أخبار عاجلة

شروح الحكم من جوامع الكلم للإمام أبي العزائم (156)

الحكمة السادسة والخمسون بعد المائة

إذا ذَكَر اللسَانُ سَكنتِ النفْسُ، وإذا ذكَرت النفْسُ سَكَنَ القلبُ، وإذا ذكَر القلبُ سَكَنت الروحُ، وإذا ذَكرَت الروحُ سَكن السِّر، وإذا ذَكَر السرُّ سكنت نفخةُ القدْس، وإذا ذَكَرت نفخةُ القدْس ذُكرَ
اللهُ تعالى.

الأستاذ سميح محمود قنديل

الذكر مقام شريف من مقامات القرب إلى الله U، وله مكانة مرموقة عند الصوفية، فهو الذي يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى الشهود، ويثمر المعارف والأحوال التي شمّر إليها السالكون، والتي لا سبيل إلى نيل ثمارها وبركاتها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظُمت تلك الشجرة ورسخ أصلها، كان ذلك أعظم لثمرتها وفائدتها، والذكر أصل كل مقام وقاعدته التي يُبنى عليها، كما يُبنى الحائط على أساسه، وكما يقوم السقف على جداره، ولم يحظ نمط من أنماط العبادة بعد أداء الفروض بالعناية الفائقة، مثل ما حظي به الذكر من قِبَلِ رجالات التصوف، فالذكر عندهم ركن أساسي وقوي، في طريق الحق I.

ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر، فبداية الطريق تتمثل في تزكية النفس وتطهير القلب، وهدف الطريق تحقيق الحب الإلهي، والوصول إلى معرفة الله تعالى، وكل ذلك لا يتأتّى إلا بدوام الذكر، والعبد إذا لم يستيقظ من غفلته فلا يمكنه قطع منازل السير الموصلة إلى معرفة الله تعالى، والتي خلق الله الإنسان لأجلها، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.

الذكر عند الإمام أبى العزائم 0 ظهرت أهميته فى كلامه المنثور والمنظوم وجوامع كلمه، فهو أساس السكينة والطمأنينة، ويبدأ بذكر الجوارح ثم الحقائق، وينتهي بذكر الله U، فيبين لنا فى هذه الحكمة، أن كل حقيقة فى الإنسان تذكر الله فتسكن الحقيقة التى بعدها وأعلى منها، حتى يُذكر الله تعالى، والذكر الأكبر أن يذكر العبدُ ربه حاضرًا معه، مشاهدًا لجماله العلىِّ وجلاله.

ذكر الله مواطن الرضوان

فإذا اطمأن قلب العبد بذكر الله، لا يجد أنسًا إلا به سبحانه، ولذلك يوالى ذكره فى كل أحواله، فإذا استلذ حلاوة الذكر سارع إلى مرضاة مولاه، فعمل ما يحبه ويرضاه بتوفيقه، ويفرغ قلبه لعبادة ربه سبحانه كما أمره، وهو يعلم أن كل العبادات إنما جعلت لغاية سامية وهى ذكر الله تعالى، لذا مدحهم سبحانه بقوله: )وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ( (الأحزاب: 35)، واعلم أن الغافل فى الذكر: شر من الغافل عن الذكر، وعلى هذا يكون ذكر الله: مواطن الرضوان، وذكر رسول الله: مواطن الغفران، وذكر ولى الله: مواطن الخير والرحمة وتنزل الإحسان.

ومعلوم أنه – كما يبين الإمام 0 – إذا لم يأكل الإنسان ويشرب، أليس يموت؟، كذلك القلب إذا فارق ذكر الله مات، وذكر القلب له درجات: أوله: النية، والثانى: الخشية والخوف، والثالث: المحبة والشوق، والرابع: الاصطلام، أما الذكر الأكبر: أن يذكر العبدُ ربه حاضرًا معه، مشاهدًا لجماله العلى وجلاله، قال تعالى فى الحديث القدسى: (من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى)، فالنفس: عبارة عن الوجود، والذكر: عبارة عن الشهود، وذكره لعبده: مدده الذى يكون به السعيد مسعود، وقال تعالى: )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ(، إشارة إلى ذكر القلب، )وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ( (البقرة: 152)، إشارة إلى ذكر الجوارح.

وذكر الجوارح يكون بالمحافظة على شعائر الله، والذكر أربعة: لفظة، فلذة، فخلوة، فجلوة، وكذلك يزيل عن الذاكر أربعة أمراض: النقطة، والسكتة، والنفاق، ومرض القلب، وقيل: إن الذكر نوعان: ذكر شهود، وذكر غيبة، ومن اطمأن قلبه بذكر الله، لا يأنس بسواه، ويسارع إلى رضاه، ولا يعبد إلا إياه، متى صحت حياة الروح، ذكرتَ الله قائما وقاعدًا ونائمًا؛ لأن الجسم لا بد له من النوم، والروح لا تنام إذا صحت حياتها الروحانية، قال تعالى: )الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ( (آل عمران: 191).

فذكر الله U إذن، هو محور الطريق والأساس فيه، وتكمن أهميته العظمى في ارتباطه بأسماء الله تعالى الحسنى، وبكل ما يتصل به من تسبيح وتعظيم، إذ إن عظمة الشيء تكمن في ارتباطه بالعظيم، ولذا كانت تجربة الحب الإلهي تجربة إنسانية رائعة، لا يدرك أبعادها ولا يعي مضامينها، إلا أولئك الذين عاشوا مشاعر الاستغراق في أبدية الحب والشوق الإلهي العميق، والذكر ضرورة ليس فقط في بداية الطريق، وإنما في جميع مراحله، وقد أجمع مشايخ الطريق أنه ليس للمريد دواء أسرع في جلاء قلبه من مداومة الذكر.

فضائل الذاكرين والذاكرات

لكثرة الذكر باللسان والقلب فضائل عظيمة وفوائد جليلة، نوجزها فيما يلي:

كسب رضا الله تعالى، ويكون سببًا في ذكر الله لعبده؛ فإذا ذكر اللهُ عبده، فإنه يتولّى شأنه، ويقضي حوائجه، ويلبيه عند ندائه، ويحفظه، ويكون في معيّته، كما أن ذكر الله تعالى فيه تنقية للقلب من شوائب الذنوب وأصدائها، وجلاء له من كل كدر، وطمأنينة له وراحة حتى وقت الشدائد، فالذكر أمان من عذاب الله تعالى والدخول فيمن أظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وبه الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة، وسبب في البعد عن الغفلة، ويجعل العبد متذكرًا لربه عندما يهمّ في فعل معصية، ثم يكون سببًا فى الحصول على المغفرة والأجر العظيم من الله U.

وكذلك من أهم ثمراته: الوصول إلى الجنة، مع رقّة القلب والتخلص من قساوته، وإقباله على الله من أجل القرب منه، وسبب في جلب الرزق، كما تجتمع فيه سهولته مع عظم ثوابه، وفيه أمان من النفاق؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، ويطرد الشيطان ووساوسه، ويضعف تسلطه على النفس، وكلما كان الذكر أكثر، ابتعد الشيطان عن المسلم أبعد، وفيه سبب لاجتماع الملائكة في المجلس الذي يُذكَر فيه الله، لتتحقق سعادة الذاكرين وجلسائهم، ويكون سببًا في إلهام اللسان النطقَ بالشهادة عند الموت، ومباهاة الله تعالى ملائكتَه بمجالس الذاكرين، وسبب في جلب النعم ودفع النقم.

وهناك العديد من النصوص الواردة الدالة على أفضلية الذكر، حيث قال J: (ألا أنبِّئُكُم بخَيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مَليكِكُم وأرفعِها في درَجاتِكُم، وخَيرٌ لكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخَيرٌ لكُم مِن أن تَلقوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضرِبوا أعناقَكُم)، قالوا: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: (ذِكرُ اللَّهِ) حديث صحيح، واشتراط الله تعالى كثرة الذكر عندما أمر به، ولم يشترط الكثرة في غيره من الأعمال، تميزه عن غيره باكتساب معية الله تعالى وتوفيقه.

وإذا كان ذكر اللسان حسنات، فإن ذكر القلب قربات ودرجات؛ لأن ذكر القلب هو حضور القلب ويقظته وحركته فى الفكر، وفى تزكية النفس، أو الاعتبار بالحوادث، أو التأمل فى مصنوعات الله تعالى، مما فى السماوات والأرض من أسرار القدرة وغوامض الحكمة، وما فيه من عجائب القدرة وغرائب الحكمة، وما فى مراتب الوجود من النسب والارتباطات، مما سُخر له وقام لأجله، وإذا أراد الله أن يوالى عبدًا فتح عليه باب ذكره، وإذا استلذ بالذكر فتح عليه باب القرب، يقول مولانا الإمام 0:

اذكُروا بالقلوبِ تُجلَى المعَـانِى

مُشرقاتٍ لكل صَبٍّ فـــــــــــان

واذكُروا بالعُقول تظهَــــــرُ آىُّ

تُشهدُ الروحَ غيبَ هذا الكيـَـان

واذكُروا اللهَ باليقينِ حُضُــــورًا

تَشهدُون الجَميلَ عَينَ العِيــــان

واذكُروهُ إن نَسِيتُم سِـــــــــــواهُ

كى ترَوْا وجْههُ بنُورِ البَيـــــان

إن ذَكرتُم ذُكرْتُمو فى مَقـــــــامٍ

تَشهَدونَ الغيُوبَ حَــال التدَانى

تفهَمون القرْآن عِلمًا يقِينًـــــــــا

من عَليم مُنزهٍ رحْمَـــــــــــــان

اذكرُوه حَال الفنَا باعتقـَـــــــــادٍ

يُشرقُ الوجْهُ نزِّهَن عن مَكـان

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …