سماحة مولانا الإمام المجدد حجة الإسلام والمسلمين فى هذا الزمان السيد محمد ماضى أبو العزائم- قدَّس الله سرَّكم، ونفعنا الله بكم، وجعلكم وليًّا مرشدًا لطلاب العلم النافع- نرجو من سماحتكم بيانًا شافيًا في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة: 55).. ما الفرق بين الرؤية والإدراك، والمعجزة والكرامة، مع بيان حكم من يبيع لليهود عقارًا أو أطيانًا في فلسطين...
فأجاب سماحته قائلاً:
رؤية الله عز وجل وإدراكه
يَا بُنَىَّ: قبل أن أبين هذه الحقيقة أشرح ما لا بد من شرحه: تعلم أن الرؤية شيء والإدراك شيء آخر، وما سأل أصحاب موسى الرؤية إلا وهم يعلمون أنها ممكنة، ولكنهم أساءوا الأدب لطلبهم أعظم نعمة يتفضل الله بها على أفراد أولى العزم من الرسل في الدنيا وعلى أهل مقام الإحسان فى الآخرة من غير سؤال، ومن الأدب أن يقف العبد أمام ربه موقف الخائف من عدله وجلاله لا موقف الطالب بحق له؛ قال I: )وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء( لا من يطلب، وكم واجه ربنا Y رجالًا من أحقر عبيده بوجهه الجميل، كما واجه العبد (برخ) الذى أمر كليمه أن يطلبه ليسأل إنزال المطر لبنى إسرائيل بعد أن خرجوا إلى الصحراء ليستغيثوا بالله سبحانه، فلما وصل إليه موسى رفع رأسه من التراب وقال: (أَنَفدت خزائنك أنزل المطر لعبيدك) فنزل المطر كأفواه القرب، والعبد الصالح الذى لقيه موسى (الخضر)، وأويس القرني التابعي الذى أمر رسول الله o خيرة الصحابة أن يقرئوه السلام إذا رأوه، والذين قال الله لداود A: [اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي]، وقال لحبيبه ومصطفاه: )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(.
أما الإدراك الذى هو كشف الحقيقة على ما هي عليه فمستحيل في الدنيا والآخرة؛ لأن قدرة الله لا تتعلق إلا بالممكن، وليس ثم للقدرة أن تجاوز هذا، فالقدرة لا توجد مخلوقًا يدرك الخالق لعظمته وكبريائه وعلو مكانته Y.
إذا تقرر هذا أثبت لك أن رؤية ربنا ممكنة في الدنيا بالبصائر لمن سبقت لهم الحسنى من الله تعالى، وفى الآخرة بالأبصار بما يجمل الله به عباده المؤمنين بدليل قوله o في الحديث القدسي: [كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به] الحديث. ومن سمع بالله وأبصر بالله لا تعلم نفس ما أخفى له من قرة أعين، ومسألة عقوبة الله تعالى لأصحاب الكليم A عندما طلبوا منه رؤية الله جهرة لسوء أدبهم في طلب ما ليس لهم، ولما اعتراهم من الفتنة في شكهم بخبر الكليم A والشك في هذا المقام يكاد يكون كفرًا، وهذا ليس دليلًا على رؤية الله تعالى كما ذهب إليه المعتزلة وبعض المخالفين، وليس طلبهم الرؤية دليل على طلبهم التجسيمي، تنزه ربنا وتعالى كما ظنه النصارى في عيسى A، وبعض الجهلاء ممن لا بصيرة لهم في الدين الإسلامي. فإن الله تعالى إذا شاء أن يظهر خوارق العادات على أيدى من ليسوا بمؤمنين لا يسأل عما يفعل، كما أظهر تلك الخوارق على أيدى أهل الجحود والكفر بالله تعالى (بني الأصفر بأوربا وأمريكا) فإن اختراع الطيارات والغواصات والبواخر لنقل الأشباح، والأسلاك البرقية والبرقيات اللاسلكية لنقل الأصوات والكلمات، وإن كان نتيجة إتقان الصناعات مما كنزه الله لبنى الإنسان في الأجواء والأرجاء يظهره سبحانه على يد البار والفاجر والمسلم والكافر، فكذلك قد يظهر خوارق العادات على يد شياطين الإنس الذين يخالفون الشرع الشريف الذى جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبله.
المعجزة والكرامة
ونحن لا ننكر كرامة الأولياء، فإن الله تعالى كما أقام الحجة للرسل عليهم الصلاة السلام بالمعجزة الباهرة كالقرآن الشريف فإنه أعجز البشر، وكشقٌ القمر، وكنبع الماء من بين أصابعه o، وكإحياء الموتى، كما ورد فى معجزاته o، وكفلق البحر لموسى A، وكجعل النار بردًا وسلامًا للخليل A، وكإغاثة الرسل من الأعداء بخسف الأرض أو بالإغراق، وكل ذلك دليل على تأييد الله لأحبابه وإظهارهم على أعدائه. وكذلك تأييد الله لأوليائه العاملين بكتابه العزيز وبسنة نبيه o، فإن كل معجزة للأنبياء كرامة للأولياء.
والفرق بين المعجزة والكرامة أن المعجزة تأتى بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الكرامة تأتى مبادهة بدون طلب للولي إظهارًا للحق ونصرة للشرع، فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام يتحدّون أهل الكفر بالله فيكذبونهم ويقيمون الحجة على صدقهم بطلب الآية التي في قوة قوله تعالى: [صدق عبدي فاتبعوه]. فيؤمن من شرح الله صدورهم للإسلام، وينكر أهل الكفر بالله.
)وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً( أي لا نصدقك فيما جئتنا به حتى نرى الله جهرة، فأنزلوا أنفسهم منزلة الجاحد بصدق موسى A إن لم يروا الله جهرة، وكفى بذلك ظلمًا لأنفسهم واستحقاقًا لسرعة نقمة الله منهم، وهذا وجه سوء الأدب مع الله تعالى الذى به أخذتهم الصاعقة، وكل ما أمات أو أدى إلى الموت يسمى صاعقة لا فرق في ذلك بين خسف الأرض وزلزلتها، وإنزال نار من السماء أو من الأرض، أو دخول الهمَّ على القلب، أو الصرع على الأرض المؤدى إلى الموت، كل ذلك يكنى عنه بالصاعقة. وقد تكون الصاعقة تجعل الإنسان كالميت وهو ليس بميت.
وقد اختلفت الأخبار في سبب ذلك، كما ورد أن سيدنا موسى أخذ من بنى إسرائيل سبعين رجلًا من خيرتهم ليناجي ربه ليقبل منه العفو عن بنى إسرائيل في عبادة العجل، فلما دنا موسى لمناجاة ربه وغشيته سحابة النور ورجع إلى الذين اختارهم وأخبرهم بكلام الله، قالوا: لا نصدقك حتى نسمع كلام ربنا بأنفسنا، فسأل موسى ربه أن يسمعهم كلامه سبحانه، متبتلًا إلى الله خاشعًا، فقبل الله منه وجمعهم على موسى، وكان إذا تكلم موسى مع ربه غشيته سحابة النور، فلما أشرقت أنوار السحابة خر السبعون سُجَّدًا فلم يروا أنوارًا ولكنهم سمعوا كلام ربنا لموسى A يأمره وينهاه. فلما غابت سحابة الأنوار قالوا: يا موسى! أرنا الله جهرة عنادًا من أنفسهم، وليست بأول مخالفة خالفها اليهود لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم. وكم لهم من عناد ومخالفة توجب مسخهم كما ذكر الله تعالى وهو يذكرهم تلك النعم وما وقع منهم من العناد ومحاربة الرسل، ليعلم معاصرو رسول الله o أن الله انتقم منهم وأذلهم وأخزاهم لمخالفة رسله صلوات الله وسلامه عليهم لتنفعهم الذكرى، فيؤمنوا برسول الله o ولكن القضاء سجل عليهم: )وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(، يذكرهم الله قولهم لموسى )أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً( أي عيانًا، كما ذكرهم بإسباغ النعم عليهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلهًا غير الله، ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: )فاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ(، ومرة يقال لهم: )وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ(، فيقولون: حنطة في شعيرة، ويدخلون من قِبل أستاههم، وغير ذلك مما لا يحصى من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم A.
ولو تتبعنا سير اليهود وسيرتهم من حادثة يوسف A، وما عمله الأسباط مع يعقوب A إلى زمننا هذا، لعجزنا عن شكر الله بما تفضل به علينا برسالة سيدنا ومولانا محمد o، ولا أبعد بك فإنا نرى تلك الفئة التي لعنت في التوراة والإنجيل والقرآن لا تزال ينبوع تلك الخبائث والشرور والفتن فهم كما قال العربي: “في كل واد أثر من ثعلبة” يسلط الله عليهم بختنصر قديمًا ودول أوربا في هذا الزمان، وقد أراد الله أن يجدد لهم البلاء فانقلبوا شياطين لإهراق الدماء والإفساد في فلسطين، فإنهم انتهزوا فرصة خوف إنجلترا من الترك، وبذلوا أمولًا طائلة للإنجليز مساعدة لهم على حرب الترك، وطلبوا منهم أن يبيحوا لهم الهجرة إلى فلسطين، وأن تكون فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وقد رأى الإنجليز أن ذلك في فلسطين قوة تدفع عنهم ثورة العرب وغيرهم، فمكنوا لهم فيها بقوة الحديد والنار.
حكم بيع أرض فلسطين لليهود
وقد استفتاني علماء فلسطين في حكم من يبيع لليهود عقارًا أو أطيانًا، فأفتيت بكفر من يعينهم؛ بدليل الآية التي نزلت في اليهود وهى قوله تعالى: )لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ(، وسبب نزول الآية هم اليهود، وإن كان خصوص السبب لا يقتضى خصوص الحكم، والواجب على كل مسلم آمن بالله وبكتابه وبرسوله o، أن يعادى من حاد الله ورسوله، فإن تساهل مسلمي فلسطين مع اليهود أثار عليهم غضب الله، فانتقم منهم بالعدو (اليهود والإنجليز)، حفظ الله إخواننا المسلمين من موالاة غير المؤمنين.