع هذا الحجاب، فإنكم تجهلون.
والهُوية يعبر عنها الإمام أبو العزائم 0 بحرف: “الهَاء”، والهاء كما نعلم أعمق الحروف نطقًا ومخرجًا وصدورًا، فهي تخرج من الصدر من الجوف، بعكس حروف أخرى سطحية مثل: الصاد والسين والميم تخرج من اللسان والشفتين، ولذلك يتكلم عن: “هاءِ الهُوية”، ويعتبر الصاد والسين رموزًا للجسد وهو: (الرسم والسور)، وهذا كلام أهل المشاهدات، ولا قدَم فى هذا الموضوع إلا لمن شاهد.
إن الشمس تنجلى فى مرآة القمر، وليس فى القمر من الشمس شيء، كما أن نور الشمس من حيث عينها هي من تجلى اسمه النور، دونما حلول، فليس في الخلق من الخالق شيء، وليس هناك تكرار في المظاهر الإلهية برغم الكثرة؛ لأن كل شيء له وجه خاص يختلف به عن مثيله، فلا مثلية إلا في الظاهر، وهذا الوجه الخاص هو صلة كل شيء بالله، وهو سر الإبداع الإلهي الذي لا يكرر نفسه، ولا يمكن أن يكون العبد رب بأوصاف تجلى بها الرب عليه، فالعبد عبد وإن علا، والرب رب وإن تنزل.
والواحد كما نعلم مندرج في جميع الأعداد وسار فيها، والأعداد هي مضاعفات الواحد، وهى تكشف لنا جميع الاحتمالات الرياضية والحسابية في الرقم واحد، وهى تفصيل ما أُجمل واستسر فيه، فالواحد متنكر في الأعداد، يقول الإمام أبو العزائم 0: ولولا التنكر لم يلح معدود، ويقول نظمًا:
إن التنكُّرَ حِصْنَنا في سِرِّنَا
لـولا التَّنـكُّر دُكَّتِ الأكـوَان
والأحدية غير الواحدية، فالأحدية صفة الذات المقدسة التي هي غيب عن الأرواح والعقول، ولكن الحق أفاض على نبيه قوة إلهية تحقق بها بمقام شهود آيات الذات: )لقدْ رأى من آيَاتِ رَبِّه الكُبْرى(، يعنى الآيات الخاصة بذات الحق، فالله اسمه الأحد، وصفته الأحدية، وهى إشارة لحضرة الذات بدون ملاحظة الأسماء والصفات، ولم يفز بأولية الحقية في مقام الأحدية إلا رسول الله o.
ومن أسماء الله تعالى: الواحد، وصفته الواحدية، ومعناه: تنزل أنوار الحق في مجالي الأسماء والصفات، فتخفى بقوة أنوارها الكائنات، فالمشاهد للوحدانية يرى أنوار الأسماء ويستغرق فيها ولا يلاحظ الآثار؛ لأنه يرى الضار والنافع، والمعطى المانع.
والوحدانية صفة الحق، التي جمع الله فيها بين أنوار الأحدية، وتجلى الواحدية، وظهور المظاهر الكونية، وذلك من عجائب القدرة الإلهية، فإن المشاهد للذات الأحدية يذهل بالكلية عن مشاهدة أسمائها وصفاتها، ولكن المصطفى o جمله الله بشهود الذات في عين شهود الأسماء والصفات، في عين إثبات الآثار، ومراتب الوجود، وإقامة الحدود والقيود، فسبحان المعطى الوهاب.
واعلم أن الإنسان – وهو أكمل النسخ وأتم النشآت – مخلوق على الوحدانية لا على الأحدية، فهو واحد وليس مطلق أحد، فالوحدانية لا تقوى قوة الأحدية، والواحد لا يناهض الأحد، ولأن الأحدية صفة ذاتية للذات الهوية، فلهذا جاء الأحد مع أوصاف التنزيه للرب فى سورة الإخلاص: )قلْ هوَ اللهَّ أحَد(.
وإذا كانت حضرة تشبيه ولا تشبيه، وحضرة تمثيل ولا مثيل، وإذا كانت هى ضرب أمثلة بالصور والتجليات، وإيماء بالظاهر للتنبيه على الباطن، وبالعدد للتنبيه على الواحد، وبالمشهود للتنبيه على الغائب، فما هو ذلك الغائب المشهود، الباطن الظاهر، الواحد الأحد؟.
هو: الهـُوَ، هو الذات والوجه: )كلّ شَيٍء هَالِكٌ إلَّا وجْهَه(، والمقصود، تهلك الأشياء أما وجهها – أى ذاتهـا – فلا تهلك، وليس المقصود بالوجه هنا وجه الله؛ لأن الله ليس شيئًا بل ليس كمثله شيء، يقول ابن عربي 0: لو عُرف الهُوَ لما كان هُوَ.
ويقول إمامنا أبو العزائم 0 عن الذات الإلهية:
هىَ فى كنْزِ العَمَا ليسَت تُرى
إن تجَلَّت أصْعَقت أهلَ الكَمَــال
والجَلالُ لها سِياجٌ مانـِـــــــــعٌ
عن حِمَاها كلَّ روحٍ أو عِقـَــال
نُزهَت عن أن يرَاهَا غيرُهَـــا
أشْرقتْ بالاجْتلا حَالَ انفصَـال
مَظهرٌ يُجْلى لنا أنوَارَهَـــــــــا
نزِّهنْها عن حُلولٍ واتصَــــــال
لقد صلى الله تعالى على حبيبه بذاته العلية، وباسمه الأعظم، وصلى على عباده المؤمنين بالهوية، ليعلم العباد قدر حبيب الله ومصطفاه، ويعلموا قدرهم بجانب قدره العظيم.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية