إن فن الثقافة الذي يقاس بمقياس كل زمن، فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس، قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو فن الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفًا: إنها تسجل له في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور..
المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد
بقية: ثقافته
إن فن الثقافة الذي يقاس بمقياس كل زمن، فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس، قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو فن الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفًا: إنها تسجل له في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور.
فالكلم الجوامع التي رويت للإمام طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة.
وقد قال النبي J: “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل”.
فهذا الحديث الشريف أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته، التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء.
فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داود.
ويزيد عليها أنها أبدع في التعبير، وأوفر نصيبًا من ذوق الجمال، كقوله مثلًا: “نفس المرء خطاه إلى أجله” … أو قوله: “من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة” … أو قوله: “المرء مخبوء تحت لسانه”. أو قوله: “الحلم عشيرة” … أو قوله: “من لان عوده كثفت أغصانه”. أو قوله: “كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع”. إلى أشباه هذه التعبيرات الحسان، التي تحار فيها أي مزاياها أفضل وأقوم: صدق المعنى، أو بلاغة الأداء، أو جودة الصناعة …
وبعض أقواله ينضح بدلائل “الشخصية” التي تلازم صاحب الفن الأصيل، فتلبس معانيه لباسًا من خوالج نفسه وأحداث زمانه، كما قال: “صواب الرأي بالدول، يقبل بإقبالها ويذهب بذهابها”. أو كما قال: “ما أكثر العبر وأقل الاعتبار” … أو كما قال: “شاركوا الذي أقبل عليه الرزق، فإنه أخلق للغنى وأجدر بإقبال الحظ عليه” … أو كما قال: “إذا هِبت أمرًا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما نخاف منه” … أو كما قال: “لا يقيم أمر الله – سبحانه – إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع”.
وله عدا هذه الحكم التي تلونت بألوان نفسه أو ألوان زمانه، حكم كثيرة تصدر من كل قائل يقدر عليها، وتنفذ إلى كل سامع يفطن لها كقوله: “كل معدود منقض وكل متوقع آت”. أو قوله: “إذا كثرت القدرة قلت الشهوة”. أو قوله: “أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه” … أو قوله: “من نصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم”. أو قوله: “الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يوئسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله” … أو قوله: “قيمة كل امرئ ما يحسنه”. أو قوله: “العاقل هو الذي يضع الشيء مواضعه”. أو قوله: “الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب”. أو قوله: “من ملك استأثر”. أو قوله: “الناس أعداء ما جهلوا” … أو قوله: “القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة” …
وله في المواقف المرتجلة كلمات هي أشبه الكلمات بأسلوب الحكمة السائرة … فلما خرج وحده لبعض المهام، التي تردد فيها أنصاره، قالوا له يشيرون إلى أعدائه: “يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم”. فقال: “ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم؟ … إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة”.
ورثى محمد بن أبي بكر حين بلغه مقتله على أيدي أصحاب معاوية فقال: “إن حزننا عليه قدر سرورهم به، إلا أنهم نقصوا بغيضًا ونقصنا حبيبًا” …
فكل نمط من أنماط كلامه، شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير … فهو ولا شك من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأوتوا الحكمة، وفصل الخطاب.
وقد أخطأ “موير” المؤرخ الإنجليزي حين قال: إن عليًّا حكيم كسليمان، وهو مثله حكمته لغيره … يعني أنه ينصح الناس ولا ينتفع بالنصيحة، فإن “موير” أحجى أن يفرق بين عمل الإنسان بنصحه وبين انتفاعه بنصحه، ولا شك أن عليًّا كان من العاملين بما يقولون، ومن المنتصحين بما ينصح به الناس، أما أنه ينتفع بحكمته، فالطبيب لا يقدح في علمه أنه قد أعياه علاج نفسه بطبه … فقد يكون الإخفاق من استعصاء الداء لا من صحة الدواء.
ولا يفوتنا أن بعض هذه النصائح، قد نسب إلى قالة من الأوائل غير الإمام 0 وهذا يستطرد بنا مرة أخرى إلى الصحيح والمنحول من كلام الإمام، الذي جمعه الشريف الرضي في “نهج البلاغة”، وفرغ من جمعه بعد مقتله بزهاء أربعة قرون، وهو بحث يخرج بنا من موضوع هذا الكتاب إلى دراسة أدبية ليست من أغراضنا الخاصة في التعريف بعبقرية الإمام … فحسبنا أن أسلوب الإمام معروف في بعض ما ثبت له من رسائله وخطبه، وأن طابع هذا الأسلوب شائع في الكتاب لا تقدح فيه كلمة ظاهرة التلفيق هنا، أو كلمة ظاهرة الإقحام هناك، أو كلمات يقع فيها الالتباس لاختلاف الصناعة أو اختلاف التفكير، فنحن لا نخطئ أن نرى في هذه الخطب والرسائل والأمثال وحدة تتصل حينًا، وتنقطع حينًا، كالوحدة التي نراها بغير انقطاع في كتب الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد … وهذه الوحدة وحدها مغنية لنا في تبيان ثقافة الإمام، أو تذوق أسلوبه الذي لا تخطئ فيه مرة جزالة البادية، وصقل الحاضرة، وحسن البداهة، وامتزاج الصناعة بالطبع الذي لا تكلف فيه …
ولا يتم القول في ثقافة الإمام علي 0 ما لم تتممه بالقول في نصيبه من الثقافة العسكرية أو فن الحرب، الذي هو مضماره الأول ومناط شهرته التي تبرز فيها صفة الشجاعة قبل كل صفة، وكفاءة المناضل قبل كل كفاءة …
فجملة ما يقال في هذا الصدد، أن فن الإمام العسكري هو فن البطل المغوار الذي يناضل الأفراد، وينفع الجيش الذي هو فيه بقدوة الشجاعة، وإذكاء الحماسة، وتعزيز الثقة بين صفوفه، وأنه يعرف كيف يكون الهجوم حيث يجب الهجوم، وكيف يحتال على عدوه بما يخلع قلبه، ويفت في عضده … ومن حيله المشهورة في توهين عزم عدوه، أنه أمر بعقر الجمل في الوقعة المعروفة باسمه؛ لأنه كان علم القوم الذين كانوا يلتفون به ويثبتون بثبوته …
وهذا كله فن البطل المغوار الذي يفرق العسكريون بينه وبين خطط القيادة وفنون التعبئة وتحريك الجيوش …
ولم يرد لنا من أنباء الإمام في هذا الباب ما نحكم به على قيادته العسكرية بهذا الاعتبار … نعم … إنه كان يقسم جيشه إلى ميمنة وميسرة، وقلب وطليعة ومؤخرة، وأشباه ذلك من التقسيمات التي جرى عليها في وقعة صفين على التخصيص.
وكانت له وصاياه المحفوظة في تسيير الجيوش، وتأديب الجند ومعاملتهم لسكان البلاد، ومنها قوله: “إذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم من قبل الإشراف وسفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءًا ودونكم ردًّا، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب؛ لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعًا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعًا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة – أي: محيطة بكم – ولا تذوقوا النوم إلا غرارًا أو مضمضة” …
ومنها قوله: “ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ظعنًا”. ومنها قوله للولاة: “إني سيرت جنودًا هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهبًا إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهم شيئًا ظلمًا عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم والتعرض لهم”.
وهذه وما هو من قبيلها، مناهج موروثة أو أدب هو أقرب إلى نظام الإدارة منه إلى خطط التعبئة، وقيادة الميدان …
وعلى كونه قد اتبع هذه التقسيمات والمناهج في وقعة صفين، لم تكن الوقعة كلها إلا مناوشات هجوم ودفاع بين طوائف متفرقة في أوقات متباعدة … كأنها ضرب آخر من ضروب فن الحرب على طريقة الفارس المناضل، والبطل المفرد في موقف المبارزة أو في غمار الصفوف.
وخلاصة ذلك كله، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام …
وأنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله، يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه … لأنه بالبأس زاهد في الدنيا مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله …
فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية