دعونا نبلور أبرز ما نتوقعه من تحديات رئيسية أمام الوحدة خلال المستقبل القريب، والذي بدوره يؤسس لمستقبل أبعد منه.
د. رفعت سيد أحمد
اليوم (2025م) وبعد عملية (طوفان الأقصى)، وبعد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، يقف المراقب بعد أكثر من ستين عامًا من الوحدة المصرية – السورية التي مثلت التجربة الأهم والأبرز في تاريخنا المعاصر أمام أسئلة كبرى نحسب أن العقل العربي مطالب بالإجابة عليها، ليس بهدف الوقوف فقط على أطلال الماضي الجميل، للبكاء أو حتى للاعتبار والعظة، ولكن بالأساس للبناء والتأسيس لمستقبل أكثر إنسانية، وعدالة، ووحدة. ثمة تساؤلات تاريخية تحتاج إلى تأمل وإجابة من قبيل: لماذا كانت الوحدة؟ هل كانت تعبيرًا عن حاجة حقيقية للدولتين وقتذاك، أم كانت تعبيرًا عن نزوع عربي لدى قادة قوميين شباب تحركهم العاطفة الوحدوية فحسب قبل الدراسة الواعية للواقع الإقليمي المعقد؟ وهل كان هذا الواقع راغبًا في الوحدة أم راغبًا عنها؟ هل كان هذا الواقع واقعًا في اتجاه إسقاطها مع أول أزمة دولية بين المعسكرين؟ أم أنه كان واقعًا مستفيدًا منها موظف لها؟ وأخيرًا: ما هي التحديات التي قد تواجه التجربة إن أردنا أن نعيدها ولكن على المستوى العربي؟.
إنها بعض التساؤلات من وحي الذكرى تحتاج بلا شك إلى نقاش مبدع جديد، سوف نحاول هنا أن نتوقف، فقط أمام تساؤل واحد منها؛ التساؤل الأخير والمتصل مباشرة بطبيعة تحديات قرن جديد أمام الوحدة سواء بإطارها المحدود (بين بعض الدول العربية) أو إطارها الأشمل بين الأقطار العربية التي مزقها الاستعمار الأجنبي وأكمل عليها الاستبداد التكفيري الذي يحكم بعض البلاد ويرضى عليه ترامب ونتانياهو!!
إن التحديات ولا شك ستكون مختلفة، كمًّا ونوعًا عن تلك التي سبقت وواكبت التجربة الأولى (1958م) فلا وجود لعالم ثنائي القطبية، بل نحن اليوم (2025م) في عالم متعدد الأقطاب، مع شراسة لقطب واحد يحاول أن يهيمن منفردًا بالقوة على العالم؛ ونحن إزاء (عالم عربي)، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولسنا إزاء (وطن عربي) واحد تجمعه قضية واحدة كما كان أثناء عصر الوحدة الأولى؛ والتحديات التي ستواكب “الحلم” في تحقيق الوحدة العربية، ستكون ولا شك أكثر تعقيدًا وتداخلًا من تلك التي واكبتها سابقًا، والواقع الراهن بكل مآسيه وإشكالاته الكبرى شاهد على ذلك.
على أية حال دعونا نبلور أبرز ما نتوقعه من تحديات رئيسية أمام الوحدة خلال المستقبل القريب، والذي بدوره يؤسس لمستقبل أبعد منه:
الكيان الصهيوني
أول التحديات في تقديرنا: هو هذا الكيان الصهيوني الذي يشن حرب إبادة على غزة منذ 2023م وحتى اليوم وهو كيان عدواني في قلب الوطن العربي، في فلسطين، ويحتل أجزاء (40%) من سوريا وجنوب لبنان فلا وحدة عربية قادرة على الصمود وهذا الكيان قائم، إذ إنه عامل هدم لها، عبر عدوانيته ومؤامراته، وعلاقاته التي أضحت الآن علنية مع نصف دول الوطن العربي [12 دولة عربية تقيم علاقات اقتصادية وسياسية مع الكيان الصهيوني منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979م] وإذا ما ربطنا أكثر علاقة هذا التحدي (الكيان الصهيوني) بالولايات المتحدة الأمريكية، وتحالفهما الإستراتيجي ضد هذه الأمة، لاتضح أكثر، خطورة التحدي وصعوبته. لكن بالمقابل، يمثل هذا التحدي، عامل تحفيز لحتمية الوحدة..
العولمة والذكاء الاصطناعي
أما التحدي الثاني المهم فهو: أن الوحدة المنشودة في قابل أيامنا تأتي والعالم المعاصر يعيش ظاهرة ما يسمى بالعولمة وذكاء اصطناعي بكل ما بها من إيجابيات قليلة في مجالات الثقافة وانتشار المعرفة، وسلبيات أكثر متمثلة في اختراق الخصوصيات الوطنية وتهديد الأمن القومي والسياسي والاقتصادي والحضاري لبلادنا، إن (الوحدة) العربية المنشودة، عليها أن تواجه تلك العاصفة العالمية العاتية التي مرت ببلادنا منذ سنوات، وتنوي البقاء بها في المستقبل القريب، عاصفة العولمة والذكاء الاصطناعي وعليها أن تبدع، في وسائل التعامل معها، فتأخذ منها ما يفيد وما يعضد ويقوي تلك الوحدة: مفهومًا ووسائل وإستراتيجيات للعمل، وأن ترفض ما دون ذلك، من عوامل للهدم والاختراق والإلحاق الحضاري.. فهل الحالمون والعاملون لهذه الوحدة، قادرون على ذلك؟
الاحتلال الأمريكي والغربي
أما التحدي الثالث: فهو أن الوحدة العربية المنشودة، تواجه على الأرض تحدٍّ لم يسبق لها أن واجهته في عصرنا الحديث إلا مرة واحدة وهو الاحتلال الأمريكي والغربي لمقدرات وأراض دول عربية…. صحيح هناك الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بكل تعقيداته إلا أن ما جرى – وما يزال يجري – من صفقات واستنزاف للثروات العربية واحتلال لأراضي البعض أخطر مما جرى في فلسطين ويمثل ثاني أهم تحدٍّ أمام الحالمين أو العاملين لهذه الوحدة. حيث يتم اليوم بيع الأوهام وخلق أعداء إقليميين غير موجودين واستنزاف الثروات وعقد الصفقات المذلة في حين يتضور أهل غزة بل بعض أهل البلاد العربية جوعًا!!
الجماعات التكفيرية الإرهابية
أما التحدي الرابع والأخير: الذي يواجه الوحدة العربية في قابل أيامها فهو وقوع غالب بلادنا العربية تحت تهديد الجماعات التكفيرية الإرهابية بزعامة الإخوان وداعش وبعضهم تحالف ضمنا اليوم مع واشنطن وكأنهما جبهة واحدة تعمل لصالح إسرائيل وضد الوحدة العربية الحقيقية المنشودة.
إن هذه التحديات (وغيرها مما لا يتسع المقام لذكرها) تمثل في تقديرنا ما يمكن أن نسميه بنظرية الأواني المستطرقة في فلسفة الوحدة، إذ لا يمكننا أن نحقق الوحدة العربية (سواء في إطارها الثنائي أو حتى الإقليمي المحدود أو الجماعي) دونما مواجهة جادة للتحدي الصهيوني الذي يمثل تقسيم الأمة العربية أحد ركائز وظيفته ورسالته في المنطقة، وهذه المواجهة للتحدي الصهيوني، تحتاج إلى مواجهة تفاعلية أكبر مع تحديين خطيرين يقفان على أبواب الأمة بل وبداخل بيتها: تحدي العولمة وتحدي الاحتلال الأمريكي والمشرعن بأنظمة عربية، أغلبها – كما نعلم – تابع ومستبد.
إنها نظرية الأواني المستطرقة [الوحدة – التحدي الصهيوني – تحدي العولمة – الاحتلال الأمريكي – الحرية في مواجهة المتطرفين]، ربما بمدى إدراك، وفهم الحالمين، بالوحدة وبمقدار إخلاصهم في العمل لها يمكن ساعتها الحديث عن أن التاريخ بإمكانه أن يعيد نفسه، وأن نعش مرة أخرى ذلك الحلم الجميل الذي أنجزه عبد الناصر وصحبه قبل أكثر من ستين عامًا حين ربط أرض الكنانة ببلاد الشام في أنبل وأهم وحدة عربية في عصرنا الحديث وحملت ذات يوم هذا الاسم الجميل: الجمهورية العربية المتحدة.. وما ذلك على الله بعزيز!!.
والله أعلم.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية