أخبار عاجلة

مذكرة المرشدين والمسترشدين (14)

المريد الذي تمرض نفسه فيستر مرضه ويخفيه؛ حتى إذا ظهرت علاماته وكلمه فيه صديق له أو محب، نفر منه وعاداه وأنكر عليه ذلك، واشتغل بعيوب غيره فذلك ليس بمريد، إنما ذلك جاهل بنفسه عدو لها، سالك بها سبل الهلاك..

الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم

في تزكية النفس ووصايا للدعاة إلى الله

في أمراض النفوس وعلاجها:

نتكلم في هذا الموضوع على التأديب الذي يلزم أن يلاحظه المرشد في إرجاع صحة النفوس لها، وعلى التأديب الذي يجب أن يقوم به المريد لحفظ صحة نفسه عليها؛ لأن المريد مطالب بواجبات عليه يجب أن يقوم بها لنفسه قبل كل شيء؛ لأن المريد أعلم بنفسه وأحرص على نجاتها وعلى تكميلها وفوزها، وكل مريد سلك الطريق لا بد وأن يكون على علم من الأخلاق الجميلة والأخلاق السيئة ما لا يعلمه غيره ممَّن لم يسلك الطريق، ومن آمن بيوم القيامة الإيمان الكامل كان أهم شيء أمامه فوزه بنعيم الآخرة، ونجاته من عذاب النار، ولذلك فإنك ترى المريد المخلص أشغل الناس بعيوب نفسه، وأحرص الناس على المحافظة عليها من الوقوع في الأمراض أشد من حرص أهل الدنيا على صحة أبدانهم، وعلى حفظ أموالهم وحريمهم، بحيث إن المريد الصادق لو سقط سقطة، أو زل زلة، أو هفا هفوة، أو غضب، أو احتد، أو بخل بما لا يبقى، أو أسرف فيما ينفع، أو تهاون في واجب، أو تساهل في عمل فضيلة، تحقق أنه كاد أن يهلك، فأخذ يداوي نفسه إن علم الدواء بندم واستغفار، أو توبة وإنابة وعمل قربات، وخروج من مال للفقراء؛ حتى يتحقق أنه عالج نفسه مما ألم بها من مرض المعاصي والرذائل.

وإن كان حصل منه أمر دعاه إليه مرض في النفس من أمل أو طمع أو حرص أو حب علو في الأرض، أو تكاثر في الدنيا أو لسبب من أسباب المعاصي، كمجاورة من يفسد عليه حاله، أو نيل رزقه على يد قوم يسببون له أمراض النفس، أسرع إلى الطبيب الحاذق بأمراض النفس وهو المرشد الحقيقي، فرفع إليه الأمر بدون أن يستحي أو يخجل كما يكشف الرجل عورته والمرآة عورتها على الطبيب ليعرف المرض ويعالجه ويُفهم المرشد أنه يريد النجاة بأي دواء، فإذا كاشفه بحقيقة الأمر وظهر له أسباب المرض أمره بالعلاج النافع والدواء الناجع، فقبله منه فرحًا؛ لأنه وجد لمرضه دواء، وأسرع إلى استعمال الدواء مبادرًا بدون تأن ولا تأويل، هذا هو الواجب على المريد، ومن كان هكذا في بدايته فاز بأمرين عظيمين:

الأمر الأول: أنه يكون طبيبًا حاذقًا.

الأمر الثاني: أنه يكون وارثًا من ورثة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – متصفًا بصفات التوابين المتطهرين، منعمًا عليه بمحبة الله تعالى.

علامات أمراض النفس:

أما المريد الذي تمرض نفسه فيستر مرضه ويخفيه؛ حتى إذا ظهرت علاماته وكلمه فيه صديق له أو محب، نفر منه وعاداه وأنكر عليه ذلك، واشتغل بعيوب غيره فذلك ليس بمريد، إنما ذلك جاهل بنفسه عدو لها، سالك بها سبل الهلاك.

قلتُ: ظهرت علامات أمراض النفس – هل لأمراض النفس علامات؟.. نعم لها علامات، كما أن لأمراض الجسم علامات، فإنك ترى الجسم إذا مرض فإن قد يتغير عقل المريض، ولا تكون آراؤه صحيحة، وقد يعتريه النسيان والذهول وإنكار نفسه وأقاربه وأهله وتلك من مرض الجسم.

وكذلك إذا مرضت النفس بعشق شهواني، أو بعمل معاصي شهوانية، أو بغلّ وحسد، أو مرضت النفس بمرض الغضب والحماقة، أو بالحزن أو بغير ذلك، فإن الجسم يصفر ويرتعد ويضعف، وتنقص قوته وتقل شهواته، كما قدمنا من أن قوة العقل والفكر تضعف بضعف البدن، كذلك يضعف الجسم بمرض النفس، وأمراض النفس لا تخفى على المتوسمين.

 أمراض النفس:

تمرض النفس لأمرين عظيمين:

الأمر الأول: اختلاف تركيب الجسم أو فساد المزاج.

الأمر الثاني: من سوء الاعتقاد والعياذ بالله تعالى.

أنواع تلك الأمراض:

أولًا – أنواع اختلاف التركيب وسوء المزاج:

1- فساد الرأي.

2- البله.

3- الحيرة في الأمر البسيط.

4- ضعف الذاكرة.

5- عدم الفكر في غد.

6- التهيج مما لا يتهيج منه.

7- الغلو في كل شيء حبًّا أو بغضًا، مدحًا أو ذمًّا.

8- الشره.

9- فساد التخيل؛ وهي أهمها.

ثانيًا – أنواع فساد النفس من جهة فساد العقيدة:

1- الجدل.

2- إنكار غير المحسوس.

3- الشك في يوم القيامة.

4- حصر الملاذ في تلك الحياة الدنيا.

5- الحرص على الدنيا.

6- حب المرء ذاته حبًّا يجعله يعق والديه، يقطع الرحم، يسيء إلى المحسن، يتمنى زوال نعم غيره ونوالها لنفسه.

7- البخل بالمال؛ حتى على النفس.

8- ومن أمراضها: بذل الفضائل لاكتساب شهواتها.

9- التجرد من الحياء.

10- التهكم بالعلماء العاملين والعباد الزاهدين.

11- تقبيح مجاهدة النفس وحبسها عن الشهوات والرذائل.

12- غلوه في الحب لذاته غلوًّا يجعله يرى كل ما هو عليه فضائل وكمالات، وإن كانت من أرذل الرذائل.

13- التلذذ بفعل الفواحش والمنكرات.

14- الفرح بالانتقام والأذية.

15- ومن أمراضها: الجبن لخوفه على نفسه من الموت لاعتقاده أنه يموت ويفارق الملاذ والكرامات.

16- اليأس عند أقل مؤلم.

17- القنوط عند فقد الأسباب لجهله بالله تعالى.

18- ومن أمراضها: التملق والتذلل عند الاحتياج، والغرور والطيش والكبر عند عدم الاحتياج لجهله بالمستقبل.

19- ومن أمراضها: الكذب تخلصًا من المؤلم، أو انتقامًا من عدو جهلًا بيوم الحساب.

20- الغيبة والنميمة للإفساد بين الناس لينال خيرًا لنفسه.

21- ومن أمراضها: التجمل للخلق، والغفلة عن تجمل السريرة للحق؛ لأنه لم يؤمن بيوم القيامة.

22- ومن أمراضها: الذل والتملق لمن يظن أنه ينفعه أو يضره في دنيا، والمسارعة إلى رضاه ولَو في معصية الله لسوء ظنه بالرزاق المقدر؛ حتى قد يبلغ به أن يستعمله من له عليه نعمة أو رياسة في عمل أكبر الكبائر، كأذية الخلق أو شهادة الزور أو التجسس والتحسس، أو الاشتراك معه في عمل الفواحش وارتكاب الرذائل، ويفرح المسكين بذلك ويرى في نفسه أنه وثق برزقه وضمن سعادته وأذل عدوه ونفع حبيبه، وينسى أنه سقط إلى مكان سحيق وانحط عن المرتبة الإنسانية إلى أقل من رتبة الحيوانات الداجنة، واستحق مقت الله وغضبه وأليم العذاب يوم القيامة.

علاج تلك الأمراض:

أولًا: علاج الأمراض الناتجة عن اختلاف التركيب أو انحراف المزاج:

1- أهم علاج لاختلاف التركيب:

فأهم علاج لاختلاف التركيب أن يعتني بالطفل من صغره، فيعلم ما يستطيع تعلُّمه من الحرف النافعة لمعاشه التي تستغرق وقته نهارًا في شغل، ثم يلقن أركان الإيمان وأركان الإسلام، ثم تفصل له – من أركان الإيمان – الآخرة بمُثُلٍ تنقش في نفسه من صغره، تجعله يشتاق إلى النعيم فيعمل لنواله، ويخاف من العذاب فيتباعد عما يوقعه فيه، ثم يلاحظ أن يُمَرَّنَ على الأعمال الواجبة شرعًا من الصلاة وغيرها من أول ما تندب عليه، ويحافظ عليه من صحبة الأشرار والفجار ليكون أبعد عن موجبات أمراض نفسه المفطور عليها.

ومثل هذا لا دواء له إلا الرضا منه بما أهل له، وعدم مطالبته بما لا طاقة له عليه، من أعمال الفكر والتدبير والتبحر في العلم، وخير له أن يعيش بين نظرائه في العلم والفكر بشرط أن يكونوا أتقياء، وأن يكلف بكثرة الأذكار والأعمال البدنية ليشتغل بها عما يوقعه في المرض، كما يتحفظ على الأطفال والصبيان من الوقوع فيما يضر أبدانهم.

2- علاج أمراض النفس الناتجة عن انحراف المزاج:

تقدم بعض أنواع تلك الأمراض، وأهم علاج لها: العناية باعتدال الأمزجة، ورد الصحة على الجسم، وهذا منوط بفن الطب الجسماني.

ثانيا: علاج أمراض النفس الناتجة عن فساد الاعتقاد:

اختلف العلماء في هذا الموضوع فمنهم من رأى أن الإنسان يتخذ له صاحبًا يسأله عن علوم نفسه، وليست هذه بالطريقة المهيئة للشفاء، واستحسن بعضهم أن يعلم عيوبه من عدوه، وإني أرى أن هذا الدواء لا ينفع إلا للأخيار؛ لأنه لا ينتفع من عدوه إلا الرجل التقي الورع، وأرى أكثر الناس يتغالى كل واحد في إذلال عدوه، ونسبة عيوب له ليست فيه لمهانته وعداوة الناس له. ولذلك فليس هو الدواء الوحيد إلا للكامل العالم الذي إذا سمع عدوه ينسب إليه عيبًا من العيوب بادر بمحوه واستبداله بفضيلة ومكرمة، كما إذا رأى في عينيه قذى أو على وجهه أوساخًا بنظره في المرآة، بادر إلى نظافة وجهه، وإني إذا تكلمت في هذا الموضوع فإنما أتكلم عن تجربة في نفسي، ومعرفة بآداب أهل التقوى والصلاح من السلف وممن عاصرتهم، وعن خبرة ومزاولة لأمراض النفوس وأخذ في علاجها.

لما كان علم الطب الجسماني يراد منه أمران: حفظ الصحة وردها إذا فقدت، وكان حفظ الصحة على الجسم يقتضي التوسط فيما لا بد منه للجسم، والمحافظة عليه مما لا يتحمله، والعناية بمواد الأغذية من جهة النظافة والجودة والسهولة والمقدار، ومراعاة الوقت المناسب، والبعد عن المؤثرات الشديدة، كل تلك لازمة لحفظ الصحة الجسمانية، فكذلك ينبغي لصحيح النفس أن يجتهد في حفظ صحتها عليها، باستعمال ما أوجبه عليه الشرع بنسبه ومقاديره في أوقاته، من عبادات وأخلاق واعتقادات ومعاملات بحيث لا يتهاون فيسبب مرض النفاق والقطيعة والبعد، ولا يتغالى فيقع في الفتن والضلال ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ (الفرقان: 67)، وأن يتباعد بكل ما في وسعه عن المبتلين بالأمراض النفسانية، كأهل الجدل والإنكار والفساد وغيرها، وعن أهل الشغف بالملاذ الحيوانية، وعن مطالعة سيرهم وأخبارهم، ويتباعد عن أهل الخبث المفسدين وأهل الشر المضلين، فإنه قد يقع في أمراضهم من حيث لا يشعر بمجرد مجالستهم، وذلك لأنه لصحة نفسه أول ما يقع نظره عليهم يرى فيهم علامات الأمراض والسقم، كما يحس الإنسان من الآخر بمرض الجسم بعلامات المرض، فكذلك صحيح النفس إذا جلس مع مريضها أنكر عليه، ومريض النفس يرى أن الصحيح الحقيقي مريض فيحصل الإنكار من كل على الآخر فيكون بمجرد جلوسه معه مرض بمرضه، فعلى صحيح النفس أن يتباعد عن مرضى النفوس إلا إذا جاءه مريض النفس فشكى إليه مرضه، وطلب منه دواءه.

العناية بحفظ الصحة على النفس:

ومن العجب أن الرجل الصحيح النفس يهمل صحته؛ حتى يقع في الأمراض، لأن أمراض الأجسام يشعر صاحبها بألم يدعوه إلى الطبيب، وأما أمراض النفوس فقد يحصل منها اللذة للنفس والأنس لها؛ لأن غالب أمراض النفوس مما يلائم النفوس، فينسى الرجل قبائحه ويغفل عن دواء نفسه، وإذا ذكره أخوه بعيوب نفسه قذفه وعاداه وهو يظن – المسكين – أنه على أكمل الفضائل وأجمل الأخلاق، ناسيًا أمراض نفسه لحبه لنفسه، فتجب العناية بحفظ الصحة على النفس خشية من الوقوع في المرض.

العلاج عند حصول المرض:

فإذا حصل للنفس مرض من الأمراض السابقة فعلاج ذلك محصور في أمرين أساسهما العلم:

الأمر الأول: أن يبادر من حصلت منه المخالفة للمرشد – إن كان مسترشدًا – فيعرض عليه أمره، ثم بعمل مَا يكلفه به مما هو شفاء لنفسه، وتوبة من ذنبه، غير خجل ولا مستتر، فإن أصحاب رسول الله J كان الرجل منهم إذا نسى أو أخطأ رفع الأمر إلى رسول الله J، وقام فنجز ما يكلفه به، فمنهم من يقول: زنيتُ يا رسول الله، وغير ذلك مما قلَّ أو كثر. فإذا خجل المخالف، أو رأى أن رفع الأمر للمرشد فضيحة تهاون بيوم القيامة وجهل الفضيحة فيه، ودعاه التساهل بصغير المخالفة إلى الوقوع في كبيرها؛ حتى قد تبلغ به الحالة إلى أن يترك عمل الواجبات. أما إذا كان ليس له مرشد بأن كان من العلماء، أو كان من القائمين بالدعوة إلى الله، فالواجب عليه إذا رأى نفسه أوقعته في الحماقة والغضب والعداوة بين الناس، أن يبادر بأن يتعرض لسفيه أحمق يسبه أمام الناس ويتحمل ذلك ويفرح، ليعالج نفسه ويرد عليها صحتها، أو يبادر بأن يبذل نفسه لمن كان يعظمه ويقبل يده ويخدمه، ويتوب مجاهدًا بترك تلك الصفة القبيحة، وإن شعر منها بحب الشهرة والسمعة بادر بأن يعرض عليها مبدأها ونهايتها وحقارة الدنيا وزوالها.

الأمر الثاني: وأكمل دواء للنفس المبادرة بتلقي علوم الدين من أهل اليقين، الذين يعلِّمون الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعونهم إلى الله على بصيرة، ويجعلون أساس دعوتهم كشف عناية الله بهم وإظهار آياته في الآفاق وفي أنفسهم بطريق مقنع، ويبينون أسرار الصورة الإنسانية، وما احتوت عليه من غرائب الحكمة وعجائب القدرة، وكيف كان مبدؤها من آيات القرآن بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنون: 12).

ويتباعد في الدعوة عن غير ذلك بذكر عناية الله تعالى وإبداعه للعالم كله، وهو الأمر الجامع، حتى إذا اطمأنت القلوب وانشرحت، دعاهم بعد ذلك إلى التصديق بالآخرة ويبين لهم حقارة الدنيا وزوالها، ودعاهم لمعرفة أنفسهم وما به تكميلها وسعادتها.. وهذه هي طريق القرآن في الدعوة، وسبل رسل الله صلوات الله عليهم في الدلالة والبيان.

فاقرأ أيها الأخ البار كتاب الله متدبرًا، وتأمل قصصه متفكرًا، واعتبر بتكرار أخبار الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأساليب البيان، وحكم التبيان الجلية لكل ذي بصيرة في كل مكرر القرآن، يظهر لنور سرك ساطع حجج القرآن الكريم، وجليّ نور براهينه، وما حث فكرك عليه، وما نبه قلبك إليه، وما دعاك إلى تدبره والنظر فيه من الآيات الدالة على كمال عنايته، والحجج المؤيدة أنه هو المبدع الخلاق.

فإذا زكت نفسك أيها الأخ المؤمن، وتناولت من سلسبيل القرآن الشريف، ومن كافور كلام رسول الله J سكنت نفسك، واطمأن قلبك، وانشرح صدرك، ودعاك سرك دعوة الحق إلى الحق، وانكشفت لك سيما الناس، فعلمت بسيماهم مقادير استعدادهم وفطر نفوسهم، فدعوت عباد الله إلى الله بالحكمة والموعظة على قدر النفوس ومناسبات العقول، ناهجًا على الطريق المستقيم، لا تميز بين المسلم وغيره مادمت تجعل أساس دعوتك طريق القرآن العظيم.

وأحذر يا أخي – أيدني الله وإياك بما أيد به الصديقين والشهداء من عباده الصالحين – أن تتجاوز هذا الطريق في الدعوة والإرشاد، وأن تسلك مسالك النظار بعقولهم فتفتح أبواب الجدل والشكوك والريب، فتكون من الفتانين التائهين في بيداء الغفلة، وتحقق أن كل من أراد أن يجادل أو يعارض فهو عدو لأخوَّة المؤمنين محروم من التصديق واليقين، والأولى الإعراض عنه وعدم العناية به، فإنك إن أعرضت عنه هلك وحده، وإن جاريته في الجدل والمعارضة ربما هلك وأهلك معه كثيرين، والله أسأل أن يهدينا بالقرآن، ويعصمنا بسنة رسول الله J آمين.

أسباب مفسدات النفس:

اعلم أيها الأخ – روَّحني الله وإياك بروح العناية والولاية وريحان الإحسان والرضوان – أن أمهات الخطايا التي بها لُعِنَ إبليس، وأُخرج أبونا آدم من الجنة، وَقَتل قابيل أخاه هابيل ترجع إلى أصول الكبائر وهي:

1- الكبر: الذي أوقع إبليس في القطيعة واللعنة.

2- الطمع: الذي هو سبب المعصية لأبينا آدم، وأُهْبِطَ بسببه من الجنة؛ لأنه طمع في الخلود في الجنة.

3- الحسد: الذي دعا قابيل أن يقتل هابيل حسدًا له على النعمة عليه بأخت قابيل.

وما من رذيلة من الرذائل إلا وهي ترجع إلى أصل من تلك الأصول، فإذا حفظ الله العبد من تلك البليات الثلاث وفروعها كان وهو في الدنيا من أهل الآخرة، وقد بين لنا رسول اللهJ تلك المعاني بكلمة هي الحصن الحقيقي للسلامة بقوله J: (حبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئةٍ).

ليس المراد ترك الأسباب في الدنيا:

لعلك أيها الأخ تظن أن المراد من ذلك ترك الأسباب في الدنيا، وعدم العمل فيها وخرابها، لا، إنما المراد من ذلك أن الدنيا هي عبارة عن الدون، ومعنى هذه اللفظة: أمور الشرور والرذائل المنتجة للمضار والمفاسد، التي أصولها: الكبر والحرص والحسد، وكيف لا؟ وقد جعل الله تعالى تلك الدار محل التكاليف والتعريف والتقرب والإسلام والإيمان والإحسان، والعمل للسعادة الأبدية، والجهاد في سبيل الله وإطاعة أمره، والقيام بنصرة الحق وتأييده بالنفس والمال والعلم.

أوجب عليك فيها الزكاة، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وإكرام الجيران، ومعاونة الفقراء، والحج، والجهاد، وعتق الرقاب، والدية عند اللزوم، ولا يتحقق شيء من ذلك إلا بالمال، فجعل المال سبيلًا من سبل الوصول إليه، وبابًا من أبواب الإقبال على حضرته العلية؛ حتى قال سبحانه: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ (البقرة: 245،) وقال سبحانه: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ (التغابن: 17).

فلا تظنن أن المذموم العمل في الدنيا واكتساب الأموال، والاجتهاد في عمل المصنوعات المفيدة للدين، والمخترعات المعينة لجماعة المسلمين، والسعي في تقديم التجارات والزراعات، فإن ذلك كله – مادمت لم تخرج فيه عن الوسط الشرعي، ولم تقصد به إلا الخير لنفسك وأهلك وإخوانك المسلمين جميعًا، والعمل لله كما أمر – فإنك أيها الأخ المخلص لست من أهل الدنيا بل من أهل الآخرة وأنت في زراعتك وتجارتك، قال الله تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ (النور: 37).

وكان J يبتاع لنفسه ما يلزم، وكان أبو بكر الصديق 0 وكثير من أئمة الصحابة يتجرون، وكان عمر بن الخطاب وكثير من الصحابة يشتغلون بحراثة الأرض وهم المعنيون بقوله تعالى: ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ فلم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ولا عن إقام الصلاة، وهم في التجارة. فاعمل في الدنيا أيها الأخ للآخرة، واعمل في الآخرة لله، لتقوم بما أوجبه الله عليك، وتتقرب إليه بما رغبك فيه قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ (التوبة: 111).

إذا كان أهل التقوى وأهل الدين المخلصون في عبادة الله وطاعته، العاملون بسنة رسول الله J، والغيورون عليها، يهملون الوجه الذي به حفظ نصرة الدين وقوة أهله وإقامة حدوده وإذلال أعدائه، من العمل النافع للدنيا، وفي جمع الأموال لتكون خزنًا لله وخزنًا لجماعة المسلمين، ومن إتقان الصنائع والفنون لعمل الحصون النافعة لحماية الثغور ودفع أهل الفجور، ولراحة المسلمين من الأشرار، من الذي يقوم بالدنيا؟.. أيقوم بها الذين يجمعونها لحظهم وهواهم، ويقوم بها المترفون الذين لا خلاق لهم المنهمكون في الحظوظ والشهوات؟ أو يقوم بها الفساق الذين هم أشر على المسلمين من أعدائهم؟ فتكون عونًا لهم على عمل المعاصي والمظاهرة بالإنكار على أهل الحق ومعاداتهم، والإعانة على أذيتهم وإذلالهم.

فيا أيها الإخوان – تدبروا في كتاب الله تعالى، وفي كتاب رسوله o، واعملوا للآخرة العمل الذي أمر الله به؛ حتى تذوقوا حلاوة قوله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ (الحديد: 17-19) هذا هو الصراط المستقيم الموصل إلى حضرة الله، والمبلغ إلى دار كرامة الله، فالسالك حقًّا من سلك على محجة الطريق، وقام عاملًا لله، نافعًا عباد الله قدر ما وهبه من قوة في جسم، أو وسعة في رزق، أو مزيد من علم، أو فضل جاه؛ حتى يكون عمل بالدين كله، ويتحقق بما تحقق به الراسخون في العلم من قوله تعالى: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (آل عمران: 7).

قد أفلح من تزكى:

فإذا جاهدت نفسك حتى تزكت؛ فقد أفلحت، فامش في الناس عاملًا عمل أهل الدنيا غير خائف فإنك في الآخرة. دليل ذلك من كتاب الله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ (الروم: 122) فالميت من زكى نفسه حتى صار من أهل الملكوت الأعلى، فجعل الله له نورًا من اليقين والعلم والفقه يمشي به في الناس آمنًا لانكشاف الحق له وبيانه، فلا يضره مشيه في الناس وعمله معهم؛ لأنه ينفعهم النفع الحقيقي وينفع نفسه.

دواعي الذنوب والكبائر:

ظهر لك يا أخي مما تقدم أن الذنوب كلها ناتجة: إما عن اعتقادات، أو عن أعمال البشرية، أو أقوال، وَأشَّرُّها ما كان عن اعتقادات؛ لأنها تشبه كبائر إبليس من الاعتقادات والأخلاق، وهي الموبقة المخلدة في النار. والمعاصي التي هي أعمال؛ إما أن يدعو إليها شهوة حيوانية فهي كبائر ولها حدود وزواجر في أحكام الشرع. وإن كانت ناتجة عن خبث في الضمير فهي من أعمال إبليس أيضًا، كقتل المسلم عمدًا وكعمل المكائد التي تؤدي إلى إهلاك النفوس والسعي بالغيبة والنميمة لحصول المضار والمفاسد، فإنها – وإن كانت أقوال وأعمال بالجوارح – إلا أنها عن صفات إبليس.

فحافظ يا أخي على نفسك أن تقع في كبيرة من تلك الكبائر، واجتنبها مرة واحدة، قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ (النساء: 31).

بيان الكبائر:

وإليك بيان الكبائر – وإن كُنتُ قد بينتُها في كتاب: ” شراب الأرواح “:

1- كبائر القلب أربع:

أ- الشرك.

ب- الإصرار على المعصية.

ج- القنوط من رحمة الله.

د- أمن جانب الله.

2- كبائر اللسان أربع:

أ- شهادة الزور.

ب- قذف المحصن المسلم البالغ.

ج- اليمين الغموس ([i]).

د- السحر.

كبائر البطن ثلاث:

أ- شرب الخمر وكل مسكر.

ب- أكل مال اليتيم ظلمًا.

ج- أكل الربا مع العلم.

كبائر الفرج اثنتان:

أ- الزنا   ب- عمل قوم لوط.

كبائر اليدين اثنتان:

أ- القتل.   ب- السرقة.

كبيرة الرجلين: الفرار يوم الزحف بغير وجه شرعي.

كبيرة الجسم كله: العقوق.

======================

([i]) اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة، وسميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وفي الحديث الشريف: (اليمين الغموس تذر الديار بلاقع).

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

أضواء حول السر المستودع في السيدة الزهراء عليها السلام

حقيقة السر المستودع يظهر من خلال عدة احتمالات نحتملها في كونها هي مفاد السر المستودع، …