أما العلاقة بين عليٍّ وسائر الصحابة من الخلفاء وغير الخلفاء، فهي علاقة الزمالة المرعية، والتنافس الذي يثوب إلى الصبر والتجمل والتقية….
المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد
بقية: ثقافته
لقد نظم الإمام عليٌّ شعرًا ولا ريب، كما يدل سؤال الصحابة النبي J أن يأذن له في هجاء من هجاهم، ولم ينسب إليه شعر … صح أو لم يصح، أجود مما قدمناه، وليس فيه ما يسلكه بين المجودين من الشعراء، أو يلحق بطبقته بين الكتاب والخطباء … أما كتاب الجفر أو علم الجفر([1])، فالقول الفصل فيه أقرب من القول الفصل في جميع ما نحلوه وأضافوا إليه … فمثل عليٍّ في تقواه وفضله، لا يشتغل بعلم مزعوم هو السحر القديم بعينه، وليس هو مما يليق بورعه ولا ذكائه، وقد نهى وشدد النهي عن تعلم النجوم واستطلاع الغيب بأمثال هذه العلوم، ومن المحقق الذي لا خلجة فيه من الشك عندنا أن النبوءات التي جاءت في نهج البلاغة عن الحجاج بن يوسف، وفتنة الزنج وغارات التتار وما إليها، هي من مدخول الكلام عليه …
ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أو طويل … ولا نجزم مثل هذا الجزم في أمر المقامات التي خلت من بعض الحروف؛ لأن العقل لا يمنعها قطعًا كما يمنع استطلاع الغيب المفصل من أزياج النجوم، ولكننا نستبعد جدًّا أن تكون هذه المقامات من كلام الإمام لاختلاف الأسلوب واختلاف الزمن، وحاجة النسبة هنا إلى سند أقوى من السند الميسر لنا بكثير.
وكذلك نستبعد أنه قال لكاتبه ليظهر علمه بغريب اللغة: “ألصق روانفك بالجبوب وخذ المزبر بشناترك، واجعل حندورتيك إلى قيهلي حتى لا أنفي نفية إلا أودعتها بحماطة جلجلانك”.
أي: “ألصق مقعدك بالأرض وخذ القلم بما بين أصابعك، واجعل عينيك إلى وجهي حتى لا ألفظ بلفظة إلا وعيتها في سواد قلبك”.
فإن الولع بإظهار العلم بالغريب بدعة لم تعرف في صدر الإسلام، ولم يلتفت الناس إلى ادعائها إلا بعد استعجام العرب وندرة العارفين بفصيح العربية وغيرها على السواء.
ومثل هذا، ما نسبوه إليه حيث زعموا أنه قال: “ما تربعلبنت قط”. أي: ما شربت اللبن يوم الأربعاء، و”ما تسبتسمكت قط”. أي: ما أكلت السمك يوم السبت “وما تسرولقمت قط”. أي: ما لبست السراويل قائمًا … إلى أشباه هذه المخترعات التي تستغرب لفظًا ومعنًى واعتقادًا من رجل كالإمام في صدر الإسلام.
إلا أننا نسقطها جميعًا، فلا نسقط بها فضلًا ترجح به موازين الإمام في حساب الثقافة … بل نحسبها فضلًا – إن شئنا – ونسقطها، فيبقى له بعدها السهم الراجح في تلك الموازين …
تبقى له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي، والقضاء الإسلامي، والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربية … مما يجوز لنا أن نسميه أساسًا صالحًا لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام.
وتبقى له مع هذا فرائد الحكمة التي تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور …
ففي كتاب نهج البلاغة، فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكمة التوحيد، وربما تشكك الباحث في نسبة بعضها إلى الإمام لغلبة الصيغة الفلسفية عليها، وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات، ولكن الذي يقرؤه الباحث ولا يشك في نسبته إلى الإمام، أو في جواز نسبته إليه، قسط واف لتحقيق رأي القائلين بسبق الإمام في مضمار علم الكلام، واعتراف المعترفين له بالأستاذية الرشيدة لكل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات. وهو على جملته خير ما يعرف به المؤمن ربه وينزه به الخالق في كماله، ومن أمثلته قوله: “الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالًا، فيكون أولًا قبل أن يكون آخرًا، ويكون ظاهرًا قبل أن يكون باطنًا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد عنها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على من شاور، ولا شريك مكاثر، ولا ضد منافر، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون – أي: ضارعون – لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن، لم يؤده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما مضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم وأمر مبرم”…
أما القضاء والفقه، فالمشهور عن الإمام عليٍّ أنه كان أقضى أهل زمانه، وأعلمهم بالفقه والشريعة … أو لم يكن بينهم من هو أقضى منه وأفقه وأقدر على إخراج الأحكام من القرآن والحديث والعرف المأثور. وكان عمر بن الخطاب يقول كلما استعظم مسألة من مسائل القضاء العويصة: قضية ولا أبا الحسن لها؛ لأنه كان في هذه المسائل يتجاوز التفسير إلى التشريع، كلما وجب الاجتهاد بالرأي الصائب والقياس الصحيح …
وفي أخباره، ما يدل على علمه بأدوات الفقه كعلمه بنصوصه وأحكامه … ومن هذه الأدوات علم الحساب، الذي كانت معرفته به أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث؛ لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازًا تكد في حلها العقول، فيقال: إن امرأة جاءت إليه وشكت إليه أن أخاها مات عن ستمائة دينار، ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد … فقال لها: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخًا وأنت؟ … فكان كما قال.
وسئل يوما في أثناء الخطبة عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثمنها تسعًا، وسميت هذه الفريضة بالفريضة المنبرية؛ لأنه أفتى بها وهو على منبر الكوفة …
وفي هذه الإجابات، دليل على الذكاء وسرعة البديهة … فضلًا عن الدلالة الظاهرة على العلم بالمواريث والحساب …
وإذا قيل في قضائه: إنه لم يكن أقضى منه بين أهل زمانه، صح أن يقال في علم النحو: إنه لم يكن أحد أوفر سهمًا في إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب، فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولًا منها: أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل … وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر … وإنما تتفاوت العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر … يعني اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبي الأسود: انح هذا النحو يا أبا الأسود … فعرف العلم باسم النحو من يومها.
وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية، ولا سيما السريانية واليونانية … ولكن الروايات العربية لا تنتهي بنا إلى مصدر أرجح من هذا المصدر، وغيرها من الروايات الأجنبية والفروض العلمية لا يمنع عقلًا أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم، التي تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم، وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية.
============================