أخبار عاجلة

العلاقة بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية (14)

بيَّنَّا اللقاء الماضي عدم صلاحية المنهج التجريبي للدراسات الإنسانية – التي هي من اختصاص العلوم الدينية -؛ لأن الإنسان ليس مجرد كائن حي، بل هو جسد وروح ونفس، أو جسد ونفس، والنفس أو الروح ليستا قابلتين للتحضير معمليًّا؛ لأنهما أمران غيبيان، وفي هذا المقال نواصل الحديث..

أ.د. فاروق الدسوقي

بقية: الاستقلال بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية من حيث المنهج

بقية: ج- منهج العلوم التجريبية:

4- لا يصلح هذا المنهج لدراسة الأحداث التاريخية أو الظواهر الاجتماعية الغابرة وذلك بسبب عدم تكرار هذه الأحداث والظواهر مما يمنع إخضاعها للتجربة، فالفرض الذي سيضعه الباحث لتعليل حدث تاريخي أو ظاهرة بائدة غير قابل للتحقيق بالتجربة، حيث يستحيل على الانسان إعادة حدوثه مرة ثانية معمليًّا لتحقيق صحة هذا الفرض أو بطلانه، وإذا حدث وتكرر ما يشبهه في الواقع فإنه لا يكون بنفس الشروط المطلوبة لتحقيق الفرض المطروح.

فعندما يفسر دارون أصل ونشأة الإنسان بالتطور عن الحيوان في أزمان سحيقة غابرة، يظل هذا التفسير مجرد تخمين وفرض وفكر نظري وعمل ذهني يحتمل الصواب والخطأ، والسبب أنه يستحيل تحقيقه تجريبيًّا لعدم تكرار حدث نشوء الإنسان لإجراء التجارب الرامية إلى تحقيق هذا التفسير.

فهو إذن ليس تفسيرًا علميًّا بل هو من قبيل التأملات الفلسفية أو الأعمال الذهنية.

5- يفرق المنهج العلمي التجريبي بين حالتين يكون الانسان الباحث عليهما خلال ممارسته لهذا المنهج، الحالة الأولى: حالة كون الباحث مفكرًا ومخمنًا ومفترضًا ومتخيلًا ومتأملًا، والحالة الثانية: حالة كونه: عالمًا، وفرق كبير بين الحالتين.

فحالة الباحث الأولى حيال الظاهرة قيد البحث والتجريب: تكون بعيدة كل البعد عن كونه عالمًا بها، فهو لم يصبح عالمًا بتفسيرها الصحيح بعد، ولا يقدح في ذلك أنه قد وضع عدة فروض أحدها هو الصحيح، لأنه لم يعلم بعد ما هو الصحيح؟ فعلمه حتى هذه المرحلة علم ذهني خيالي ذاتي يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. والعلم هو بما ثبتت صحته من تفسيرات وليس بما يحتمل صحته منها.

أما الحالة الثانية: فينتقل الباحث فيها من مجرد باحث ومفكر ومخمن إلى عالم، وذلك بعد وصوله إلى التفسير الصحيح للظاهرة وثبوته بالتجربة.

ولما كانت النظريات هي مجموعة فروض تحاول تحليل ظاهرة كونية عامة أو مجموعة ظواهر طبيعية وكونية، فإن هذه النظريات أيضًا ليست علمًا بل هي تدخل في مجال الفكر أو في مجال العلم الذهني البشري الذي لم يرقَ إلى مستوى العلم اليقيني بعد، وعندما يضع الباحث فروضًا، فإنه يكون في هذه المرحلة، وبالنسبة لهذه الظاهرة، مفكرًا وليس عالمًا، إذ كيف يوصف بأنه عالم حيال هذه المسألة أو الظاهرة وهو ما زال يخمن ويفترض، قد يكون عالمًا بالنسبة لما سواها من الظواهر التي وضع لها فروضًا وتحقق من صحتها بالتجربة، أو عالمًا بالنسبة لما ثبت صحته بالتجربة على أيدي من سبقوه من العلماء، ولكنه يظل ولا يكون بالنسبة للظاهرة قيد البحث سوى باحث، والوصف اللائق به في هذه الحالة هو أنه مخمن ومفكر ومتخيل.

والخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس هو تلقي كلام وبيانات وكتابات بعض العلماء البارزين حالة كونهم باحثين ومخمنين ومفكرين باعتباره علمًا مع أنه مجرد نظريات وتخمينات وفروض، ومع بيان العلماء بأن ما يقولونه مجرد تخمين أو فرض، كأن يقول العالم مثلًا: وحيث إنه يصاحب هذه الظاهرة كذا وكذا فإنه من المحتمل أو من الأرجح أو المتوقع أن يكون سببها كذا وكذا. عندئذ يأخذ أنصاف المثقفين والمفتونين بالتقدم العلمي والتكنولوجي هذا الكلام على أنه علم لمجرد أن قائله من العلماء البارزين، وتكون الفتنة أشد إذا حدث أي تعارض بين هذا الفرض وبين آية قرآنية كريمة أو حديث نبوي شريف، مما يحدث اللبس والشك في النفوس، مع أن الأمر المصرح به العالم ليس سوى تخمينًا، ومن ثم يكون التعارض بينه وبين الوحي دليل على بطلانه.

من هذه الفروض والنظريات والتأملات الفكرية التي لا يمكن تحقيقها تجريبيًّا كلام العلماء عن نشأة الكون ونشأة الإنسان وأصل الحياة على الأرض. فلا يجوز أن نصف هذه النظريات بأنها علم لأنها غير قابلة للتجريب.

والخلاصة: أن هذا المنهج لا يصلح للبحث في أصل الكون وسر الوجود ونشأة الموجودات وبدء الحياة على الأرض ومصير الإنسان بعد الموت، والهدف من وجوده؛ لأن هذه الموضوعات جميعًا غير صالحة لتحقيق الفروض الموضوعة لتفسيرها، فلا يمكن تحضير الكون ككل معمليًّا ولا يمكن حصره في مكان محدد أو زمان معين، وهكذا.

ولما كانت هذه الموضوعات هي موضوعات عقيدة الإنسان في الكون والحياة والإنسان وهذا المنهج غير صالح لدراستها كان لا بد من منهج آخر هو المعرفة الدينية ومنهجها، أما موضوعات المعرفة التجريبية فهي الموجودات الجزئية الواقعة في الزمان والمكان والمتصفة بالكثافة واللون والرائحة، ولكن ثمة موضوعات أخرى وكائنات أخرى يلزم لها منهج آخر هو منهج العلوم الدينية.

ولا شك أن ما يسمونه بالاشتراكية العلمية خرافة وكذب وخداع؛ لأن الماركسية التي وضعها ماركس عقيدة مادية في الكون والحياة والإنسان ليست مستخلصة أو ثابتة بالتجربة بل هي أفكار ذهنية فلسفية وضعها ماركس، ولم يزعم أنها نتائج علمية لتجارب معملية أو غير معملية، ولكن وصفها بأنها علمية من قبيل المخاتلة والخداع، وهي بريئة من العلم، والعلم منها براء.

فمن يزعم إمكانية استخدام المنهج التجريبي في موضوعات العقيدة ودراسة الإنسان فهو لا يعرف العقيدة من ناحية، ولا يعرف طبيعة المنهج التجريبي من ناحية أخرى، أو هو يعرف ويخادع([1]).

وعندما يضع الفلاسفة والمفكرون والقانونيون والاقتصاديون والتربويون والأخلاقيون أصول وقواعد وإيديولوجيات وأنظمة الحياة في مجتمع ما فإنهم يكونون في صلب وجوهر المعرفة الدينية والعلوم الدينية أي الإنسانية. إنهم يستخدمون التأمل والتفكر والاستنباط والتوقع ويبنون على المحتمل والمفروض، وما ينبغي أن يكون، وكل هذا مخالف لخطوات المنهج التجريبي وروحه وصبغته الكامنين في التجربة المعملية.

ولا يمنعنا عن القول بأن هذه كلها من المعرفة الدينية، إنكار هؤلاء في كثير من مجتمعات الغرب للدين بالمفهوم السماوي للدين؛ لأننا نقصد بالمعرفة الدينية معلومات أمة من الأمم عن الكون والإنسان والحياة وعن الطريقة المثلى – في نظرهم – لتعامل الناس بعضهم مع بعض، خلقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ودوليًّا؛ حتى لو كانت التشريعات المنظمة لهذه المعاملات من وضع البشر؛ لأنها حينئذ تكون دينهم، حيث الدين بمعناه الواسع الشامل هو منهاج الحياة الذي تحيا به أمة من الأمم.

([1]) نتحدى أن يأتي أحد بحقيقة علمية ثابتة تعارض آية قرآنية أو حديثًا صحيحًا أو حقيقة معلومة من الدين بالضرورة. أما أن يكون المعارض لحقائق ونصوص الإسلام نظريات وفروض وتخمينات الباحثين؛ فهذا دليل على بطلان هذه الفروض؛ حتى بدون إثبات ذلك بالتجربة.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …