ذكر الرُّوح والعقل والنفس يُتَلَقَّى من ألسنة العارفين لقلوب الصديقين، وقد يتفضل الله به على أهل التقوى علمًا لدنيًّا….
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
أهل القلوب
ذكر الإمام المجدِّد في معاني قول الله تعالى: )بِكُفْرِهِمْ(؛ أن لأهل القلوب تأويلًا في هذه الكلمة؛ أن الله تعالى قَدَّر في أزله أن يشهدهم جماله عليًّا جليًّا يوم: )أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ( [الأعراف: 172]، ويعاهدهم على أنفسهم أن لا ينسوا هذا المشهد ويعتذروا بكفر آبائهم من قبلهم، فنسوا وكفروا بهذا المشهد العليّ واتبعوا آباءهم، فكان كفرهم في سابق علم الله، لما قدَّره عليهم من إقامة الحجة الواضحة بالشهود كفاحًا، ولجحودهم وإنكارهم عهد الله.
وهذا التأويل إشارة ظاهرة، أما ما فوقها فيُعَلِّمه اللهُ تعالى لمن يشاء بدليل قوله تعالى: )وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ( [البقرة: 282].
كيف يتحقق الذكر الكثير
أما ما يتلقاه السالكون المخلصون من أفواه العارفين بالله تعالى، فإنما هو علم التوحيد فحسب، الذي يجعل من تلقاه من أفواه أهل العلم بالله يفوز بشهود وجه الله حيث ولَّى وجهه، ويذكر الله تعالى عند شهود كل كائن؛ لأن آيات الله تعالى المنبلجة في الكائنات يكون بها داوم الذكرى والذكر، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا( [الأحزاب: 41].
ولا يتحقق الذكر الكثير بأن يكون باللسان فقط، بل لابد أن يكون بكل الجوارح:
فذكر العين: شهود آيات الله في مكوَّناته…
وذكر الأذن: سماع تسبيح الكائنات لله تعالى…
وذكر الأنف: ظهور الحي النافع في كل نفَس…
وذكر اللسان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلاوة القرآن، ودراسة العلم، وأن يكون رطبًا بذكر الله تعالى…
وذكر اليد: دفع الأذى، ونصرة المظلوم، والبسط بالعطية للفقراء، والجهاد في سبيل الله…
وذكر القلب: دوام مراقبة الله تعالى، واستمرار رعاية أحكامه، واستحضار عظمته العلية، وعقده على كمال التوحيد والحب الخالص…
وذكر البطن: أن تتغذى بقليل من الحلال الخالص…
وذكر الفرج: التدبر فيما أودعه الله فيه من عمارة الكون وحفظه من معصية الله تعالى…
وذكر الرِّجْلَين: الصبر على الشدائد في الجهاد بسرعة إغاثة الملهوف…
وهذا بحسب الظاهر؛ وهو الذكر الكثير.
أما ذكر الرُّوح والعقل والنفس؛ فإنه يُتَلَقَّى من ألسنة العارفين لقلوب الصديقين، وقد يتفضل الله به على أهل التقوى علمًا لدنيًّا.
إيمانٌ لا يُعتد به عند الله تعالى
في قول الله تعالى: )فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ( هذه الجملة تفيد – بحسب المقتضيات اللغوية – نفي الإيمان بالمرة عنهم.
ومَن قال (ما) زائدة أثبت لهم الإيمان بموسى A؛ ونفى عنهم الإيمان بمحمد o، ومن آمن بموسى A ولم يؤمن بمحمد o فإن إيمانه قليل جدًّا لا يُعتد به عند الله تعالى وهو كفر، ويكون: )قَلِيلًا( صفة لمصدر محذوف تقديره: يؤمنون إيمانًا قليلًا.
وبذلك تكون: (ما) ليست زائدة، وتكون بمعناها اللغوي دالة على أشياء عامة يخصصها ما بعدها ويمنع كونها بمعنى مَن، لأنها لو كانت بمعنى مَن – أو بمعنى الذي – لوجب رفع )قَلِيلًا(.
مَن آمن بأي رسول من الرسل ولم يؤمن بخاتم الرسل كان كافرًا شرعًا وعقلاً
والإيمان في اللغة هو التصديق، وقد بيَّن الله تعالى الإيمان بكل حقائقه في قوله تعالى: )آمَنَ الرَّسُولُ…( الآية [البقرة: 285]، فمن آمن بأي رسول من الرسل ولم يؤمن بخاتم الرسل كان كافرًا شرعًا وعقلًا؛ لأن الله تعالى أرسل الرسل تترى، وأوجب على أهل كل زمان رسولًا أن يؤمنوا به وإلا كانوا كفارًا، لأن لكل رسول حكمة يقتضيها الزمان والمكان.
ولما كان رسول الله خاتم النبيين وجب على العالم الإنسانيّ الإيمان به، بل وعلى الجن والملائكة، بدليل ما ورد عن إيمان الجن برسول الله o، – قال تعالى: )قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا( [الجن: 1، 2]… -، وأما الملائكة فبدليل قوله تعالى: )الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ( [غافر: 7].
ومن الإيمان بالله: الإيمان بكلامه، ومن الإيمان بكلامه سبحانه: الإيمان برسوله o.
بيان خبث نفوس اليهود
في قول الله تعالى: )وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ( [البقرة: 89]؛ يبيِّن الله تعالى خبث نفوس يهود قريظة وقينقاع والنضير، وأن نفوسهم خلقها سبحانه وتعالى من سجين البعد عن الله تعالى.
وذلك لأنهم كانوا قبل بعثة رسول الله o يهددون الأوس والخزرج بقرب بعثة نبيّ يحصدهم بالسيف حصدًا، ويكونون أنصارًا له عليهم، حتى إذا بعث الله حبيبه ومصطفاه o بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله – من قريش لا من ولد إسحاق – كفروا وأنكروا.
حتى أقام الأنصار عليهم الحجة بتلك الحوادث والأخبار بعد إسلامهم 7، فقال رجل منهم: إنا لم نخبركم بهذا ولا نعلم أن نبيًّا من العرب يرسل، فشنع الله عليهم وكذبهم بقوله تعالى: )وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ( [البقرة: 89] الآية.
والكتاب الذي جاءهم به من عند الله هو القرآن، وقوله: )مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ( صفة للكتاب، والذي معهم هو: “التوراة والإنجيل”، وقوله تعالى: )مِّنْ عِندِ اللَّهِ( صفة ثانية للكتاب، وفيها قصم لظهور اليهود؛ وتشريف لرسول الله o.
– وقد ذكر الشيخ العقاد في معنى قوله تعالى: )وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ(: هو سيدنا محمد o -.
)وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ( أي: أنهم كانوا يستنصرون على المشركين من الأوس والخزرج ويسألون الله النصرة به، ويهددون الأوس والخزرج كما قدمنا ببعثته، وفي هذا نهاية الجهولية والظلومية، وكفاهم تعسة أنهم من أهل النفوس العنادية.
فضل الله لا يُحصر في رجل مات
ويبين الإمام أبو العزائم في هذا السياق من تفسيره لتلك الآية أن تلك النفوس العنادية كثيرة، فإنك ترى بعض المسلمين إذا اعتقدوا عقيدة في رجل ثم مات الرجل وأقام الله بدلًا من أبدال الصديقين غيره أنكروا على الحيّ؛ مع أنهم يعلمون حديث عليٍّ A: “اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة”؛ وقول رسول الله o: (العلماءُ سرجُ الدنيا ومصابيحُ الآخرة)، فأعاذنا الله وإخواننا من حصر فضل الله في رجل مات بعد قوله تعالى: )ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء( [المائدة: 54].
ثم كشف الله الستر عنهم وبين قبائح أعمالهم وأقوالهم بقوله تعالى: )فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ( [البقرة: 89].
يشرح الله لنا حالهم بالحجة البالغة أنهم بعد أن كانوا يستنصرون ببعثة رسول الله o على المشركين وجاءهم o الذي عرفوه موصوفًا عندهم في التوراة والإنجيل؛ رضوا بالخزي والكفر والكذب وأنكروا، فحكم الله تعالى عليهم بالكفر واللعنة، واللعنة هي: الطرد والبعد والقطيعة عن الله تعالى.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية