أخبار عاجلة

هكذا تكلم لقمان (1)

لقد رأيتك اليوم يا بني تحدث قومًا عن الهمة العالية، وأعجبني حديثك كثيرًا، لكن ما ذكرته من مصاديق عن تلك الهمة لم يعجبني.. وربما لن يعجبك أيضًا إن عرفت سبب ذلك، وحدثتك عما ورد في النصوص المقدسة عنه….

أ. د. نور الدين أبو لحية

لقد رأيتك اليوم يا بني تحدث قومًا عن الهمة العالية، وأعجبني حديثك كثيرًا، لكن ما ذكرته من مصاديق عن تلك الهمة لم يعجبني.. وربما لن يعجبك أيضًا إن عرفت سبب ذلك، وحدثتك عما ورد في النصوص المقدسة عنه.

لا أريد أن أعيد عليك ما ذكرته؛ فأنت أدرى به مني، وأحسبك أخذت ما ذكرته من تلك الكتب الكثيرة التي تتحدث عن الهمم، وتذكر خلال حديثها عنها الفقراء الذين اغتنوا، والبسطاء الذين اشتهروا، والمهملين الذين صار لهم قيمة وجاه.

وكان لها أن تكون ذات قيمة علمية أكثر لو ذكرت أولئك الذين افتقروا بسبب حرصهم على الحق والخير.. أو أولئك الذين آثروا الخمول على الشهرة حرصًا على دينهم.. أو أولئك الذين آثروا المناصب الوضيعة على الرفيعة حرصًا على طهارة نفوسهم، وخوفًا من تدنسها.

كان لها أن تذكر أولئك الذين آثروا الحق على الباطل.. فأصابهم من إيثارهم له ما أصاب الأنبياء والأولياء من ضيق العيش وكدر الدنيا وتغير الناس..

كان لها أن تذكر موسى A الذي ترك جاه فرعون، وراح يبحث عن جاهه عند الله.. وترك قصر فرعون، وما فيه من الخدم والحشم، ليسير خائفًا مترقبًا إلى مدين، ويصبح راعي غنم، بعد أن كان معدودًا في حاشية فرعون المقربين.

مصعب بن عمير

وكان لها أن تذكر ذلك الصحابي الجليل مصعب بن عمير الذي ترك العز الذي يعيشه، ليلتحق بالإسلام، وهو في عز شبابه، ويتحمل الأذى بسببه، ومن أقرب الناس إليه .. ذلك الذي كان يبالغ في اهتمامه بمظهره وزينته وشعره قبل الإسلام، وكانت أمه الثرية تكسوه أحسن الثياب وأرقها، وتعطره بأجمل العطور وأغلاه، وكان رسول الله J يقول عند ذكره له: (ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)([1]).

لكن ذلك كله فارقه بعد إسلامه، فقد جهد ـ كما يذكر الرواة عنه ـ جهدًا شديدًا حتى إن جلده كان يتحشف كما يتحشف جلد الحية.. وقد روي أنه أقبل ذات يوم، والنبي J جالس في أصحابه، عليه قطعة نمرة قد وصلها بإهاب، فلما رآه أصحاب رسول الله J نكسوا رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم ما يغيرون عنه، فسلم فرد عليه النبي J، وأحسن عليه الثناء وقال: (الحمد لله ليقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا (يعني مصعبًا) وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيمًا منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله)([2]).

سلمان المحمدي

وكان لها أن تذكر سلمان المحمدي.. ذلك الذي ترك العز والجاه الذي كان يعيشه في ظلال والده الدهقان.. ثم سار في الأرض باحثًا عن الحقيقة إلى أن وجدها، بعد أن ابتلي بالعبودية في سبيلها.. وبعد أن وصل إليها عاش زاهدًا متواضعًا.. ولم يتاجر بالحق الذي ضحى في سبيله.. ولم ينل من المكاسب إلا ما امتلأ به قلبه من الإيمان، ولسانه من الحكمة.

وقد روي أنَّ سعدًا دخل عليه يعوده في مرض موته، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك، وترد على رسول الله J الحوض، وتُوفي رسول الله J وهو عنك راضٍ، فقال: (ما أبكى جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا؛ ولكنَّ رسول الله J عهد إلينا فقال: (ليكن بُلْغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، وهذه الأساود حولي ـ ولم يكن حوله حينها سوى مِطْهرة أو إِنجانة ونحوها.. عندما رأى سعد ذلك تأثر كثيرًا، ثم طلب منه أن ينصحه، فقال: (اذكر ربَّك عند همَّك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت)([3]).

هذه هي نماذج الهمم العالية التي افتقرت بعد الغنى، وذلت بعد العز، وضحت في سبيل روحها بكل ما يتطلبه جسدها من الراحة والعافية والسكون.

أما تلك التي اغتنت بعد فاقة.. أو عزت بعد ذل.. أو اشتهرت بعد خمول.. فقد لا يكون الحق أو الخير هو الذي أوصلها لذلك.. وإنما وصلت إليه بمعاندة الحق، واتباع سلوك أهل الباطل، ولذلك لم تكن جديرة بأن تكون أسوة لغيرها..

وقد ورد في الحديث أن رجلًا مر على رسول الله J، فقال لبعض من عنده يختبره: ما رأيك في هذا؟ فقال الرجل: هذا (رجل من أشراف النّاس، هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع)، فسكت رسول الله J، ثمّ مرّ رجل، فقال له رسول الله J: (ما رأيك في هذا؟) قال: (يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله)، فقال رسول الله J: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)([4]).

=========================

([1]) ابن سعد، الطبقات الكبرى: 3/ 116.

([2]) المرجع السابق، 3/ 82.

([3]) رواه ابن ماجة، 4104، وأبو نعيم في الحلية، حياة الصحابة (2/ 545).

([4]) قال الهيثمى فى مجمع الزوائد (8/ 83): رواه البزار واسناده حسن، وقال المنذرى فى الترغيب (3/ 561)، وقال: رواه الطبرانى والبزار وإسنادهما حسن.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …