أخبار عاجلة

التصوف الإسلامي .. أقطاب ومقامات وتجليات (6)

عود على بدء، فلن نجد في تاريخ المتصوفة من تراث ومواجيد استثنائية يتحقق فيها هذا التوافق بين العقل الذي يفكر، والقلب الذي يفطن ويدرك إلا في حديثهم عن المحبة، وهي باب طويل جدًّا اجتهد في وصفه وتوصيفه كبار الصوفية في الإسلام وأقاموا القرائن التي يتحقق بها الوجد..

الأستاذ الدكتور بليغ حمدي

بقية: الطريق إلى الصبر

عود على بدء، فلن نجد في تاريخ المتصوفة من تراث ومواجيد استثنائية يتحقق فيها هذا التوافق بين العقل الذي يفكر، والقلب الذي يفطن ويدرك إلا في حديثهم عن المحبة، وهي باب طويل جدًّا اجتهد في وصفه وتوصيفه كبار الصوفية في الإسلام وأقاموا القرائن التي يتحقق بها الوجد، وظلت أقوالهم واجتهاداتهم حتى يومنا هذا محل تحليل وتأويل، منها ما جعله المفسرون حقًّا واضحًا جليًّا، ومنها ما قرر بعضهم جعله أمرًا مرفوضًا، وإذا كان الصوفيون أنفسهم قد تركوا باب الجدل، فإن من اهتم بتراثهم الفكري والشعري قرروا السقوط كرهًا وطوعًا في الدائرة التي حذر منها هؤلاء الصوفيون ألا وهي الجدل.

لكن بالرغم من أننا أشرنا في مقدمة هذه السطور بأن الصوفيين هرعوا بعيدًا باجتهاداتهم عن أبواب الجدل التي قد تثير الخصومة، إلا أن فصل المحبة نفسه يعد أروع مثال لتجارب الصوفيين التي لا تعرف للتشابه سبيلًا، ولا تؤدي للنمذجة طريقًا، لذا فإننا نجد ثمة أقوال متباينة عند حديثهم عن المحبة والوجد، لدرجة أن أبا نصر السراج الطوسي المعروف بطاووس الفقراء يقول: ” اختلف أهل التصوف في الوجد: ما هو؟ فقال عمرو بن عثمان المكي: لا يقع على كيفية الوجد عبارة؛ لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين “.

غير أن الحارث المحاسبي الصوفي الذي عرف باستقامة الأخلاق والذي اشتهر برفضه ميراث أبيه؛ لأنه كان على مذهب المعتزلة وهي فرقة من أهل الكلام، يقول في فصل الوجد: ” إن أول المحبة الطاعة وهي منتزعة من حب الله عز وجل إذ كان هو المبتدئ بها، وذلك أنه عرفهم نفسه، ودلهم على طاعته، فجعل المحبة له ودائع في قلوب محبيه، ثم ألبسهم النور الساطع في ألفاظهم من شدة نور محبته في قلوبهم “.

ولعل الحارث المحاسبي وأبا نصر السراج الطوسي هما أبرز من تحدث عن مقام المحبة والوجد في تاريخ الصوفية، رغم أن مؤرخي حركة التصوف الإسلامي أجمعوا على أن ابن الفارض هو سلطان العاشقين قاطبة، إلا أن ابن الفارض لا يغلب على طرحه الشعري جانب الفكرة مقارنة بأحوال الوجدان التي غلبت وطغت على أشعاره، أما الحارث المحاسبي وأبو نصر الطوسي فهما يستدلان بهما دومًا على المزج الفطري والطبيعي بغير استهجان بين الفكرة والقلب، خصوصًا وأن أبا نصر السراج الطوسي في كتابه ” كتاب اللمع ” قدم نموذجًا واضحًا من رؤيته الصوفية في موضوع الوجد، وهذا الكتاب المصدر قالت عنه المستشرقة الألمانية (آنا ماري شيمل): إنه أول مرجع في التصوف الإسلامي يعرض بشكل متكامل الطريق الصوفي مع ذكر مصادر عديدة له، حتى الباحث الأمريكي ( ألكسندر كنيش ) يصف الكتاب بالمهم لقيامه بتعريف وتوصيف المقامات والأحوال وأجمل عرض المصطلحات والمواضعات الصوفية بدقة.

أما الحارث المحاسبي فانفرد وحده بتمزيق مقام المحبة إلى أبواب وصنوف مثل: العشق، والشوق، واللطف، واستنارة القلب، والأنس، ولذة الخلوة. ومشكلة المعاصرين التي ستظل أبدية هي فقر المصطلح ودلالته عندهم، وهوس التصنيف الذي لا يصح في البدء ولا يليق في الختام بهم، ليس لأنهم خارج حدود التصنيف، لكن لأن التجربة نفسها تعد استثنائية غير متكررة.

وها هو أبو نصر السراج الطوسي ينافس المعاصرين الذين يميلون إلى التصنيف والتحليل رغم بون المسافة التاريخية بينهما، فهو حينما يتحدث عن الوجد يفرق بين الوجد، والوجل، ويوضح صفات الواجدين ويميز التواجد من الوجد. فيقول عن الوجد بأنه كل ما صادف القلب من غم أو فرح، معللاً كلامه بأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن القلوب بأنها تنظر وتبصر وهو وجد لها، يقول تعالى: )فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ( (الحج: 46). أي عن وجدها بين التي تجد وبين التي لا تجد.

والحارث المحاسبي يشدد على أن الحب لله هو الحب المحكم الرصين، وهو دوام الذكر بالقلب واللسان لله وشدة الأنس بالله، وقطع كل شاغل شغل عن الله وتذكار للنعم، ويقول: ” فالحب لله في نفسه استنارة للقلب بالفرح لقربه من حبيبه، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه، فالحب هائج غالب والخوف لقلبه لازم لا هائج إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية وهدى لأركان شدة الخوف وحل الأنس بقلبه لله، فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله “.

أما أبو نصر السراج الطوسي فيرى أن الوجد وجدان؛ وجد مُلك، ووجد لقاء لقوله تعالى: )فَمَن لَّمْ يَجِدْ( (المجادلة: 4) يعني من لم يملك، وقوله تعالى في سورة الكهف: )وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا( (الكهف: 46) بمعنى لقوا. ويعزز الطوسي طرحه عن الوجد بقوله: “كل وجد يجدك فيملكك فذاك وجد مُلك، وكل وجد تجده فذاك وجد اللقاء تلقى بقلبك شيئًا ولا يثبت”.

وإذا رجعنا إلى أمهات التفاسير التي تعرضت للآية الكريمة: )وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا( نجد ابن كثير يقول: أي من خير أو شر كما قال تعالى: )يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا( (آل عمران: 30)، وقال تعالى: )يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ( (القيامة: 13). أما الإمام الطبري فيرى )وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا( في الدنيا من عمل )حَاضِرًا( في كتابهم ذلك مكتوبًا مثبتًا، فجوزوا بالسيئة مثلها، والحسنة ما الله جازيهم بها.

أما الحارث المحاسبي فيواجه نفسه بسؤال: ما المحبة الأصلية؟ وفي سؤاله هذا يقرن بين القلب والعقل، إذ إنه يتحدث عن أمر الوجدان بلسان العقل والروية، فيقول عن المحبة الأصلية أنها حب الإيمان، مستدلاً بذلك من أن الله تبارك وتعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له فقال: )وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ( (البقرة: 165). يقول المحاسبي: ” فنور الشوق من نور الحب زيادته من حب الوداد، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان “.

ويورد أبو نصر السراج الطوسي عديدًا من أقوال المتصوفة في كتابه “اللمع” في سياق حديثه عن الوجد، لذلك عُدَّ أول الصوفيين توثيقًا بغير غموض بخلاف كثيرين ممن يقول في كتبهم قالوا أو سمعت أحد الصالحين وهكذا، أما الطوسي فكان شديد الحرص على ذكر الأشخاص والأماكن والحوادث وتتبع الأسماء بغير نقص، فينقل عن أبي سعيد أحمد بن بشر بن زياد بن الأعرابي قوله عن الوجد: ” أول الوجد رفع الحجاب، وحضور الفهم، ومحادثة السر، وإيناس المفقود، وهو أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب ) ويعلق على كلام أبي سعيد بقوله: ” فلما ذاقوا وسطع في قلوبهم نورها، زال عنهم كل شك وريب “.

ويرى أبو نصر السراج الطوسي أن الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق، قائلًا: “لأن النفس محجوبة بأسبابها، فإذا انقطعت الأسباب، وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا، ونجعت فيه الموعظة والذكر وحل من المناجاة في محل غريب، وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر طاهر، فشاهد ما كان منه خاليًا، فذلك هو الوجد”.

ونختتم سطورنا عن الوجد بنظم أبي عثمان المزين أنه كان يقول:

فَسُــكْرُ الـــوجدِ في مَعْنَاهُ صَحْوٌ

وصَحْوُ الوَجْدِ سُكْرٌ في الوِصَالِ.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …