أخبار عاجلة

حِكَمُ الصَّوْمِ: الصِّحِّيَّة والاجتماعيَّة والشَّرعيَّة

سماحة مولانا الإمام المجدد حجة الإسلام والمسلمين فى هذا الزمان السيد محمد ماضى أبو العزائم – قدس الله سِرَّكُمْ, ونفعنا الله بكم, وجعلكم وليًّا مرشدًا لطلاب العلم النافع – يظن كثير من الناس أن الصوم مجرد أمر إلهى يجب أن نتعبد به، ويراعون فيه الأحكام الشرعية دون معرفة الحكمة من وراء هذا الركن المهم، فنودُّ من سماحتكم بيان الحِكَم المتعددة للصوم (الصحية – الاجتماعية – الشرعية) عند أصحاب المقامات المختلفة؛ حتى ننتفع بهذه الفريضة....

فأجاب سماحته قائلاً:

يا بنى: إن للصوم حكم خمس:

الحكمة الأولى

وتشمل حكمة صحية، وحكمة اجتماعية، وحكمة شرعية.

1- حكمة الصيام الصحية:

معلوم أن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأن أكثر الأمراض سببه المعدة؛ ولذلك فإن الطبيب يأمر المريض بترك الأكل والشرب فى كل الأمراض، والخلاق العظيم أرحم بخلقه من أنفسهم، ومن رحمته بهم أمرهم بترك الأكل والشرب وملامسة النساء نهارًا فى رمضان؛ لتقوى المعدة وتصح الجوارح ويتوفر الدم، رحمة بهم وعناية منه سبحانه، وقَبِلَ منهم هذا العمل عبادة له سبحانه ووعدهم عليه بالنعيم المقيم، فسبحان من أمرنا بما هو خير لنا – وهو الغنى عنا وعن أعمالنا – وأثابنا عليه بالجنة، وعبد يكرمه مولاه فيأمره بما هو صحة وعافية وخير، ثم يتفضل فيعطيه الجنة جزاء للعبد على ما هو نفع له، والعبد اللئيم يظلم نفسه فيخالف ربه فيقع فى بلايا الأمراض فى الدنيا وشديد العذاب يوم القيامة، أسأله سبحانه أن يعلمنا حكمة العبادة ويعيننا عليها حتى نسعد فى الدنيا والآخرة.

بينت حكمة الصيام الصحية ليعلم الصائم أنه إنما يصوم لصحته وعافيته؛ ولأن كل عضو من أعضاء الجسم يستريح عند النوم إلا المعدة والقلب، فجعل الله الصيام راحة للقلب وراحة للمعدة؛ لأن الصائم لا يحتاج إلى حركة تجهد المعدة للهضم، ولا يتولد دم غليظ من كثرة الأكل يتعب القلب.

 2- حكمة الصيام الاجتماعية:

معلوم أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بنفسه بجميع لوازمها كالحيوانات التى لا يحتاج فرد من أنواعها إلى مساعدة غيره فى جميع لوازمه، فالإنسان الواحد يحتاج إلى كثير من الأناس والحيوانات والآلات البخارية والكهربائية فى نيل ما لا بد له منه قال سبحانه: ]وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى[ (المائدة: 2)، إذا تقرر ذلك:

فالصيام: يكسب قلب الأغنياء رحمة بالفقراء، وقلب الرؤساء عطفًا على العمال، وقلب الملوك شفقة بالرعية؛ فيصبح المجتمع كما قال سبحانه وتعالى: ]رُحَمَاء بَيْنَهُمْ[ (الفتح: 29)، وغنى لم يذق ألم الجوع والعطش؛ كيف يرحم الفقراء؟ ورئيس لم يحس بفقد مشتهياته خضوعًا لسلطان الشريعة؛ كيف يحسن إلى من ولاهم عمله؟! وملك لا يجاهد نفسه بالصيام؛ كيف يعدل فى رعيته ويمنح الأمة الحرية والمساواة.

فالصيام: هو العمل الذى يزكى النفس ويهذبها، ويجعل الإنسان يحس بأنه عبد مقهور لقهار قادر، وعابد لمعبود قوى، لا فرق بين الغنى والفقير عنده، والملك والمملوك لديه.

فإذا نحن تركنا الصيام انقلبت النفس الإنسانية فصارت نفسًا إبليسية أو وحشية، فأفسدت المجتمع بقدر ما تطيقه من تنفيذ أغراضها لنيل شهواتها. فالمسلم تارك الصيام شر على الأمة، شر على الوطن، شر على أسرته وعلى نفسه.

وأمة ترى مسلمًا يفطر رمضان ولا تقوم فى وجهه مشنعة عليه ليرتدع، فتحت على نفسها أبواب غضب الله تعالى؛ لأن المفطر فى رمضان دون عذر شرعى أغضب ربه سبحانه بمخالفة أمره، ونبيه J بترك التشبه به – ورجل يغضب ربه كيف يرضى والديه أو قومه؟ ولعل الذين بحُّوا حناجرهم بقولهم: (يحيا الوطن) وهم يحاربون الشريعة ويعقون الوالدين ويقطعون الأرحام- ظهرت لهم نتيجة أعمالهم بتسليط الأعداء عليهم، ولو عملوا بأوامر دينهم وبوصايا نبيهم لجمعهم سبحانه على الحق، وأعزَّهم وأذلَّ أعداءهم… قال سبحانه: ]وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ[ (الأنفال: 10).

فالصيام: عمل يكسب الصائم رحمة وعزة واستجابة للدعاء، وبذلك يسعد المجتمع، وتتحد الكلمة، وتصبح الأمة كالأسرة، يكون رئيسها والدًا عطوفًا رحيمًا واثقًا ببنيه، وتكون الأمة أبناء بررة واثقين بوالدهم، وتلك النتائج مقدماتها القيام بأحكام الشرع الحنيف.

3- حكمة الصيام الشرعية:

معلوم شرعًا أن الإنسان هو المخلوق الوسط بين عالم الأرواح المجردة وعالم الحيوان، وهو خليفة ربه فى الأرض منحه ما به يسخر كل الأنواع التى تحيط به فهى مخلوقة له، لا فرق بين ما فى السموات من الأفلاك والأملاك والجنة وغيرها، وما فى الأرض من الجمادات والنبات والمعادن والحيوانات، وما فى الأجواء من الهواء والأمطار والسحب.. فالإنسان فى الحقيقة ونفس الأمر له كل شيء؛ لأنه سبحانه خلق الأشياء وهو غنى عنها، ومن نظر بعقله فى العالم أعلاه وأسفله يظهر له أنه خلق لنفع الإنسان، وبقدر ما يناله الإنسان من العلم تكون له القدرة على تسخير جميع الكائنات، فقد يبلغ الإنسان بعقله أن يقهر كل شىء لينتفع به، وقد يبلغ بتزكية نفسه مقامًا تخدمه فيه الملائكة، ولو علم الإنسان نفسه علمًا مؤيدًا بنور الكشف لتضاءلت فى عينه أكمل مراتب الدنيا، واضمحل فى نظره كل خير فيها، وفرَّ بهمة لنيل كماله الروحانى ليفوز بالخير الحقيقى فى جوار الأطهار حيث البقاء فى مسرات الحياة، وصفاء العيشة، آنسة روحه بما يجانسها من عالم الطهر، وعقله بما يشاكله من جمال الآيات، وجسمه بما يطيب به من ملذات ومسرات، من غير شوب أو عناء أو جهاد، ولا كدر انقطاع وزوال.

 الصيام: اقتضته حكمة إيجاد الإنسان ممتعًا بكل الحقائق، ومعلوم أن شكر النعمة متعين على كل منعم عليه، ففرض الله تعالى الصيام لنشكره سبحانه على نعمته علينا بتسخيره ما فى السموات لنا من الأفلاك والأملاك والآيات والأسرار، وتسخير السحاب وتصريف الرياح، ولما كانت الملائكة التي سخرها الله لنا أرواحًا مجردة لا تأكل ولا تشرب ولا تلامس النساء، تقوم لنا بما لا غنى لنا عنه، وكذلك الأفلاك، لزمنا أن نتقرب إلى الله المنعم المتفضل علينا بترك الأكل والشرب عبادة له سبحانه، فإننا نشكره على تسخير ملائكته وأفلاكه لنا.

وهى أول حكمة من حكم الصيام.

الحكمة الثانية

أن الصائم يتحقق أنه عبد مملوك لله بطبعه، إذا أمره بترك ضرورياته؛ لأن العبد لا يتصرف – ولا فى نفسه – إلا بأمر سيده، وفى ذلك من السعادة للعبد التى من أجلها رضوان سيده عنه، وإسباغ إحسانه عليه، مما لا يمكن للأرواح أن تشهده وهى فى عالم الأشباح.

الحكمة الثالثة

أن الصائم أشبه الملائكة، فتكون لروحه ملكوتية تقتبس فيها نفسه قبسًا نورانيًّا ملكوتيًّا تجمل به العقل والحس والجسم، فيلحظ الصائم أنوارًا من الحكمة العلية، وأسرارًا من الآيات المنبلجة فى نفسه وفى الآفاق، فيميل بكليته إلى الفضائل التى تجعله قريبًا من ربه، متخلقًا بأخلاقه، متصفًا بصفاته من الرحمة والعطف والحنان، والإحسان والعلم والعرفان، مسارعًا إلى نيل كماله الروحاني؛ لينفع نفسه وأهل عصره بما يناله من هذا الخير.

الحكمة الرابعة

أن الصائم يشعر من نفسه أنه تشبه بأفضل الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، فيكون له من الفرح والبهجة وعلو الهمة ما يجعله يكره المعاصى، ويتباعد عن ضرر الخلق، ويحسن إلى من أساء إليه، وبذلك يعيش عزيزًا فى الدنيا، آنسًا بمعية الأخيار يوم القيامة.

الحكمة الخامسة

هى أن الصائم بإمساكه عن لوازم الحيوانية، يقل نومه وينشط لعمارة الأوقات بالعبادة وتحصيل العلم، وتلاوة القرآن، وتزهد نفسه فى شهوات الحيوانات، وملاذ البشرية ومقتضيات الإبليسية؛ حتى يكون فى نومه مشاهدًا لما تقتبسه روحه من العالم الأعلى، وفى يقظته مراقبًا ربه، وبذلك تنكشف له غيوب بما يرد على قلبه من الروح لصفائها وراحتها من عناء تدبير الجسم الشهواني، فيكون الجسم مجانسًا للروح، وفى هذا المقام يكون الإنسان أفضل من الملائكة؛ لأنه مجاهد، والملائكة مفطورون على الخير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …