معلوم من الدين بالضرورة أن أركان الإسلام الخمسة لا يتحقق إسلام مسلم وإيمانه إلا بالقيام بها على حقيقتها، والعمل بها على وجهها الذي تصح به وتقبل، ولما كانت تلك الأركان هي: كلمة الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت…
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم
بقية الركيزة الأولى: العقيدة
أركان الإسلام:
معلوم من الدين بالضرورة أن أركان الإسلام الخمسة لا يتحقق إسلام مسلم وإيمانه إلا بالقيام بها على حقيقتها، والعمل بها على وجهها الذي تصح به وتقبل، ولما كانت تلك الأركان هي: كلمة الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وكانت تلك الأركان – وإن تعددت – فإنما هي تومئ إلى معنى واحد لا يصح إلا بها، ولا يتحقق إلا بها، فهي الإيمان وهي الإسلام، وإن كان يراد بالإيمان ما هو أخص من الإسلام، فإن الإيمان هو عمل القلوب، سواء كان في العقيدة أو في النيات والإخلاص والصدق والخوف والرغبة والرهبة والخشية، فإن الأعمال البدنية التي يسميها بعضهم إسلامًا لا تتحقق إلا بعمل القلوب، فالإسلام والإيمان وإن اختلف معناهما فهما شيء واحد، فمن تهاون بركن من الأركان مستحلًّا لذلك فهو كافر بالإجماع.
الركن الأول: الشهادتان
لما كانت كلمة الشهادتين هي أصل الدين، والباب الذي يدخل به الإنسان إلى التحقق بوصف المسلمين، وكانت هي حقيقة العقيدة وكنز الأسماء والأوصاف الإلهية، فقد بينا العقيدة وما كان عليه السلف الصالح من فهم كلمة الشهادتين وفضائلها في كتاب: (أصول الوصول) بتفصيل لا يحتاج إلى مزيد بالعبارة، ولكن يكون مزيده بالمواهب الربانية والمنن للمخلصين المستبصرين، الذين حصلوا الأصول الواجبة عليهم، وكان المزيد من الله تعالى الذي هو المواجهة والمنازلة ومشاهدة الآيات والإشراف على الملكوت، من الأمور التي لا يصح رسمها في كتاب؛ حتى يمن الله بها على السالك المخلص، خصوصًا من مشاهد التوحيد وأسرار التنزيه والتفريد، وأنوار الأحدية وغيوب الهوية، قال الله تعالى: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ (آل عمران: 74). فعلى من يريد الاطلاع على تفصيل ما انطوى في كلمة الشهادتين، أن يرجع إلى كتاب: (أصول الوصول) ومن أراد المزيد فليراجع تلك الإشارات في كتاب: (شراب الأرواح) والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعلنا من أهل الحسنى وزيادة، وأن يمنحنا الإخلاص لذاته العلية، والصدق في معاملته بجاه حبيبه المصطفى J.
طريقة السلف في تأدية أركان الإسلام
لما كانت تلك الأركان تتعلق بها علوم كثيرة، كعلم شروط وجوبها وصحتها، وعلم تأديتها، وعلم معرفة تمييز فرائضها وسننها، وعلم مواقيتها ومقاديرها وهيئاتها، وعلم مفسداتها، وما يجب على العامل إذا فسد عمله من قضاء أو جبر للعمل، وكانت كل تلك العلوم واجبة على كل مسلم أن يحصلها عند وجوب العمل عليه أو قبله؛ حتى يستعد للقيام بالعمل في وقته، وقد بينت أحكام تلك الأركان الأربعة بأسلوب يسهل على المبتدئ فهمه، ويحتاج المنتهي في العلوم إليه في كتاب: (أصول الوصول) لذلك لا أرى لزومًا لتكرارها في هذا المختصر؛ لأن هذا الكتاب مرتب على الكتب التي قبله.
ولكن لا بد من ذكر طريقة السلف الصالح في تأدية تلك الأركان وذكر فضائلها، ومشاهد أهلها حال عملها، وآدابهم حال الملابسة بها، ليكون ذلك حثًّا لهمم مريدي طريق الله تعالى، وتذكرة لأهل الإخلاص المشاهدين، ودرسًا مفيدًا لإخواننا المسترشدين، وضوابط نافعة للمرشدين، متحريًا في ذلك المشاهد الإلهية، التي يواجه الله تعالى بها من تحقق باليقين الحق، أو بعين اليقين في تلك المشاهد، قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11)، وقال تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ (المدثر: 31) وقال الله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ (مريم: 76).
وكان هذا الكتاب إنما وضعته للسالكين حقيقة السنة وعمل الأئمة من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لهم بإحسان، على أني أنبه المطلع على تلك الفضائل أن يجاهد نفسه بقدر الاستطاعة على أن يتحقق بها، ولا يرى أن ذلك أمرًا مستحيلًا، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وليشكر الله على ما وهب له من التوفيق للعمل، ويسأله المزيد ويديم المجاهدة، حتى يمنحه الله مواهب الصديقين والشهداء الذين شهدوا بما شهد الله سبحانه به، وشهدت به ملائكته ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ولا يتصور أن تلك المواهب خاصة لا ينالها إلا قوم مخصوصون، فتقف همته عن طلبها، ويستصغر نفسه عن التشوف لها، فإن كل مؤمن بالله سبحانه وبما جاء به رسول الله J، عامل بالسنة، مؤهل أن ينال فضل الله بفضله سبحانه، ولو نظر السالك إلى أن هذا الفضل العظيم منَّ الله به على كثير ممن ليسوا بعرب، وليسوا من قريش، وليسوا من بني هاشم، وتحقق أنه فضل بدايته التسليم والتوفيق، ووسطه الإخلاص والصدق بعناية الله تعالى، ونهايته الفضل العظيم من الله تعالى.
فانهض يا أخي – أذاقك الله حلاوة التوحيد، ونعمك بمشاهد أهل اليقين – وجاهد نفسك متشبهًا بأهل القرب، عاملًا بأعمال الصديقين، لتشرق عليك أنوار المحبة، وتجمل بحلل العناية من الله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الحديد: 21). وصلى الله على سيدنا محمد، شمس هذا الأفق المبين، وروح هياكل المقربين، ونور قلوب العارفين، وآله وصحبه وسلم.
الركن الثاني: الصلاة([1])
تعريف الصلاة:
الصلاة عماد الدين، والشكر بجميع الجوارح لرب العالمين، ومناجاة الله تعالى بكلامه العزيز، بها يتجمل العبد بأجمل حلله التي بها يجمله ربه ويحبه ويقبل عليه، وما يتعلق بها من الأحكام والشروط والوسائل التي لا تصح ولا تقبل إلا بها، وبيان هيئاتها وأوقاتها، تقدم ذكرها في كتاب: (أصول الوصول) مستوفاة كل حكم بمأخذه من السنة العملية والقولية والكتاب العزيز.
فضائل الصلاة وآدابها:
وأريد بعون الله وحسن توفيقه أن أبين هنا فضائلها وآدابها، وفضائل المصلين ومشاهد أهل اليقين فيها، فأقول والله وليي وحسبي ونعم الوكيل:
قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ (طه: 14). وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 205). وقال تعالى: ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ (النساء: 43)، قيل: سكارى من حب الدنيا، وقيل: من الاهتمام بها، وقال جل ثناؤه: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ (المعارج: 23) وقال النبي J: «من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا، غفر له ما تقدم من ذنبه» وقال J: «إنما الصلاة تمسكن وتواضع وتضرع وتباؤس وتنادم، وترفع يديك وتقول: اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج – أي ناقصة -» روينا عن الله سبحانه وتعالى في الكتب السالفة أنه قال: «ليس كل مصل أتقبل صلاته، إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر عليًّ، وأطعم الفقير الجائع لوجهي «.
فمن الإقبال على الصلاة أن لا تعرف مَن على يمينك ولا مَن على شمالك، من حسن القيام بين يدي القائم على كل نفس بما كسبت، وكذلك فسروا قوله تعالى: ﴿ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ (المؤمنون: 2). وقال سعيد بن جبريل: ما عرفت من على يميني، ولا من على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة، منذ سمعت ابن عباس يقول: الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلي مَن على يمينه وعن شماله. وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من لم يخشع فسدت صلاته. وروينا عن معاذ بن جبل: من عرف مَن عن يمينه وشماله في الصلاة متعمدًا فلا صلاة له، وقد أسنده إسماعيل بن أبي زياد عن بشر بن الحرث وغيره. وعن الثوري أيضًا: من قرأ كلمة مكتوبة في حائط أو بساط في صلاته، فصلاته باطلة، وقال بشر: يعني بذلك لأنه عمل في الصلاة.
ومن الدوام في الصلاة السكون فيها، وعلى ذلك فسر قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ قيل: هو السكون والطمأنينة في الصلاة من قولك: ماء دائم، إذا سكن. وقال بعض الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئاتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء .
ومن وجود النعيم بها واللذة، إصغاء القلب للفهم وخشوعه للتواضع، وسكون الجوارح للهيبة، ثم الترتيل في القراءة والتدبر لمعاني الكلام، وحسن الافتقار إلى المتكلم في الإفهام والإيقاف على المراد، وصدق الرغبة في الطلب للاطلاع على المطلع من السر المكنون المستودع في الكتاب، وإن مر بآية رحمة سأل ورغب، أو آية عذاب فزع واستعاذ، أو مر بتسبيح أو تعظيم حمد وسبح وعظم، فإن قال بلسانه فحسن، وإن أسره في قلبه، ورفع به همه، ناب قصده عن المقال، وكان فقره غاية السؤال، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ (البقرة: 121) هكذا كان وصفهم في التلاوة.
وينبغي أن يكون قلبه بوصف على ركن من أركان الصلاة، وهمه معلق بكل معنى من معاني المناجاة، فإذا قال: الله أكبر أي: مما سواه، ولا يقال: أكبر من صغير، إنما يقال أكبر من كبير، فيقال: هذا كبير وأنا أكبر، فإن كان همه الملك الكبير كان ذكر الله أكبر في قلبه، فليواطئ قلبه قول مولاه في قوله تعالى: ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ (العنكبوت: 45)، ويواطئ لسانه قلبه في مشاهدة الأكبر، فيكون يتلو وينظر، فإن الله تعالى قدم العين على اللسان في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴾ (البلد: 8-9) فلا يقدم لسانه ويؤخر بصره، ويكون عقده محققًا لمقاله بالوصف، حتى يكون عاملًا بما يقول في الحال، فقد أخذ عليه ذلك لما أمر به حجة عليه وتنبيهًا له .
ولا يكون بقوله: «الله أكبر» حاكيًا ذلك عن قول غيره، ولا مخبرًا به عن سواه، بل يكون هو المتحقق بالمعنى القائم بالشهادة، وهذا عند أهل المعرفة واجب؛ لأن الإيمان قول وعمل في كل شيء، فإذا قلت: الله أكبر، فإن العمل بالقول أن يكون الله أكبر في قلبك من كل شيء، وهو من رعاية العهد لتدخل تحت الثناء والمدح في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ (المؤمنون: 8) فالعهد ما أعطيت بلسانك، والرعاية الوفاء بالقلب، ليستحق الأجر العظيم كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (الفتح: 10) ومن كان في قلبه الملك الصغير الفاني أكبر من الملك الأكبر، فما عمل بقوله: الله أكبر، وليس هذا حقيقة الإيمان؛ لأنه لم يأت بعمل وقول، وإنما جاء بالقول.
وهذا قائم بنفس من مشاهدته الآخرة وكانت قرة عينه الآخرة كما قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾ يعني الدنيا ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: 96) يعني الآخرة، وقد قال J: «جعلت قرة عيني في الصلاة«؛ لأنه كان عند ربه فجعل قرة عينه به، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت: 45) فالمذكور أكبر وأكبر.
وقد أخبر تعالى أن الصلاة أريد بها الذكر في قوله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ وروى معنى ذلك عن رسول الله J إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغي عظمة ولا هيبة، فما قيمة ذكرك ؟. وقال رسول الله J لأنس بن مالك: «وإذا صليتَ صلاةً فصل صلاة مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعمره، سائر إلى مولاه» كما قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا ﴾ (الانشقاق: 6)، وكقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ (البقرة: 223) وقال النبي J: «جعلت قرة عيني في الصلاة «، وكان يرى الأكبر فتقر عينه به. وقال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدًا» كما قال: «من لم يترك قول الزور والخيانة فليس لله تعالى حاجة في أن يترك طعامه وشرابه» فإنما المراد من الصلاة والصيام المخالفة من الآثام.
ومن إقامة الصلاة وإتمامها الوضوء لها قبل دخول وقتها، لئلا يشغله عن أول وقت غيرها، وينبغي أن يكون قلبه في همه، وهمه مع ربه، وربه في قلبه، فينظر إليه من كلامه، ويكلمه بخطابه، ويتملقه بمناجاته، ويعرفه من صفاته، فإن كان كلمة عن معنى اسم أو وصف أو خلق أو حكم أو إرادة أو فعل؛ لأن الكلم ينبئ عن الأوصاف، ويدل على الموصوف، وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات، للعارف من كل جهة مقام ومشاهدات، أول الجهات الإيمان بها، والتسليم لها، والتوبة إليها، والصبر عليها، والرضا بها، والخوف منها، والرجاء لها، والشكر عليها، والمحبة لها، والتوكل فيها، فهذه المقامات العشرة هي مقامات اليقين؛ لأن الكلمة هي حق اليقين، وهذه المعاني كلها منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التملق والمناجاة، ويعرفها أهل العلم والحياة؛ لأن كلام المحبوب حياة القلوب، لا ينذر به إلا حي، ولا يحيى به إلا مستجيب، قال الله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ (يس: 69-70) وقال سبحانه: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24).
ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من نقل في العشر مقامات المذكورة في سورة الأحزاب أولها مقام المسلمين وآخرها مقام الذاكرين، وبعد مقام الذكر هذه المشاهدات العشر، فعنده ألا يمل المناجاة لوجود المصافاة، ولا يثقل عليه القيام للذاذة والإفهام، ويسهل عليه الوقوف لدنو العطوف، ويتنعم بالعتاب بحلاوة الاقتراب، هنالك يندرج طول القيام في التلاوة فلا يجده، كاندراج القبلة في الصلاة فلا يشهدها، فيكون من ورائه القبلة وهو أمامها، كذلك القيام يحمله وهو مع حامله.
حدثت أن الموقن إذا توضأ للصلاة، تباعدت عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفًا منه؛ لأنه يتأهب للدخول على الملك، فإذا كبَّر حجب عنه إبليس وضرب بينه وبينه سرادق لا ينظر إليه، وواجهه الجبار بوجهه، فإذا قال: الله أكبر، اطلع الملك في قلبه، فإذا ليس في قلبه أكبر من الله تعالى، فيقول: صدقت، الله تعالى في قلبك كما تقول، قال: فيتشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، فيكشف له بذلك النور ملكوت السموات والأرض، ويكتب له حشو ذلك النور حسنات.
قال: وإن الغافل الجاهل إذا قام للوضوء احتوشته الشياطين كما يحتوش الذباب على نقطة العسل، وإذا كبَّر اطلع الملك في قلبه، فإذا كل شيء في قلبه أكبر من الله تعالى عنده، فيقول له: كذبت ليس الله في قلبك كما تقول، قال: فيثور في قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجابًا لقلبه، قال: فيرد ذلك الحجاب صلاته ويلتقم الشيطان قلبه، فلا يزال ينفخ فيه وينفث ويوسوس إليه ويزين له حتى ينصرف من صلاته، ولا يعقل ما كان فيه، وقد جاء في الخبر: لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات.
وروينا عن رسول الله J أنه رأى في القبلة نخامة فغضب غضبًا شديدًا، ثم حكها بعرجون كان في يده وقال: «ائتوني بعبير» فلطخ أثرها بزعفران، ثم التفت إلينا فقال: «أيكم يحب أن يبزق في وجهه؟ فقلنا: لا أينا، قال: فإن أحدكم إذا دخل في صلاته فإن الله عز وجل بينه وبين القبلة» وفي لفظ آخر: «واجهة الله تعالى فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة فليبصق في ثوبه وليقلبه هكذا: ودَلَكَ بعضه ببعض» .
وقد روى: إذا قام العبد في صلاته وقال: الله أكبر، قال الله لملائكته: ارفعوا الحجاب بيني وبين عبدي، فإذا التفت، يقول الله تعالى: عبدي إلى من تلتفت، أنا خير لك ممن تلتفت إليه، ثم إذا قام المقبل على صلاته شهد قلبه قيامه لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم شهد وقوفه بالحضرة بين يدي الملك الجبار، إذ ليس من الغافلين، فتأخذه غيبة الحضور، ويرهقه إجلال الحاضر، ويستولى عليه تعظيم القريب، ويجمعه خشية الرقيب، فإذا تلا وقف همه مع المتكلم ماذا أراد، واشتغل قلبه بالفهم عنه والانبساط منه، فإن ركع وقف قلبه مع التعظيم للعظيم، فلا يكون في قلبه أعظم من الله تعالى وحده، فإن رفع شهد الحمد للمحمود فوقف مع الشكر للودود، فاستوجب منه المزيد، وسكن قلبه بالرضا؛ لأنه حقيقة الحمد، وإن سجد سما قلبه في العلو فقرب منه الأعلى؛ لقوله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ (العلق: 19).
وأهل المشاهدة في السجود على ثلاثة مقامات:
– منهم من إذا سجد كوشف بالجبروت الأعلى، فيعلو إلى القريب ويدنو من القريب، وهذا مقام المقربين من المحبوبين.
– ومنهم من إذا سجد كوشف بملكوت العزة، فيسجد على الثرى الأسفل عند وصف من الأوصاف القادر الأجل فيكسر قلبه، ويخبت تواضعًا وذلًّا للعزيز الأعلى، وهذا مقام الخائفين من العابدين.
– ومنهم من إذا سجد جال قلبه في ملكوت السماوات والأرض، فآب بظرائف الفوائد، وشهد غرائب الزوائد، وهذا مقام الصادقين من الطالبين.
– وهناك قسم رابع لا يذكر بشيء ليس له وصف فيستحق المدح، وهم الذين يجول هممهم في أعطية الملك وأنصبة المماليك، فهم محجوبون بالهمم الدنيئة عن الشهادة العلية، محجوبون بالهوى عن السياحة إلى الإعلام.
فإن دعا هذا المصلي نظر إلى المدعو فكان هو المرجو، فأخذ في التمجيد والثناء والحمد والآلاء، ونسى حاجته من الدنيا، واشتغل عن نفسه بالمولى، وعن مسألته بحسن الثناء.
وإن استغفر هذا الداعي تفكر في أوصاف التوبة وأحكام التائب، وتفكر ما سلف من الذنوب فعمل في تصفية الاستغفار، وإخلاص الإنابة والاعتذار، وجد وعقد الاستقامة فيكون له بهذا الاستغفار من الله عز وجل تحية وكرامة.
ففي مثل صلاة هذا العبد وردت الأخبار أن العبد إذا قام إلى الصلاة، رفع الحجاب بينه وبين الله وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء فيصلون بصلاته، ويؤمنون على دعائه، وأن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد لو يعلم المناجي من يناجي ما خرج، وأن أبواب السماء تفتح للمصلين، وأن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين، وفي التوراة المكتوب: يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي مصليًا باكيًا، فأنا الله تعالى الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري .
قال: وكنا نرى أن تلك الرقة والبكاء، وتلك الفتوح التى يجدها المصلي في قلبه من دنو الرب تبارك وتعالى من القلب.
وقال رجل للنبي J: ادع الله تعالى أن يرزقني مرافقتك في الجنة، فقال: »أعني بكثرة السجود«، وروينا عن النبي J: »ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحب إليه من الصلاة، ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته، منهم راكع وساجد وقائم وقاعد « أو كما قال بعض العلماء: الصلاة خدمة الله عز وجل في أرضه، وقال آخر: المصلون خدام الله عز وجل على بساطه. ويقال: إن المصلين من الملائكة يسمون في السموات خدام الرحمن، ويفخرون بذلك على سائر المرسلين من الملائكة.
ويقال: إن المؤمن إذا صلى ركعتين عجب منه عشر صفوف من الملائكة، كل صف منهم عشرة آلاف، وباهى الله تعالى به مائة ألف ملك، وذلك أن العبد قد جمع فيه أركان الصلاة الأربعة من القيام والقعود والركوع والجلوس وفرّق ذلك على أربعين ألف ملك، والقائمون لا يركعون إلى يوم القيامة، والساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة، وكذلك الراكعون والقاعدون، ثم قد جمع الله له أركان الصلاة الستة، من التكبير والتلاوة والحمد والاستغفـار والدعاء والصـلاة علـى النبي J وفرق ذلك على ستين ألف ملك؛ لأن كل صف من الملائكة عبادته ذكر من الأذكار الستة، فإذا رأت الأملاك ما جمع فيه من الأركان الستة والأذكار في ركعتين، عجبت منه وباهاهم الله تعالى به؛ لأنه قد فرق تلك الأعمال والأركان على مائة ألف ملك، وبذلك فضل المؤمن على الملائكة، وكذلك فضل الموقن أيضًا في مقامات اليقين من أعمال القلوب على الأملاك، بالتنقيل في المقامات، بأن جمعت فيه ورفع منها .
والملائكة لا ينقلون، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم، لا ينقل عنه إلى غيره، مثل الشكر والخوف والرجاء والشوق والأنين والخشية والمحبة، بل كل ملك له مزيد وعلو من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كله في قلب الموقن، قال الله تعالى: وهو أصدق القائلين في صفات أوليائه المؤمنين: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ (المؤمنون: 1-3) فمدحهم بالصلاة كما ذكرهم بالإيمان، ثم مدح صلاتهم بالخشوع، كما افتتح بالصلاة أوصافهم، ثم قال في آخرها: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ (المؤمنون: 9) فختم بها نعوتهم، وقال في نعت عباده المصلين الذين استثناهم من الذين يجزعون من المصائب والفقر والمانعين للمال والخير: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ (المعارج: 22-23) ثم نسق النعوت وقال في آخرها: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ (المعارج: 34)، فلولا أنها أحب الأعمال إليه، ما جعلها مفتاح صفات أحبائه وختامها، ولما وصفهم بالدوام والمحافظة عليها، ومدحهم بالخشوع فيها .
والخشوع هو انكسار القلب وإخباته، وتواضعه وذلته، ثم لين الجانب وكف الجوارح، وحسن صمت وإقبال، والمداومة والمواظبة عليها، وسكون القلب والجوارح فيها.
والمحافظة هي حضور القلب وإصغاؤه، وصفاء الفهم وإفراده، من مراعاة الأوقات، وإكمال طهارة الأدوات.
ثم قال تعالى في عاقبة المصلين: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون: 10 – 11). فجعل أول عطائهم الفلاح، وهو الظفر والبقاء، وآخره الفردوس هو خير المستقر والمأوى، وقال في أضدادهم من أهل النار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ (المدثر: 42-43) .وقال موبخًا لآخر منهم: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ (القيامة: 31) ونهى رسول الله J عن طاعة من نهاة عن الصلاة، ثم أمره بها وأخبره أن فيها القرب والزلفى في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ (العلق: 9-10) ثم قال: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: 19).
|
فالمصلون بقيته من خلقه، وورثة جنته من عباده، وأهل النجاة من دار غضبه وإبعاده، جعلنا الله منهم بعطفه ورحمته.
مجلة الإسلام وطن موقع مشيخة الطريقة العزمية